ما الذي يمكن أن يجمع بين الأجيال العربية الجديدة؟ سؤال يفرضه واقع التشتت الذي لم تستطع التربية العربية المعاصرة تجاوزه بخلق جيل موحد التكوين والثقافة ورؤية العالم، تحت تأثير تدخل وسائط التواصل الاجتماعي التي باتت تنافس التدخلات التقليدية في
في غياب القدرة على الإمساك بدفة الرقامة العربية وتوجيهها لتكوين أجيال جديدة قادرة على الانخراط بشكل إيجابي وفعال في العصر الرقمي، ترك حبل العشوائية على غارب الإبحار التائه في الفضاء الافتراضي أمام أطفالنا، فلم يتصيدوا فيه غير ما هو بسيط وتافه وضار، سواء على مستوى الصحة الجسدية (الإدمان، ضعف البصر…) والعقلية (الخواء الفكري، وتزجية الوقت…) واتخاذ النماذج التافهة مثالا يقتدى. إن ما يجمع بين أطفالنا وتلامذتنا، وهم ينخرطون في الفضاء الافتراضي، هو متابعة عوالم كرة القدم، والألعاب، والفرجة الساذجة، والضحك «الباسل» بالمعنى المغربي، واقتناص البرمجيات الضارة. ولو كانت الفئة المتضررة من هذا الفضاء هي الأقلية، لما كان هذا يثير كل هذا الاهتمام. إنها الأغلبية الساحقة. أما الفئة التي تستفيد منه، وتوظفه في ما يفيد فلا تمثل سوى أقلية نادرة جدا. وهي لحسن الحظ موجودة.
كانت الكتب والمجلات الأدبية والثقافية والفكرية هي ما وحّد أجيال النصف الثاني من القرن العشرين مغربيا وعربيا. فكانت اهتماماتهم المعرفية مشتركة. جعلت كتب ومجلات الأطفال وبرامج التلفزيون الثقافية، والتي كانت تتداول عربيا، وتتبادلها قنوات التلفزيون الواحدة في مختلف الأقطار العربية أجيالا عديدة تمتلك معرفة موحدة. مَن مِن الجيل الجديد يعرف جبران أو المنفلوطي أو عبد الحليم عبد الله؟ من منا لم يقرأ قصص محمد عطية الإبراشي، أو سميرة بنت الجزيرة العربية على سبيل التمثيل؟ ويمكننا قول الشيء نفسه عن الروايات الفرنسية والأمريكية المترجمة وغيرها.
ما هي كتب الأطفال المتداولة حاليا على الصعيد العربي؟ ومَن ِمن الكتاب العرب استطاع فرض نفسه على ذائقة أطفالنا؟ وما هي العناية التي نوليها للأحداث بصفة عامة؟ أسئلة كثيرة يفرضها علينا واقع الطفل العربي في العصر الرقمي. كنت في نهاية التسعينيات مولعا بشراء كل ما يتصل بالمجلات الأجنبية والعربية المتصلة بالأخبار الإلكترونية وأسواقها. وكانت كل المجلات تتضمن في كل عدد منها قرصا مدمجا أو قرصين يحتويان على جديد التطبيقات والبرمجيات والموسوعات المتعددة. وكانت من بينها برمجيات ومكتبات موجهة للأطفال، خاصة بالفرنسية أو الإنكليزية، سواء على مستوى الشكل أو المضمون. مع ظهور الجيل الأول من الفضاء الشبكي والثاني اختفت هذه الإصدارات، وصارت وسائط التواصل الاجتماعي هي المهيمنة. حتى المواقع المختصة وذات المعرفة المتطورة لا يتعرف عليها، ولا يتابعها غير المعنيين من المختصين. صارت هذه «الوسائط المتفاعلة الشعبية» كما أسميها لأني لا أراها وسائل للتواصل الاجتماعي، لكن أدوات للخلوة الفردية؟ لا تختلف عن جرائد الرصيف، وكتب الفضائح التي كانت منتشرة في ما مضى إلا من حيث الوسيط الذي توظفه.
كيف يمكننا تجاوز هذا الوضع الذي لا يستفيد منه أطفالنا وتلامذتنا؟ هل تمكينهم من الهاتف واللوحة الإلكترونية وتركهم نهب المتاهة الرقمية هو السبيل لجعلهم أبناء عصرهم؟ يخوض علماء التربية والإنسانيات الرقمية عالميا في نقاشات حول هذا الموضوع، الذي بات يفرض نفسه بإلحاح. على المستوى العربي ما يزال هذا النقاش بعيدا عن تشكيل رؤية موحدة، وإن كان الإحساس بأهميته مطروحا. ماذا لو استفدنا من تجربة الكتابة التي كانت موجهة للأطفال في تاريخنا الحديث، ومما كان متداولا في تعليمنا العتيق، الذي كان يجمع في كتاب واحد ما على التلميذ والطالب أن يستفيد منه لتشكيل خلفية معرفية تؤهله لتكوين شخصيته اللغوية والثقافية.
أشير هنا من بين الكتب إلى كتاب «جامع مهمات المتون» الذي كان يضم ستة وستين متنا من مختلف المعارف العربية، بالإضافة إلى نصوص إبداعية لشعراء المعلقات تكون بمثابة الأصول التي على المتعلم أن يتعرف عليها؟ ماذا لو عملنا على إنشاء لوحة إلكترونية عربية تسهر على إعدادها لجنة عربية موسعة تضم مختصين في معارف متعددة، وفي صناعة البرمجيات، وتوجه إلى أطفالنا من الروض إلى مرحلة الإعدادي، وتستوعب مختلف المجالات التي يحتاج إليها الحدث العربي، من الرسم والخط والكتابة والحساب، إلى قراء ة الكتب وسماعها وإبداعها. لوحة إلكترونية ليست فقط مادة لتقديم معلومات واختبارها في مختلف المجالات، لكن أيضا فضاء للعب والكتابة والإبداع، وتسجيل الملاحظات وتنظيم الوقت، وما شابه. لوحة جامعة مبسطة ومرنة، بكل معاني الكلمة، تقدم كل ما يحتاج إليه المتعلم العربي، وتضم إلى جانب المعلومات في مختلف المجالات والاختصاصات لغات أجنبية، ويكون ثمنها في متناول كل الأسر، ويمكن أن يستفيد منها حتى الآباء والأمهات الذين لم يحاربوا الأمية.
كثيرا ما نتحدث عن العصر الرقمي، لكن مجهوداتنا في الحديث تفتقر إلى الفعل الرقمي.