حين يصبح الشعر أداة تعبر بلا تكلف عن ذات الانسان
فقدت الناصرة بهجت قعوار، وفقدت بذلك الأديبة والشاعرة
والمؤرخة النصراوية نهى قعوار رفيق حياتها،
الذي كان احدى الشخصيات التربوية صاحبة
الدور الكبير والهام بتنشئة الأجيال الجديدة، كان انسانا ضليعا بلغته العربية وبالتراث
العربي، وبالنهج العقلاني في التعامل الاجتماعي. أحد طلابه السابقين من قرية سولم،
حيث علم المرحوم لفترة سنوات طويلة فيها، كشف بحفل تأبين المرحوم بهجت قعوار، الذي
جرى في قاعة كنيسة البشارة في الناصرة، ان المعلم بهجت قعوار، كان يعلم أيضا طلاب سولم
دروس في الدين الإسلامي.
فقدان انسان متوهج الذاكرة رغم بلوغه التسعين من
العمر، والراوي لنوادر التراث، من قصص واشعار، هي خسارة لا تعوض.
اجل خطفه الموت من بيننا، حيث كان خلال سنوات طويلة
يشاركنا بصالون زوجته الأديبة والشاعرة والمؤرخة السيدة ام إسكندر نهى زعرب قعوار،
لدرجة ان الجلسة بدونه لم يكن لها نفس الطعم بالجلسات التي كان يشاركنا بها بما يحفظه
ويرويه من نوادر العرب، قصصهم وشعرهم.
لكن هذا الفقدان، وهو ما يعطيه ابعادا إنسانية،
أطلق قريحة الشاعرة نهى قعوار، رفيقة حياة المرحوم، لتتحفنا بقصائد رثائية، تعبر فيها
عن مصابها الأليم بلغة الشعر، اللغة التي يتقنها العرب أفضل من أي لغة أخرى حين يريدون
التعبير عن مشاعرهم .. اجل يمكن ان نرى بها
خنساء الناصرة في قصائد عديدة كتبتها بعد رحيل الرفيق والزوج بهجت.
في قصائد شاعرتنا، نقرأ تساؤلات تدخلنا للأجواء
المؤلمة من فقدان رفيق العمر:
يا زهرة في سماء الكون سابحة ..
مثل الفراشة ملهاك ونجواك ..
فيمَ ارتحالك ؟؟ هل في العمر مُتَسَعٌ ؟؟
أم أنت ناسكة في قلب مثواك ..
أليس فيك من الأشواق مُحْتَكَمٌ ..
أم هل تعبت من الترحال ؟؟
أهواك ..
لو أملك الدنيا بِيَدّي
ما بخلت بها ..
ولو طلبت الروح مني ..
جُدْتُ لرضاك
كم هو قوي هذا الحزن، وكم هو انساني، بحيث يدخل
القارئ للإحساس بالحزن الإنساني بتجلياته. اردت ان أقول لو أن كل فقدان لعزيز لنا يطلق
قرائحنا بمثل هذه الكلمات الحميمية الإنسانية، لرأيت في الفقدان خيرا ينعكس على ثقافتنا
وابداعاتنا.
في قصيدة أخرى تطلق نهى قعوار ذكريات هذا الرابط
الحميم بينها وبين رفيق دربها الراحل:
يا حاملاً عطرَ الروابيْ وانتعاشاتِ الهوى بعدَ
المطرْ
يا مُمسِكا في الكفة اليمنى نجومَ الكونِ تهديني
وفي الأخرى القمرْ
ألبستنيْ عِقدَ الأماني المورقاتِ .. فرشتَ دربيَ
بالورُودِ وبالعُهودِ الزاهية ْ
ونثرتَ فيْ عُمريْ وأيامي ابتساماتِ القـــدرْ
وهمستَ في أذنيْ بألحانِ الوفاءِ الحانية ْ
فأعادتِ الزمنَ المضمَّخِ بالشذى
حيث السكينةُ تغمرُ الأجواءَ تسكُنُنِيْ فلا أخشى
الخطرْ
بمثل هذه التعابير البسيطة تدخلنا نهى قعوار الى
ذكريات لا تمحى من ذاكرتها، وربما تعطيها القوة لتواصل مسيرتها كما كان يرغب رفيق دربها.
فهي تقول بخاتمتها:" حيث السكينةُ تغمرُ الأجواءَ تسكُنُنِيْ فلا أخشى الخطرْ".
اجل اعطاك الراحل قوة لتواصلي دربك ونشاطك ورعايتك لأبناء عائلتك، ودورك في رعاية الحياة
الثقافية، بصالونك الأدبي الذي يعتبر أفضل نشاط ثقافي متواصل منذ سنوات يقام في الوسط
العربي. لذا تخاطبيه وكأنه ما زال ينبض بالحياة:
أسكنتَني قممَ الجبــــــال ِ.. منحتنيْ حُللَ الجمــــال
ِ
بنيتَ ليْ من لؤلؤ الكلماتِ قصرا من خيــــال ْ
أقسمتَ إنك لنْ تحيدَ عن الهوى
وبأننيْ أصبحتُ معطفكَ الذيْ يحميكَ من بردِ الشتاء
ِ
ويحتويك بدفئه أيام حِلِّكَ والســفرْ
وبأننيْ قطرُ الندى سقطتْ على الأغصانِ
فاتشحتْ بألوانِ البهاءِ وفاحَ في جنباتها عطرُ
المحبةِ والزَّهَر ْ
هل كان حبُّك صادقا أم كان صرحاً من خيال ٍفي التماع
البرق كالوهم انحسر ْ؟!!
أم أنه طبعُ الهوى.. ما فاز فيه مولَّهٌ مهما صــبر
ْ؟
والعاشقون حصادُهم فرشٌ من الأشواك في ليلٍ تلحَّفَ
بالدمُوع وبالسَّهرْ!
هذه الصور الشعرية تنبض بالحياة، وبالمشاعر الصادقة،
تتدفق الصور بتلقائية شعرية عجيبة، بكلمات تتدفق بلا تكلف وبلا افتعال. وتواصل:
أدمنـتُ حبَّك لا أبالي بالهوى المرويِّ عن ليلى
وعن لبنى
وما حملتْ مآسي العشقِ في ماضي الزمان ِمن العبر
ْ
وأنا التي يوماً نصحتُ العاشقين بتركِ بابِ العشقِ
مهجُوراً
إذا رامُوا الحياةَ بلا كـــدر ْ
وتقول في مقطع آخر:
هام الفؤادُ وطارَ في آفاقِ ظلكَ ليس يسأمُ أو ينـــام
ْ
تمضي به الأيام مثقلةٌ بهمِّ البعد يغتال الأماني
سهمُه
ويذيقُه غُصَصَ المذلةِ وامتهاناتِ الغـــرام ْ
ضجَّ الفؤادُ بحملهِ ومضى يفتش عن سبيلٍ لاقتناصِ
الفجرِ في لُجَجِ الظــــلام ْ
لكنها تشكو مصابها:
ما عاد ينفعُني السؤالُ ولا سحاباتُ الندم ْ
قد أُغلقتْ دوني المدائنُ وانتهيتُ إلى العـــدم
ْ
وتملَّكتْ مني الدموعُ وفارقَ الثغرَ ابتســـام
ْ
مذ أجدبت أحلامنـــا .. وتعطلت لغــــة ُ الكــــلام
ْ
لكن نهى ليست من النوع الذي يستسلم، فها هي تعود
لنا بقصيدة أخرى نتاج فقدانها لرفيق حياتها:
إني امرأةٌ...
لا شيءَ يُثلِجُ صدرَها...
كالزهرِ والأشعارِ... واللحنِ الجميلْ ..
وأُحبُ نوراً خافتاً ...
لا يُزعجُ العينينِ...في يومي...
وفي ليلي الطويلْ ..
وأحب ذكراك تطوفُ بخاطري...
لأراك صبحاً ومساءً وأصيلْ
في قصيدة أخرى تتساءل الشاعرة، وكأنها تنتظر الجواب من الراحل:
بأي كلام سأرثيك بهجت
فحزني عليك بلا كلمات
وكيف أصدق أنك مُتَّ
وأنك لست أباً للبنات
وأن إسكندر غالٍ عليك
فيُحرق قلبيَ حتى الممات
نُحيّيك دوماً لأنك حيًّ
ولست بميتٍ ولستَ رفاة
فأنت العطوفُ وأنت الرؤوف
وأنت المُعينُ على النائبات
سنشتاقُ دوماً أبانا المُحبَّ
ونبكي عليك بكل اللغات
هنا نجد التعبير الإنساني بأبهى صوره تجليا، والله
يا نهى رغم ان فراق الأحبة مؤلم، الا أنك برثائك، ادخلتنا جميعا، بهذا الحزن، بما خطة
قلمك من كلمات وتعابير وصور شعرية، يشعر كل من يقرأها بخفق القلب وبألم الفراق، أجل
ابدعت صورا شعرية ولغة تتدفق مثل السيل، بانسياب وبلا تكلف، وتشد القارئ ليعيد القراءة
مرة ومرة أخرى .. اجل انت هنا تستبدلين ألمك ودموعك بكتابة تبهر القارئ بعمق تعابيرك،
وبصياغة شعرية لا تكلف فيها.
هذه بعض القصائد التي نشرتها الشاعرة نهى زعرب قعوار
في رثاء رفيق دربها بهجت قعوار. شاعريتها هنا تتجلى بعمق تعابيرها، وبصورها الشعرية
الجميلة. حقا انه وداع حزين، نلمس هذا بكلمات قصائدك لكننا أيضا نلمس ان الالم يتحول
الى ابداع فيه تتجلى شاعريتك وقدراتك على رسم الألم ورسم الحب للراحل، وهو أروع تكريم
اعرفه لوداع انسان عزيز.
nabiloudeh@gmail.com