لعل الكثير من المفاهيم و المقولات السياسية و الإيديولوجية تحتاج اليوم إلى مراجعة نقدية ،
خصوصا تلك المفاهيم الإيديولوجية التي تحاول استغلال الدين الإسلامي لأغراض ما، قصد
تقوية المواقع على الساحة السياسية و الفكرية
و لضرب الآراء المخالفة مستغلة بذلك الدين كسلاح لإخراس التيارات الأخرى المخالفة.
لا أريد
الرجوع إلى التاريخ الإسلامي و إلى تاريخنا المغربي الإسلامي لعرض الأمثلة فهي
متاحة لكل باحث و قارئ، لكن ما يهمني هو حاضرنا المغربي، لمقاربة مفهومين سياسيين و
إيديولوجيين مرتبطين بهوية المغرب قبل أن يحسم فيهما دستور2011، و رغم ذلك فما زالت
بعض المواقع والقوى المحافظة من مختلف التيارات لم تع اللحظة التاريخية التي دخلتها
بلادنا في التصالح مع الذات و الهوية المغربيتين،
و في فتح صفحة جديدة من تاريخنا المغربي المعاصر التي يحس فيه كل المغاربة بأنهم
مغاربة يجمعهم هذا الوطن جميعا.
المفهومان هنا هما " العروبة و الإسلام" و " الأمازيغية
و الإسلام"، كمفهومين شحنا بالكثير من العاطفة الدينية و الايدولوجيا السياسية من طرف بعض التيارات السياسية و الفكرية التي ما
زالت تجتر المقولتين رغم أن الدستور المغربي حسم في الأمر. مفهوم " العروبة و
الإسلام " من المفاهيم المهيمنة على الساحة بعد الاستقلال و تراجعت حدتها في السنوات
الأخيرة مع دخول المغرب مرحلة جديدة و عهد جديد بالتصديق على دستور 2011، الذي يقر
لأول مرة الهوية المتنوعة للمغرب و في صلبها الأمازيغية، و هو تنوع في إطار الوحدة
التي ظهر لأول مرة في المغرب مع الأدبيات الفكرية المغربية للحركة الثقافية الأمازيغية
مع ميثاق أكادير سنة 1991 (1)، لذلك آن الأوان للقطع مع هذه المفاهيم الأيديولوجية
التي ما زالت تمتح حمولتها الفكرية من فترة الستينات من القرن الماضي نتيجة هيمنة بعض
التيارات الفكرية و الايديولوجية على الساحة الفكرية المغربية و التي كانت متأثرة ببعض
التيارات الفكرية السائدة في بعض الدول العربية أنذاك.
أولا: العروبة و الاسلام
ظهر هذا المفهوم السياسي الذي تبنته الحركة الوطنية
و التي ارتكزت في أرومتها الفكرية و الايديولوجية على القومية ، و اكتسح الساحة الفكرية
و السياسية المغربية بسبب هيمنة التيارات السياسية و الفكرية المرتكزة على هذا الفكر
القومي المهيمن سياسيا في بعض البلدان العربية، لكن في المغرب تم قرن و ربط العروبة
بالإسلام لسببين:
أولاهما لأن مفهوم العروبة في تلك الفترة مرتبط بقوة و هيمنة ايديولوجية
القومية التي تبنتها الدول القومية في بعض الدول العربية لوجود أقليات دينية مسيحية
مما يتحتم عليها الارتكاز على العروبة بدلا من الاسلام.
ثانيهما ربط الإسلام بالعروبة لقطع الطريق على أي
حركة تريد إرجاع المغرب إلى هويته الأصلية أي الأمازيغية لذلك تم توظيف الاسلام لترسيخ
العروبة في بلد متنوع ثقافيا كالمجتمع المغربي.
فإذا كانت بعض الدول العربية المتبنية لفكرة العروبة لا تستطيع تبني مفهوم " العروبة و الاسلام
" كمفهوم ايديولوجي مع ما يتبعه من ممارسة سياسية على أرض الواقع نظرا لأن هذه
الدول تحتضن جزءا هاما من شعوبها يتدينون بالديانة المسيحية كسوريا و لبنان و مصر..،
فإن المغرب يختلف عن هذه الدول المتبنية للعروبة نظرا لأن أكثرية المغاربة يتبنون الإسلام
دينا. ولطمس و محو واقع التنوع الثقافي و التميز
الحضاري للشعب المغربي التجأ دعاة الحركة الوطنية
السياسية بالمغرب الى تبني مفهوم " العروبة و الإسلام" لفرض نظام واحد و
أوحد سياسيا و فكريا، و هو ما أشار اليه الأستاذ عبد الكريم غلاب بصورة غير مباشرة في قوله:
" و تبقى بعد ذلك ظروف الوحدة هي التي تتحكم في تكوين الشعوب و صمودها،
و الدين و اللغة في مقدمة ظروف الوحدة"(2). هذه النظرة الأحادية للهوية المغربية
هي ما انتقدها السوسيولوجي المغربي الراحل محمد جسوس حين كتب يقول: " لقد ساهمت
هذه النخبة ( و يعني بها نخبة الحركة الوطنية ) بمختلف مكوناتها في اكساب نظام نموذجي
واحد أو أوحد " (3).
لكن الجانب السياسي الذي تبناه التيار الغالب في
الحركة الوطنية ( أي التوجه نحو إقرار الحزب الوحيد بالمغرب على غرار ما وقع في الشرق)
هو ما دفع السلطات المغربية أنذاك إلى تقويض الجانب السياسي من هذا الفكر بإصدارها
ظهير الحريات العامة سنة 1958 و منع نظام الحزب الوحيد.
و كان من الممكن لعملية المغربة التي انطلقت في
نهاية الستينات من القرن الماضي أن تأخذ معناها الوطني كمغربة وطنية و ان تكون قاطرة
للجميع لكنها أخفقت لأنها ارتكزت على هذا البعد الواحد و الوحيد للهوية المغربية و
أقصت البعد الأمازيغي للهوية الوطنية، يقول
الأستاذ الحسين أسكان
:
" إن عملية استكمال المغربة لم تذهب بعيدا،
لأنها على عنصرين أساسيين فقط من الهوية المغربية، هما عنصرا العروبة و الاسلام اللذان
انبنى عليهما فكر الحركة الوطنية و ايديولوجيتها" (4).
الأمازيغية و الإسلام:
المفهوم الثاني في الفكر السياسي المغربي المعاصر و المرتبط بقضية الهوية
المغربية، هو " الأمازيغية و الاسلام" ، و هو مفهوم حديث جدا، و الغريب في
الأمر أن هذا المصطلح السياسي الإيديولوجي لم تطرحه الحركة الثقافية الأمازيغية لسبب
بسيط هو أن الأمازيغ لم يجدوا أبدا تعارضا بين الأمازيغية و الإسلام، و لم يجدوا تعارضا
بين القوانين التي احتكموا اليها في حياتهم اليومية و الاجتماعية و السياسية و التي سموها " ازرف " أي العرف و بين
الإسلام كدين ، كان هذا التوافق بن الأعراف الأمازيغية و الدين الإسلامي هو ما جعل
الأمازيغ في حياتهم اليومية و في مخيالهم الفكري و الثقافي لم يخلقوا رباطا عرقيا بين
العرق و الاسلام ، لذلك كانوا ينظرون إلى الأمم الإسلامية الأخرى من منظور الأخوة الدينية
بغض النظر عن اختلاف ألسنتهم و أعراقهم كما يدعو إلى ذلك الدين الإسلامي.
إذن فمفهوم " الأمازيغية و الإسلام "
لم يظهر إلا مع الحركة السياسية التي تربط العروبة بالإسلام و التي استغلت مفهوم
" الأمازيغية و الإسلام " استغلالا سياسيا غير أخلاقي ،و يتغيى هذا المفهوم
إقصاء الأمازيغية بمحاولة بعض الأطراف إقامة تعارض بين الأمازيغية و الإسلام، و كأن
الإسلام لا يقوم الا على أساس العروبة، و كأن أغلب الدول و الإمارات التي حكمت المغرب
في ظل الإسلام ليست أمازيغية، و كأن الأمازيغ الذين نشروا الإسلام في السودان الإفريقي
عبر الزوايا و الإمارات و الدول المتعاقبة على المغرب ليسوا أمازيغ مسلمين ( و ما زلنا إلى الآن نرى مدى
ارتباط بعض الشعوب الإفريقية التي كانت تكون السودان الإفريقي بالمغرب روحيا و دينيا
ممثلا في الزاويا الدينية).
هذا التعارض الذي أقامته بعض التيارات الإيديولوجية
المهيمنة على الساحة مستغلة الوتر الديني هو ما انتقده السوسيولوجي المغربي الراحل
محمد جسوس حين اشار الى ذلك في قوله: " لقد وصلنا إلى هذه الوضعية انطلاقا من
تفشي عدة تصورات و أطروحات ما أحوجنا حاليا إلى ضبطها و إلى إعادة النظر فيها، و إلى
التخلص منها و تصفية حساباتنا معها..و كذلك انتشار مقولات افترضت بدون أسس أن هناك
تنافرا أو تعارضا أساسيا بين الإسلام و العروبة و الوطنية و الأمازيغية " (5).
إن طرح "الأمازيغية و الإسلام " لم تتناوله
أدبيات الحركة الثقافية الأمازيغية إلا بعد التوظيف السياسي الغير أخلاقي لهذا المفهوم
من طرف خصومها، و هذا التوظيف يروم منه دعاته إلى إقامة تعارض مزعوم بين الأمازيغية
و الإسلام، و هو ما رد عليه الأستاذ الصافي مومن علي و (و هو من رواد الحركة الثقافية
الأمازيغية ) بقوله: " الهوية المغربية
هي هوية أمازيغية محضة دينها الإسلام، و لغاتها الأمازيغية و العربية" (6).
الحسن زهور
الهوامش:
1-ورد في الميثاق: " الثقافة المغربية متمثلة في كل من البعد الأمازيغي
، و البعد الاسلامي، و البعد العربي، و البعد الافريقي ، و البعد الكوني، و هي أبعاد
لا يمكن اختزالها في بعد واحد أو نموذج واحد على حساب الأبعاد الأخرى".
2-عبد الكريم غلاب، مجلة آفاق ص 90، عدد1 سنة 1992.
3-نفس المجلة ص 110.
4-كتاب " تدريس تاريخ المغرب و حضارته: حصيلة و آفاق"، سلسلة
الندوات و المناظرات رقم 17، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية.
5-محمد جسوس، مجلة آفاق ص 100-101، عدد1 سنة 1992
6-حول " حقيقة الهوية المغربية " جريدة " أكراو امازيغ"
عدد 14.