تبئر الكاتبة
المغربية زهرة عزّ منجزها القصصيّ الأول باستعارة كبري مفصلية، (أقصد هنا
الاستعارة بمعناها اللفظي الإبتيمولوجي لا البلاغي) تحدد الطبيعة الجنسية للنص،
وتتحكم في نسقه التوليدي والتوليفي والجمالي، إن علي مستوي الشكل السردي أو علي
مستوي المكونات الموضوعية المتناولة، وهي في تقديري الشخصي، استعارة مفكر فيها
بشكل قصدي واع انبثاقا عن روية وطموح تصوري يقرن الكتابة الإبداعية بمشروع متكامل
ومتنام له بداية وغاية وسيرورة. ويتعلق الأمر ببؤرة العنونة، التي تم فيها التناص
مع عنونة شهيرة لرواية معروفة لدي القارئ العربي؛ وهي رواية »وليمة
لأعشاب البحر». وتوحي ملاحظة العنونة، بالنسبة لقارئ عادي، عن السر في إحالة الكاتبة
متلقيها علي عنوان معروف، راشح بتعديل طفيف شاب أحد مقولاته، وهو استبدال مفردة
(البحر) (الحلم) علما بأنهما يوحيان بالدلالة نفسها تقريبا، إذا ما اعتبرنا البحر
دالا استعارياً قوياً علي الانفتاح، واتساع الأفق، وشساعة الأمداء...
وبغض النظر عن الأسئلة البدَهيّة التي ترتبط بهذا الاستلاف التناصيّ الغميس من قبيل المختلف والمشترك بين النصين، وإمكانية ترابطهما من حيث الصيغة أو المضمون، فإن هناك اتصالا واعيا بالنص الأصلي، وإعجابا بمستوي من مستوياته المرجعية، مثلما هناك تواصل غير واع بذاك النص الروائي الذي كتب عنه الكثير في حينه، وهذا ما يحتاج وقفة تحليلية مطولة تتناول البني والدّوالّ اعتمادا علي مقاربة النسق والتمثيلات والحقول الدلالية والمعجمية، علما أنّ النصين مختلفان من حيث التجنيس، فالنص الأول (رواية) فيما يشكل الثاني (مجموعة قصصية)، مؤتلفان من حيث اعتمادهما عنصر السرد .
1. من القصة إلي الرواية:
تكتب القاصة نصوصها ووعيها مرتبط بجنس أعم هو جنس الرواية، ذلك أنها تحرص في كل مرة علي انتهاك خصوصيات النص القصصي، وكسر طوقه ثم العبور إلي الرواية، وكأنها تجد في بشكل غير مفكر فيه، وعاء القص غير قادر علي استيعاب مخزونها من الحكي الذي يتسع لديها، بين الفينة والأخري، لاستقطاب مسرودات أخر تستقر في الذاكرة، وتتراكم في الخيال. فتترسخ لدي فكرة أن محكي القصة مغتال بتبنيها لتجنيس قصصي، أو مؤجل إلي نصوص أخري، أو لعله يطفح بشكل غير مباشر في نصوص مجاورة كما يحدث هنا في بعض النصوص التي تصبح تكملة لغيرها أو ترتبط معها في بعض الجوانب والخصوصيّات.
وإذا ما تجاوزنا عنصر الطول أو الحجم في النص، والذي يعتبر عنصرا مشتركا بين كافة القصص، وهو أمر لا يؤكد الخصوصية الروائية دائما إلا علي سبيل الاستئناس، فإن هناك أمورا واضحة لا غبار عليها، تمثل الجنس الروائي، ومنها التفصيل الدقيق سواء في السرد أو الوصف، وهو أمر لا يستقيم في الجنس القصصي الذي من أهم خصيصاته النوعية الكثافة والتركيز والاختصار والتلميح والإحالة بدل الفضح والإطالة والتفصيل، وهذا لا يعني أن الكاتبة غير واعية بهذه المعطيات، لكنها، وبحكم ميولها اللا واعية، تجد نفسها منساقة وراء الموضوع، منقبة في تشعباته، وحيثياته بما لا يسعه الجنس القصصي العصي.
ومن المشيرات الدالة علي هذا البعد الروائي، الترابط بين بعض قصص المجموعة في جانب من الجوانب الموضوعية أو الشكلية مثل اعتماد الثيمة نفسها، أو إعطاء أسماء بعينها وصفات نفسها لشخصيات في قصص متعددة، وكأن القصة تكمل الأخري، وهي تقنية قلما تحدث في الجنس القصصي الذي يعمد نصا واحدا مستقلا تكتمل فيه عناصر سردية محددة، كوحدة الموضوع، وحدة الشخصية، وحدة الزمان، وحدة المكان، ووضعيتين؛ الأولي بدئية وأخري نهائية (أمثل لذلك بحضور شخصية الزاهية في النصين الأولين اأحلام لا تشيخب واأحلام الزاهية»، وبنفس التمظهرات تقريبا، وكأن النص الأول تمهيدا للثاني.
كما أننا نجد قصصا أخري تدور أحداثها في المكان نفسه والزمان عينه، متناولة أحيانا الموضوعات ذاتها، بما يوحي بأن القاصة تشتغل بمنطق السرد الروائي من خلال استحضارها لمتعة تشكل النوع في كليته، والتفكير في الصياغة الكلية للعالم السردي، والاشتغال بمفهوم النسقية بين النصوص، حتي أنه لولا عتبة التعيين الجنسيّ المدرجة علي الغلاف، لاعتقد كثيرون أن النص ينخرط في المحكيات الروائية لا القصصية. ويعزز ذلك مستوي بنية الجملة التي تطول، وتتعقد، وتتراكب وتتداخل، ضدا علي نسق الجملة في القصة الذي يعتمد البساطة والسلاسة واليسر والتقريرية تركيبا ومعني. ناهيك عن نوعية القضايا المتناولة بالسرد، التي، بطبيعتها، تقتضي الإطناب، والتحليل، واستدعاء قضايا مجاورة للإقناع وترسيخ الرسائل المقصودة. وهي قضايا تربط بينها العلاقة السببية أو المسببة، ويصعب الفصل بينها.
2. قضايا المجتمع والناس:
تعالج المجموعة القصصية قضايا وأسئلة متنوعة ذات راهنية في المجتمع المغربي، والدولي علي السواء، حتي إنها لا توجد مشكل أو قضية من قضايا الناس إلا وطرقتها، بشكل من الاشكال، مستقلا في قصة، أو مندمجا مع قضايا أخري ذات صلة به. ومن المواضيع التي تشكل عنصر جذب داخل المتن؛ نلفي (الهجرة من البادية إلي المدينة، الهشاشة والفقر، التسكع، الانحلال الخلقي، الدعارة وبيع المتع والشهوات، سلبيات التمدن وأثره علي القيم الأصيلة، العطالة، العزوف عن الزواج، الهجرة السرية، ألم الفقدان، الخيانة، هيمنة التقاليد البالية وتغلغلها، الرؤية القدحية للفنان والفن، تراجع أخلاق النساء وإقبالهن علي بلاوي الإدمان والمخدرات وبيع الجسد، التنكر للأصول والتخلي عن الوالدين، الاغتراب، العنوسة، أزمة التعليم، الاغتصاب، المقارنة بين ناس البادية وناس المدينة، وناس زمان وناس العصر...).
وعطفا علي ما سبق بخصوص عتبة العنوان، هناك مقولة أساسية تكاد تتكرر في كافة النصوص، بل وحتي العناوين الفرعية، وهي مقولة االحلمب التي تغدو مشتركا دلاليا تتقاسمه المتون في هاته المجموعة. إذ إن كل شخصيات النصوص القصصية تتأبط حلما ما، يشكل بنزين حياتها، وإصرارها علي المواصلة والصمود، لكن الشيء المتكرر هنا، هو أننا نجد دوما، مثبطا ما يكبح جماح وصول الشخصية إلي مبتغاها ومطمحها، فتحصل عاصفة تبخر هذا الحلم، وتأتي عليه في النهاية. لذلك فالقصص تنتهي دوما بخسارات، أو خيْبات تتجرّعها الشّخصيات الرّئيسة، وتنوء بثقلها الآبد.
إن القصة تصور الحياة الاجتماعية وتتحدد واقعيتها من خلال تصويرها لنواحي الحياة كما هي دون ابهامل تكون صورة صادقة وواضحة من الحياة اليومية المعتادة. ومادام القاص يحاكي الواقع كما هو عليه فان اعماله القصصية تتحول الي سجل لحوادث الحياة وبالتالي الي وثائق تاريخية للواقع الاجتماعي، لأن القصة تقودنا معرفيا الي الكشف عن حقائق موجودة وتسهم في تمكين المتلقي من وعي واقعه الاجتماع يكون الأشكال القصصية تكشف الكثير من خبايا النفس.
لقد جعلت الكاتبة من منجزها السردي كونا تجتلب فيه الموضوعات، وتتصارع الرؤي، إلي درجة أنها أحيانا تستغرق في تحليل بعض الظواهر برؤية سوسيولوجية أو اقتصادية، وتبتعد عن الوصف والسرد معا لتفرد لمعالجة القضايا مفاصل من المتن تكاد تكون أساسية، كما أنها تغوص أحيانا أخري في مزودة الذاكرة الشخصية منقبة عن آثار فرح، ونتوءات نوستالجيا بعيدة، ونستدرجها متعة اللحظات الاستعادية إلي عقد مقارنات بين الماضي والحاضر، وبين مدن الأمس ومدن اليوم، وبين رجال الأمس ورجال اليوم، وبين نساء زمان ونساء العصر، منتقدة حينا، ومتحيرة أخري.
لقد خول للكاتبة موقعها كمغربية تجول باستمرار،أراضي المعمور، وتتنقل بين مدن وبلدان عالمية عديدة علي مدار العام، القدرة علي عقد مقارنات بين ما تعيشه في الغرب، وما تعيشه لما تعود إلي البلد إبان العطل الموسمية أو الزيارات الخاص المفاجئة من تناقضات، ومفارقات، تشعر المرء بالقرف والأسي. وفي ذلك امتعاض من الوضع العام الذي لم يتحرك سوي نحو الأسوأ خاصة علي مستوي تفشي بعض الظواهر العتي يفترض ألا يبقي لها في بلد كالمغرب، من أثر، مثل الجهل، والأمية، والتخلف، والشعوذة، التحرش، التمييز، القمع، الرشوة، الفساد الإداري... وغير ذلك من القضايا الساخنة والمستعصية التي تحتاج عزيمة وقرارات جريئة، ولأنه بدون تجازوها لا أمل في ارتقاء السلم الحضاري، ولا حاجة إلي ركوب التحديات العالمية.
3. من المرجعي إلي الكوني:
تحضر المرجعية المغربية بقوة في النصوص القصصيةلزهرة عز، مما يؤكد الارتباط الوجداني بالهوية الثقافية وجغرافية الانتماء من جهة، والاعتزاز باستقراء الواقع والصدور عنه والانتماء إلي الإنسان المغربي، والاصطفاف إلي جانبه في إحساسه بالعالم، وتفاعله مع قضاياه من جهة أخري، ويبدو، في هذا الاتجاه، كأن الكاتبة تود التقاط ذاكرة تتربص بها دوائر النسيان، أو كأنها تريد التقاط كينونتها التي تكاد تنسرب من بين يديها تاركة الخواء. لذلك، فالقاصة تحكي ما تحكيه من تفاصيل المرجع الهوياتي بمحبة وتقدير مغموسين بحنين فيه ألم وحسرة وأسي: حكي فيه ما فيه من غيرة وروح وطنية.
ويتجلي الحضور المرجعيّ في النصوص في ثلاث مكونات:
المكون الأول: أسامي الشخصيات التي تكاد تكون في عموميتها مغربية، حيث نجد: (بوعزة، نعيمة، حماد، العربي، حسين، ولد حليمة، صالح، خديجة، إسماعيل، إدريس، عزيز الموتشو، وفاء، هنية...)، ولعلّ الإحالة علي هاته الأسماء بعينها لا يخلو من دلالة، ففضلا عن تلميحه المباشر علي منظومة فكرية واجتماعية، فإن النصوص تسعي لتوظيف الجانب الاشتقاقي والمعجمي للأسماء في بناء المعني، دون أن نعدم إمكانية تحريك متخيل القارئ حول هاته الأسماء المرجعية؛ ووقعها في النفوس، خاصة أنها تخلخل ماء الذاكرة، وتستنبت في ذهن المتلقي المغربي طقوسا وذكريات الطفولة والماضي، وتدغدغ أحاسيسه القديمة. إن االبطل في العمل الأدبي ليس مجرد اسم وشكل، ثم نركب عليه تفاصيل متخيلة، أو نفتعل له عقدة ما.. ثم نجد له الحل أو اللاحل.. القصة هي الدمج بين الخيال والواقع، وكما قال الكاتب الروسي الكبير تشيخوف: اهي كذبة متفق عليها بين الكاتب والقارئب والكاتب المبدع يجعل الكذبة تحاذي الواقع و تتساوي معه. لا أظن ان مؤلفي هذا النوع من النصوص يقص دونما قد يفهم من العنوان.. ربما قصدهم شرح فكرته محو لمركبات النص السردي القصصي....
المكون الثاني:أسماء الأماكن والفضاءات الجغرافية بكل ما ترمز إليه من واقعية وعفوية وبساطة. وهي غالبا أماكن تنغل بشعبيتها وانتمائها للقاع المجتمعي؛ ونذكر منها علي سبيل التمثيل: (حد السوالم، إيميلتانوت، وادي زم، حمام مولاي يعقوب، الحبوس، جامع الفنا، مراكش، سبت جزولة، الحياينة، البيضاء، سيدي عبد الرحمن، الوليدية، ساحة السراغنة، بني ملال...) وترجع هاته الفضاءات كفة الحضور الشعبي في المتون، واختفائه بالطقوس، والسلوكيات التي بدأت تندثر بفعل اكتساح المدنية، والتهامها لكثير من الأبعاد الإنسانية التي تختزنها.
المكون الثالث: الطقوس والملامح المجتمعية التي تنهل من الواقع المغربي بكافة تمظهراته الثقافية، ونشير خنا إلي الاحتفاء بفن العيطة، وتوصيف طقوس الاحتفالات والأعراس (الزواج، والختان...) وما يتخللها من ممارسات اجتماعية وطقوسية، تقليدية، لكنها تحيل إلي بعد ثقافي وإنساني متوارث أبا عن جد. وكأن السرد هنا يحاول إنقاذ ما يمكن تدوينه من هاته الطقوس والممارسات الثقافية الراسخة في الذاكرة، والتي اتخذت، بفعل حضورها الباذخ، بعدا نوستالجيا.
4. فعل السرد بين التذويت والأنسنة:
كان حضور الخصوصية مفرطا في النصوص؛ سواء من خلال الاعتبار المرجعي السابق الذكر، والذي لحّ علي استحضار المتراكم الشخصي من ذكريات وتفاصيل تخص مجتمع الهوية والانتماء، أو من خلال التلميح إلي قضية المرأة التي لم تستطع الكتابة التنصل منها لأسباب موضوعية، فهي أيضا من جيل الكاتبات اللائي يجعلن من فعل الكتابة مرافعة عن قضايا النساء عموما، والتعريف بهواجسهن، وأسئلتهن، ومطالبهن التي ظلت إلي أمد قريب في قبيل المقبور والمسكوت عنه.وكأنّ الكاتبة تعتبر، مع مازن معروف، أنّ القصة القصيرة هي فن الكتابة ا لأنسب لعكس مايدور حولنا، لأننا نعيش في عصر باتعلينا أن نملك ذاكرة بصرية تقوم علي اللحظات القصيرة، وفي نفس الوقت أصبح إيقاع الحياة والتاريخ أسرع... بمعني أن هذا الفن القصصي الأقرب لهذا النوع من إيقاعات الحياة، وفي نفس الوقت هو الأقرب إنسانيا إلي الإنسان، لأن تواصلنا يقوم علي القص والسرد، غير أن هذا الفن العويص (القصةالقصيرة) تتطلب ذكاء ومخيلة كبيرة قادرة علي تدوير الواقع وإنتاجه في واقع موازي، وهذاالواقع يمكن أن نبنيه بطريقة تحمل كينونة أدبية. وذاك ما قامت به الكاتبة هنا، إذ جعلت منه منبرا للبوح، وقناة لتمرير ما يعتمل في الذات وسياقها المتعدد.
لقد أشادت القصص بخصوصيات المرأة المغربية، ونوهت بأصالتها ووقارها عبر التاريخ، وحضورها المتميز في الذاكرة، وفعلها الراسخ في التربية والتنمية، منتقدة بعض السلوكيات التي التصقت بفئة من النساء المغربيات، في الأونة الأخيرة، معتبرة إياها مظاهر وافدة لا تمت لتاريخ المرأة المغربية المجيد بصلة، ولن يفلح في منحها سمة الحداثة والتطور، بل لعله يعصف بمكتسبات الأجيال السابقة.
لكن غلبة المشاعر والتماهي مع القضية إبان الكتابة؛ جعل القاصة تسقط أحيانا، في الكتابة المقالية أو التحليلية تعاطفا مع المرأة وقضاياها الإنسانية، وأذكر في هذا الباب، علي سبيل التمثيل، قصة اغتراب حلم، حيث تستغرق الكاتبة في توصيف ظاهرة التحرش، وانتقاد سلوكيات الاغتصاب والخيانة، صابة جام غضبها علي الرجل المستهتر بكرامة المرأة وعواطفها، ومقارنة إياه بالرجل الكندي أو الأوربي، رادّة عمق المشكل إلي اعتماد المقاربة الأمنية والتساهل في العقوبات الزجرية.
تشكل الكتابة القصصية في هذا المنجز فرصة لاستعادة الذات، من خلال الذاكرة، والمتراكم القرائي، ولعبة مسلية لتأمل المشهد العام، من زاوية أقرب، دونما حيادية، مثلما تشكل عتبة للعبور من القصصي إلي الروائي، فالرواة في هذه المجموعة كانوا دوما مشرئبين للتطاول علي حيز الحكاية القصصية، متطلعين إلي عالم أوسع يحضن تمردهم، ولن يكون ذلك سوي الجنس الروائي
وبغض النظر عن الأسئلة البدَهيّة التي ترتبط بهذا الاستلاف التناصيّ الغميس من قبيل المختلف والمشترك بين النصين، وإمكانية ترابطهما من حيث الصيغة أو المضمون، فإن هناك اتصالا واعيا بالنص الأصلي، وإعجابا بمستوي من مستوياته المرجعية، مثلما هناك تواصل غير واع بذاك النص الروائي الذي كتب عنه الكثير في حينه، وهذا ما يحتاج وقفة تحليلية مطولة تتناول البني والدّوالّ اعتمادا علي مقاربة النسق والتمثيلات والحقول الدلالية والمعجمية، علما أنّ النصين مختلفان من حيث التجنيس، فالنص الأول (رواية) فيما يشكل الثاني (مجموعة قصصية)، مؤتلفان من حيث اعتمادهما عنصر السرد .
1. من القصة إلي الرواية:
تكتب القاصة نصوصها ووعيها مرتبط بجنس أعم هو جنس الرواية، ذلك أنها تحرص في كل مرة علي انتهاك خصوصيات النص القصصي، وكسر طوقه ثم العبور إلي الرواية، وكأنها تجد في بشكل غير مفكر فيه، وعاء القص غير قادر علي استيعاب مخزونها من الحكي الذي يتسع لديها، بين الفينة والأخري، لاستقطاب مسرودات أخر تستقر في الذاكرة، وتتراكم في الخيال. فتترسخ لدي فكرة أن محكي القصة مغتال بتبنيها لتجنيس قصصي، أو مؤجل إلي نصوص أخري، أو لعله يطفح بشكل غير مباشر في نصوص مجاورة كما يحدث هنا في بعض النصوص التي تصبح تكملة لغيرها أو ترتبط معها في بعض الجوانب والخصوصيّات.
وإذا ما تجاوزنا عنصر الطول أو الحجم في النص، والذي يعتبر عنصرا مشتركا بين كافة القصص، وهو أمر لا يؤكد الخصوصية الروائية دائما إلا علي سبيل الاستئناس، فإن هناك أمورا واضحة لا غبار عليها، تمثل الجنس الروائي، ومنها التفصيل الدقيق سواء في السرد أو الوصف، وهو أمر لا يستقيم في الجنس القصصي الذي من أهم خصيصاته النوعية الكثافة والتركيز والاختصار والتلميح والإحالة بدل الفضح والإطالة والتفصيل، وهذا لا يعني أن الكاتبة غير واعية بهذه المعطيات، لكنها، وبحكم ميولها اللا واعية، تجد نفسها منساقة وراء الموضوع، منقبة في تشعباته، وحيثياته بما لا يسعه الجنس القصصي العصي.
ومن المشيرات الدالة علي هذا البعد الروائي، الترابط بين بعض قصص المجموعة في جانب من الجوانب الموضوعية أو الشكلية مثل اعتماد الثيمة نفسها، أو إعطاء أسماء بعينها وصفات نفسها لشخصيات في قصص متعددة، وكأن القصة تكمل الأخري، وهي تقنية قلما تحدث في الجنس القصصي الذي يعمد نصا واحدا مستقلا تكتمل فيه عناصر سردية محددة، كوحدة الموضوع، وحدة الشخصية، وحدة الزمان، وحدة المكان، ووضعيتين؛ الأولي بدئية وأخري نهائية (أمثل لذلك بحضور شخصية الزاهية في النصين الأولين اأحلام لا تشيخب واأحلام الزاهية»، وبنفس التمظهرات تقريبا، وكأن النص الأول تمهيدا للثاني.
كما أننا نجد قصصا أخري تدور أحداثها في المكان نفسه والزمان عينه، متناولة أحيانا الموضوعات ذاتها، بما يوحي بأن القاصة تشتغل بمنطق السرد الروائي من خلال استحضارها لمتعة تشكل النوع في كليته، والتفكير في الصياغة الكلية للعالم السردي، والاشتغال بمفهوم النسقية بين النصوص، حتي أنه لولا عتبة التعيين الجنسيّ المدرجة علي الغلاف، لاعتقد كثيرون أن النص ينخرط في المحكيات الروائية لا القصصية. ويعزز ذلك مستوي بنية الجملة التي تطول، وتتعقد، وتتراكب وتتداخل، ضدا علي نسق الجملة في القصة الذي يعتمد البساطة والسلاسة واليسر والتقريرية تركيبا ومعني. ناهيك عن نوعية القضايا المتناولة بالسرد، التي، بطبيعتها، تقتضي الإطناب، والتحليل، واستدعاء قضايا مجاورة للإقناع وترسيخ الرسائل المقصودة. وهي قضايا تربط بينها العلاقة السببية أو المسببة، ويصعب الفصل بينها.
2. قضايا المجتمع والناس:
تعالج المجموعة القصصية قضايا وأسئلة متنوعة ذات راهنية في المجتمع المغربي، والدولي علي السواء، حتي إنها لا توجد مشكل أو قضية من قضايا الناس إلا وطرقتها، بشكل من الاشكال، مستقلا في قصة، أو مندمجا مع قضايا أخري ذات صلة به. ومن المواضيع التي تشكل عنصر جذب داخل المتن؛ نلفي (الهجرة من البادية إلي المدينة، الهشاشة والفقر، التسكع، الانحلال الخلقي، الدعارة وبيع المتع والشهوات، سلبيات التمدن وأثره علي القيم الأصيلة، العطالة، العزوف عن الزواج، الهجرة السرية، ألم الفقدان، الخيانة، هيمنة التقاليد البالية وتغلغلها، الرؤية القدحية للفنان والفن، تراجع أخلاق النساء وإقبالهن علي بلاوي الإدمان والمخدرات وبيع الجسد، التنكر للأصول والتخلي عن الوالدين، الاغتراب، العنوسة، أزمة التعليم، الاغتصاب، المقارنة بين ناس البادية وناس المدينة، وناس زمان وناس العصر...).
وعطفا علي ما سبق بخصوص عتبة العنوان، هناك مقولة أساسية تكاد تتكرر في كافة النصوص، بل وحتي العناوين الفرعية، وهي مقولة االحلمب التي تغدو مشتركا دلاليا تتقاسمه المتون في هاته المجموعة. إذ إن كل شخصيات النصوص القصصية تتأبط حلما ما، يشكل بنزين حياتها، وإصرارها علي المواصلة والصمود، لكن الشيء المتكرر هنا، هو أننا نجد دوما، مثبطا ما يكبح جماح وصول الشخصية إلي مبتغاها ومطمحها، فتحصل عاصفة تبخر هذا الحلم، وتأتي عليه في النهاية. لذلك فالقصص تنتهي دوما بخسارات، أو خيْبات تتجرّعها الشّخصيات الرّئيسة، وتنوء بثقلها الآبد.
إن القصة تصور الحياة الاجتماعية وتتحدد واقعيتها من خلال تصويرها لنواحي الحياة كما هي دون ابهامل تكون صورة صادقة وواضحة من الحياة اليومية المعتادة. ومادام القاص يحاكي الواقع كما هو عليه فان اعماله القصصية تتحول الي سجل لحوادث الحياة وبالتالي الي وثائق تاريخية للواقع الاجتماعي، لأن القصة تقودنا معرفيا الي الكشف عن حقائق موجودة وتسهم في تمكين المتلقي من وعي واقعه الاجتماع يكون الأشكال القصصية تكشف الكثير من خبايا النفس.
لقد جعلت الكاتبة من منجزها السردي كونا تجتلب فيه الموضوعات، وتتصارع الرؤي، إلي درجة أنها أحيانا تستغرق في تحليل بعض الظواهر برؤية سوسيولوجية أو اقتصادية، وتبتعد عن الوصف والسرد معا لتفرد لمعالجة القضايا مفاصل من المتن تكاد تكون أساسية، كما أنها تغوص أحيانا أخري في مزودة الذاكرة الشخصية منقبة عن آثار فرح، ونتوءات نوستالجيا بعيدة، ونستدرجها متعة اللحظات الاستعادية إلي عقد مقارنات بين الماضي والحاضر، وبين مدن الأمس ومدن اليوم، وبين رجال الأمس ورجال اليوم، وبين نساء زمان ونساء العصر، منتقدة حينا، ومتحيرة أخري.
لقد خول للكاتبة موقعها كمغربية تجول باستمرار،أراضي المعمور، وتتنقل بين مدن وبلدان عالمية عديدة علي مدار العام، القدرة علي عقد مقارنات بين ما تعيشه في الغرب، وما تعيشه لما تعود إلي البلد إبان العطل الموسمية أو الزيارات الخاص المفاجئة من تناقضات، ومفارقات، تشعر المرء بالقرف والأسي. وفي ذلك امتعاض من الوضع العام الذي لم يتحرك سوي نحو الأسوأ خاصة علي مستوي تفشي بعض الظواهر العتي يفترض ألا يبقي لها في بلد كالمغرب، من أثر، مثل الجهل، والأمية، والتخلف، والشعوذة، التحرش، التمييز، القمع، الرشوة، الفساد الإداري... وغير ذلك من القضايا الساخنة والمستعصية التي تحتاج عزيمة وقرارات جريئة، ولأنه بدون تجازوها لا أمل في ارتقاء السلم الحضاري، ولا حاجة إلي ركوب التحديات العالمية.
3. من المرجعي إلي الكوني:
تحضر المرجعية المغربية بقوة في النصوص القصصيةلزهرة عز، مما يؤكد الارتباط الوجداني بالهوية الثقافية وجغرافية الانتماء من جهة، والاعتزاز باستقراء الواقع والصدور عنه والانتماء إلي الإنسان المغربي، والاصطفاف إلي جانبه في إحساسه بالعالم، وتفاعله مع قضاياه من جهة أخري، ويبدو، في هذا الاتجاه، كأن الكاتبة تود التقاط ذاكرة تتربص بها دوائر النسيان، أو كأنها تريد التقاط كينونتها التي تكاد تنسرب من بين يديها تاركة الخواء. لذلك، فالقاصة تحكي ما تحكيه من تفاصيل المرجع الهوياتي بمحبة وتقدير مغموسين بحنين فيه ألم وحسرة وأسي: حكي فيه ما فيه من غيرة وروح وطنية.
ويتجلي الحضور المرجعيّ في النصوص في ثلاث مكونات:
المكون الأول: أسامي الشخصيات التي تكاد تكون في عموميتها مغربية، حيث نجد: (بوعزة، نعيمة، حماد، العربي، حسين، ولد حليمة، صالح، خديجة، إسماعيل، إدريس، عزيز الموتشو، وفاء، هنية...)، ولعلّ الإحالة علي هاته الأسماء بعينها لا يخلو من دلالة، ففضلا عن تلميحه المباشر علي منظومة فكرية واجتماعية، فإن النصوص تسعي لتوظيف الجانب الاشتقاقي والمعجمي للأسماء في بناء المعني، دون أن نعدم إمكانية تحريك متخيل القارئ حول هاته الأسماء المرجعية؛ ووقعها في النفوس، خاصة أنها تخلخل ماء الذاكرة، وتستنبت في ذهن المتلقي المغربي طقوسا وذكريات الطفولة والماضي، وتدغدغ أحاسيسه القديمة. إن االبطل في العمل الأدبي ليس مجرد اسم وشكل، ثم نركب عليه تفاصيل متخيلة، أو نفتعل له عقدة ما.. ثم نجد له الحل أو اللاحل.. القصة هي الدمج بين الخيال والواقع، وكما قال الكاتب الروسي الكبير تشيخوف: اهي كذبة متفق عليها بين الكاتب والقارئب والكاتب المبدع يجعل الكذبة تحاذي الواقع و تتساوي معه. لا أظن ان مؤلفي هذا النوع من النصوص يقص دونما قد يفهم من العنوان.. ربما قصدهم شرح فكرته محو لمركبات النص السردي القصصي....
المكون الثاني:أسماء الأماكن والفضاءات الجغرافية بكل ما ترمز إليه من واقعية وعفوية وبساطة. وهي غالبا أماكن تنغل بشعبيتها وانتمائها للقاع المجتمعي؛ ونذكر منها علي سبيل التمثيل: (حد السوالم، إيميلتانوت، وادي زم، حمام مولاي يعقوب، الحبوس، جامع الفنا، مراكش، سبت جزولة، الحياينة، البيضاء، سيدي عبد الرحمن، الوليدية، ساحة السراغنة، بني ملال...) وترجع هاته الفضاءات كفة الحضور الشعبي في المتون، واختفائه بالطقوس، والسلوكيات التي بدأت تندثر بفعل اكتساح المدنية، والتهامها لكثير من الأبعاد الإنسانية التي تختزنها.
المكون الثالث: الطقوس والملامح المجتمعية التي تنهل من الواقع المغربي بكافة تمظهراته الثقافية، ونشير خنا إلي الاحتفاء بفن العيطة، وتوصيف طقوس الاحتفالات والأعراس (الزواج، والختان...) وما يتخللها من ممارسات اجتماعية وطقوسية، تقليدية، لكنها تحيل إلي بعد ثقافي وإنساني متوارث أبا عن جد. وكأن السرد هنا يحاول إنقاذ ما يمكن تدوينه من هاته الطقوس والممارسات الثقافية الراسخة في الذاكرة، والتي اتخذت، بفعل حضورها الباذخ، بعدا نوستالجيا.
4. فعل السرد بين التذويت والأنسنة:
كان حضور الخصوصية مفرطا في النصوص؛ سواء من خلال الاعتبار المرجعي السابق الذكر، والذي لحّ علي استحضار المتراكم الشخصي من ذكريات وتفاصيل تخص مجتمع الهوية والانتماء، أو من خلال التلميح إلي قضية المرأة التي لم تستطع الكتابة التنصل منها لأسباب موضوعية، فهي أيضا من جيل الكاتبات اللائي يجعلن من فعل الكتابة مرافعة عن قضايا النساء عموما، والتعريف بهواجسهن، وأسئلتهن، ومطالبهن التي ظلت إلي أمد قريب في قبيل المقبور والمسكوت عنه.وكأنّ الكاتبة تعتبر، مع مازن معروف، أنّ القصة القصيرة هي فن الكتابة ا لأنسب لعكس مايدور حولنا، لأننا نعيش في عصر باتعلينا أن نملك ذاكرة بصرية تقوم علي اللحظات القصيرة، وفي نفس الوقت أصبح إيقاع الحياة والتاريخ أسرع... بمعني أن هذا الفن القصصي الأقرب لهذا النوع من إيقاعات الحياة، وفي نفس الوقت هو الأقرب إنسانيا إلي الإنسان، لأن تواصلنا يقوم علي القص والسرد، غير أن هذا الفن العويص (القصةالقصيرة) تتطلب ذكاء ومخيلة كبيرة قادرة علي تدوير الواقع وإنتاجه في واقع موازي، وهذاالواقع يمكن أن نبنيه بطريقة تحمل كينونة أدبية. وذاك ما قامت به الكاتبة هنا، إذ جعلت منه منبرا للبوح، وقناة لتمرير ما يعتمل في الذات وسياقها المتعدد.
لقد أشادت القصص بخصوصيات المرأة المغربية، ونوهت بأصالتها ووقارها عبر التاريخ، وحضورها المتميز في الذاكرة، وفعلها الراسخ في التربية والتنمية، منتقدة بعض السلوكيات التي التصقت بفئة من النساء المغربيات، في الأونة الأخيرة، معتبرة إياها مظاهر وافدة لا تمت لتاريخ المرأة المغربية المجيد بصلة، ولن يفلح في منحها سمة الحداثة والتطور، بل لعله يعصف بمكتسبات الأجيال السابقة.
لكن غلبة المشاعر والتماهي مع القضية إبان الكتابة؛ جعل القاصة تسقط أحيانا، في الكتابة المقالية أو التحليلية تعاطفا مع المرأة وقضاياها الإنسانية، وأذكر في هذا الباب، علي سبيل التمثيل، قصة اغتراب حلم، حيث تستغرق الكاتبة في توصيف ظاهرة التحرش، وانتقاد سلوكيات الاغتصاب والخيانة، صابة جام غضبها علي الرجل المستهتر بكرامة المرأة وعواطفها، ومقارنة إياه بالرجل الكندي أو الأوربي، رادّة عمق المشكل إلي اعتماد المقاربة الأمنية والتساهل في العقوبات الزجرية.
تشكل الكتابة القصصية في هذا المنجز فرصة لاستعادة الذات، من خلال الذاكرة، والمتراكم القرائي، ولعبة مسلية لتأمل المشهد العام، من زاوية أقرب، دونما حيادية، مثلما تشكل عتبة للعبور من القصصي إلي الروائي، فالرواة في هذه المجموعة كانوا دوما مشرئبين للتطاول علي حيز الحكاية القصصية، متطلعين إلي عالم أوسع يحضن تمردهم، ولن يكون ذلك سوي الجنس الروائي
آخر ساعة