«شمس بيضاء باردة» ليست مجرد رؤية سوداوية صادرة عن بطل إشكالي أخفق في مواجهة العالم فاعتصم بالتشاؤم وندْب الحظ؛ بل هي نسيج يحكي تفاصيل الأحداث ويستحضر مسار حياة المعلم الشابّ «راعي»
انطلاقاً من حياته مع أسرته البدوية، ووصولاً إلى تجربته في عمّان حيث أصبح معلماً يسعى للاستقلال عن سلطة الأب البطريركية، ليعيش وفْق الحياة المتحررة التي انجذب إليها. يصلنا السرد على لسان راعي، موزعاً على «النهار الأول» و «الليلة الأولى»، وصولاً إلى نهارٍ وليلة يندّانِ عن الإحصاء. وتكون البداية من مرحلة تقترب من نهاية النصّ، ثم يرتدّ السرد مسترجعاً ما فات، مُراوحاً بين ما عاشه البطل في الريف مع أسرته، وما عاشه في عمان داخل غرفة من دون نوافذ، متنقلاً بين المدرسة والحانة. ومنذ البدء، تتجلى صفة البطل الإشكالي لدى راعي، لأن حزام «الرواية العائلية» (وفق فرويْد) يلفّ جسده وعواطفه، وهو حريص على أن يتحرر منه، بخاصة من خلال خلافه وصراعه الدائميْن مع الأب الحريص على فرض وصايته المتمثلة في قيم دينية زائفة ونمطٍ من العيش غارق في التقليد والخنوع. فضلاً عن ذلك، هو مُغرم بشراء الكتب وقراءتها مُتوهّماً أنها ستوفّر له أجوبة شافية على الأسئلة المتصلة بالأوضاع المادية وأسئلة الكينونة والوجود... من ثمّ، تحتلّ الكتب مكانة أساسية في مسار راعي المأخوذ في شَرك العائلة والمجتمع والمؤسسات: «كيف أنجو من حربٍ شرَع زملائي المدرسون في شنها ضدي منذ الأسبوع الأول لِدوامي، لأنني لستُ مثلهم: لا أصلّي معهم، فلا أقدّم للتلاميذ المثال والقدوة الحسنة، ولا أمارس هداية هؤلاء الطلاب إلى الصراط المستقيم، ولا أتلو عليهم قصص عذاب الآخرة لعلهم يصلحون. كيف أتكيف مع هذا الواقع؟ كيف أتكيّف مع أبي؟ كيف أنسى عائشة؟ كيف أتكيّف مع هذه المدينة التي تحيا على قارعة الصحراء، تقرأ وتعيد في كل يوم، قراءة الرمال خشيةَ أن تنسى ما خطتْه هذه الرمال في الأمس (ص 189). على هذا النحو، تقصّ علينا نهارات وليالي «شمس بيضاء باردة» صراع راعي اليومي على ثلاث واجهات: مع العائلة، وبخاصةٍ مع الأب، في المدرسة مع المدير والزملاء، ومع هواجس الجنس والحب والجنون، بخاصة من خلال مغامرته المجانية مع عائشة البلهاء، وتعلقه الرومانسي بزوجة صديقه أحمد الذي انتحر بعد أن فشل في حماية زوجته من سطوة والدته... لكن راعي، في هذا الصراع الذي يخوضه ضدّ قُوى أكبر منه، يتسلح ببعض ما جناه من قراءاته، وليس مصادفة أن تكون استشهاداته تُحيلُ على «ملحمة جلجامش» و «أسطورة سيزيف» لألبير كامو، وتاريخ الجنون لفوكو.
انطلاقاً من حياته مع أسرته البدوية، ووصولاً إلى تجربته في عمّان حيث أصبح معلماً يسعى للاستقلال عن سلطة الأب البطريركية، ليعيش وفْق الحياة المتحررة التي انجذب إليها. يصلنا السرد على لسان راعي، موزعاً على «النهار الأول» و «الليلة الأولى»، وصولاً إلى نهارٍ وليلة يندّانِ عن الإحصاء. وتكون البداية من مرحلة تقترب من نهاية النصّ، ثم يرتدّ السرد مسترجعاً ما فات، مُراوحاً بين ما عاشه البطل في الريف مع أسرته، وما عاشه في عمان داخل غرفة من دون نوافذ، متنقلاً بين المدرسة والحانة. ومنذ البدء، تتجلى صفة البطل الإشكالي لدى راعي، لأن حزام «الرواية العائلية» (وفق فرويْد) يلفّ جسده وعواطفه، وهو حريص على أن يتحرر منه، بخاصة من خلال خلافه وصراعه الدائميْن مع الأب الحريص على فرض وصايته المتمثلة في قيم دينية زائفة ونمطٍ من العيش غارق في التقليد والخنوع. فضلاً عن ذلك، هو مُغرم بشراء الكتب وقراءتها مُتوهّماً أنها ستوفّر له أجوبة شافية على الأسئلة المتصلة بالأوضاع المادية وأسئلة الكينونة والوجود... من ثمّ، تحتلّ الكتب مكانة أساسية في مسار راعي المأخوذ في شَرك العائلة والمجتمع والمؤسسات: «كيف أنجو من حربٍ شرَع زملائي المدرسون في شنها ضدي منذ الأسبوع الأول لِدوامي، لأنني لستُ مثلهم: لا أصلّي معهم، فلا أقدّم للتلاميذ المثال والقدوة الحسنة، ولا أمارس هداية هؤلاء الطلاب إلى الصراط المستقيم، ولا أتلو عليهم قصص عذاب الآخرة لعلهم يصلحون. كيف أتكيف مع هذا الواقع؟ كيف أتكيّف مع أبي؟ كيف أنسى عائشة؟ كيف أتكيّف مع هذه المدينة التي تحيا على قارعة الصحراء، تقرأ وتعيد في كل يوم، قراءة الرمال خشيةَ أن تنسى ما خطتْه هذه الرمال في الأمس (ص 189). على هذا النحو، تقصّ علينا نهارات وليالي «شمس بيضاء باردة» صراع راعي اليومي على ثلاث واجهات: مع العائلة، وبخاصةٍ مع الأب، في المدرسة مع المدير والزملاء، ومع هواجس الجنس والحب والجنون، بخاصة من خلال مغامرته المجانية مع عائشة البلهاء، وتعلقه الرومانسي بزوجة صديقه أحمد الذي انتحر بعد أن فشل في حماية زوجته من سطوة والدته... لكن راعي، في هذا الصراع الذي يخوضه ضدّ قُوى أكبر منه، يتسلح ببعض ما جناه من قراءاته، وليس مصادفة أن تكون استشهاداته تُحيلُ على «ملحمة جلجامش» و «أسطورة سيزيف» لألبير كامو، وتاريخ الجنون لفوكو.
لماذا الشمس لا تضيء؟
تتوالى الأحداث والمشاهد في «شمس بيضاء باردة» انطلاقاً من مركز تلتقي عنده الخيوط، وهو «راعي» المعلم الشابّ، الفاشل، المحارَب من لَدُنِ الجميع، في بيت الأسرة بالريف، وفي المدرسة التي يعارض فلسفتها العتيقة، وفي المجتمع الذي لا يقبل سوى الذين يخضعون للنموذج الموروث: طاعة الوالديْن، أداء الفروض الدينية والزواج من ابنة حلال تعاونه على إنتاج ذرية صالحة... إلا أن راعي هو على النقيض من هذا النموذج المُكرّس، لأن رحلته الدراسية زرعتْ فيه لوثة التمرد والتساؤل عن الحاضر والمستقبل، عن العلاقة بالدين والنظام الاجتماعي والسياسي، وعن إمكانات السعادة في غابةٍ تشبه تلك التي ذهب إليها جلجامش مع صديقه أنكيدو كي ينتصرا معا على حارسها...محشورا في زاوية الرفض والتمرد، لم يجدْ راعي سوى الكتب والحانة وصديقه أحمد ملجأ ًيحتمي به من نيران الكراهية التي تطارده. لكن الكتب نفسها قلما تنجح في أن تمدّ له يدَ العون، فيتسلل الشك إلى ثقته في المعرفة: «... لكن ما جدوى أسئلة المعرفة وأسئلة الفلسفة وأسئلة الفكر والسياسة وغيرها؟ ما جدوى أسئلة العقل ما دامت سعادة المرء الغريزية تزداد طرْدياً كُلما ازداد جهله؟ (...) كيف يغدو الإنسان في نهاية المطاف سعيداً ومتصالحاً مع وجوده؟» (ص160).
إلا أن هذا البطل الإشكالي الباحث عن قيَمٍ مُغايرة لما هو سائد وخانق، نجده يتمادى في البحث والتساؤل دون أن يُقدِم على «فعل» يترجم نواياه المتمردة؛ وهو مدرك لهذا العجز الذي شدّ وثاقه إلى التشظي واللافعل ويعبر عنه على هذا النحو: «حاولتُ النهوض، غير أن قواي جميعَها كانت هجرتني. كنتُ جثة مفتوحة العيْنين، ترى وتسمع، وربما تفهم أيضاً، لكنها جثة. هذا ما إلتُ إليه. تطفو في ذهني أشباحُ أفكار عن مدرسة وطلاب يجب أن أدرّسهم، ومديرٍ يستشيط غضباً بسبب غيابي المتكرر عن الدوام، ومبالغ مخصومة من راتبي، وديون متراكمة، وجيبٍ ليس فيه قرش، وشهرٍ لا يزال بعيدا عن آخره. تشدّني أشباح هذه الأفكار إلى النهوض، وجسدي يرفض الاستجابة» (ص297).
وسط حلكة اليأس والعبث التي كان راعي يعيش فيها، لاحت أشعة شمس دافئة تناديه إلى معانقة الحياة، وذلك بعد أن انتحر صديقه أحمد وترك زوجته الجميلة مع ولديها في ظروف صعبة. التقاها راعي في مكتبة كانت تتردد عليها لتحضير شهادة تعينها على تحسين وضعيتها. لكنه لم يستطع أن يتخلص من تساؤلاته الميتافيزيقة ومن البحث عن المسؤول عن انتحار صديقه. بل إن راعي، على رغم تعلقه بزوجة صديقه التي فتحت له ذراعيْها، ظلّ يلاحقها بأسئلة عن انتحار أحمد، لا تخلو من اتهامٍ مُبطن لها: «مضت أيام وأنا أحدق في الفراغ برُعب، ولا أرى سوى طيف أحمد؛ لكنني في نهاية المطاف نهضتُ وذهبت إليها: - ما كان يجب أن تتركيه. لو لم تفعلي لما كان انتحر. حدّقتْ فيّ طويلاً بصمت ثم قالت: - لهذا تغيب؟ لا تستطيع إلا أنْ تُحملني مسؤولية انتحاره؟ (...) أظن أنني أنا الضحية وليس هو. لطالما فكرتُ في أنه انتحر انتقاما مني وليس من السماء. انتحر وتركني أتعذبُ طويلاً. (...) أنتَ قاسٍ جداً. لقد هربتُ من ضيْم أمه فانتحر وتركني وحيدة مع طفليْن. هرب. أما أنا فلم أهرب. بقيتُ مع الطفليْن. رفضتُ كل العروض بالزواج لأنهم كانوا يشترطون أن أتخلى عن الطفليْن. رفضتُها لأنني لا أريد أن يخسراني بعد ما هرَبَ هو من مسؤوليته». (ص 282).
لحظة المواجهة هذه بين راعي وزوجة صديقه المنتحر، أزالت القناع عن وجه البطل الذي كان ينتحل الأعذار لكي لا يواجه الواقع ويخرج من اجترار الأسئلة المجردة إلى الإقدام على أفعال تثبت إرادته في تغيير الحياة. بينما زوجة أحمد المنتحر برهنت على مسؤوليتها بالملموس، متخطية كل ما يحول بينها وبين ضوء الشمس الدافئة. كأنما الكاتبة كفى الزعبي تريد أن تكسّر حدة النموذج السوداوي المتجسّد في راعي المشدود إلى الرفض السلبي والتشاؤم الغاضب، فجعلت من امرأة، زوجة المنتحر، نموذجاً متحدياً للجبن والتقهقر، إذ قررت أن تتحرر من الخوف والحزن: «... ثم انتبهتُ إلى أن الأمر سيّان، أكنتُ مُعذبة وأبكي في انتظاره، أم ساخرة وأضحك، فذلك لن يغيّر شيئاً، لا من الحقيقة ولا من واقعي. واكتشفت أنني أتعذب في سبيل الهباء، فعُدتُ أضحك وعدتُ أغني، لأن الموت سيأتي من دون أن يعنيَه أو يعني الحياة، كيف أعيشها». (ص259).
استطاعت «شمس بيضاء باردة» أن تبدع سرداً متدفقاً، جاذباً، يستوحي الواقع الكالح في الأردن وفي فضاءات عربية شبيهة، ضمن رؤية جدلية بين التشاؤم وتفاؤل الإرادة، بين الانهزام والانتصار للحياة. وفي ذلك انتصار للكتابة التي تُصغي إلى ما يصطرع في أحشاء الفرد وفي أعماق المجتمع، داخل سيرورة يطبعها الطغيان وسطوة المال، وجبروت التقاليد البالية.
12-01-2018 الساعة 04:26 738 قراءة
عن جريدة"الحياة"