أما عن "أبوهيل ومغاربة أبوهيل" فقد سبق أفردت له مقالا طويلا سبق أن نشرته وتلاه بعد ذلك حبر كثير.
أما عن "تريشفيل" فإني مازلت لم أستوعب بعد ما رأيت وعرفت، ولم يسعفني
الخيال بعد بلحظة صفاء ذهني لأرتب المشاهد والخواطر لتأتي في سياق ما كتبت سابقا
عن "أبوهيل".
"أبوهيل" لمن لا يعرف ذلك، هو حي سكنيفي مدينة دبي بدولة
الإمارات، تقطنه وتعمل فيه غالبية مغربية، وفي ذلك ما يكفي من الإيحاء بموضوع
المقال السابق. أما "تريشفيل" فإنه حي سكني وتجاري في مدينة أبيدجان
عاصمة دولة ساحل العاج بغرب افريقيا، يعتبر معقل الجالية المغربية من تجار وعمال
وغير ذلك. وبغض النظر عن هذه الخاصية المشتركة بين الحيين وجاليتيهما المغربية،
فإن هناك رابطا خاصا لم يخطر ببالي أبدا قبل زيارتي لهذا الحي أثناء مقامي الأخير
ولو لأيام معدودة بأبيدجان.لكي أفسر هذا الرابط الخاص بين "أبوهيل" في دبي و"تريشفيل" في أبيدجان، أستحضر هنا ظاهرة معروفة لدى بعض أجناس الحيوانات في أفريقيا وخصوصا الفيلة. يحكى بأن بعض الفيلة لما تصل إلى أرذل العمر ويتقدم بها السن، وتفقد كل جاذبية لدى الجنس الآخر من فصيلتها، فإنها تنزوي بعيدا عن مجموعتها الأولى، وتهاجر إلى منطقة تتخذها ملاذا أخيرا تمارس فيه ما تبقى من حياتها وتنتظر الموت ببطء رفقة من هم على شاكلتها. هكذا سميت هذه المناطق بالمنفى الاختياري، أو المقابر الجماعية الاختيارية.
ما العلاقة إذن بين "أبوهيل" و "تريشفيل" والمنفى الاختياري للفيلة؟:
اكتشفت هذه العلاقة عند معاينة حالات إنسانية واجتماعية لبعض مغربيات "تريشفيل" اللواتي بدأن مسار الغواية في مقتبل العمر في "أبوهيل" ، ولما نفذ معينهن من أسباب الإثارة وانطفأ في أعينهن لهيب الشغف، اكتشفن أنهن لم يوفرن من زمان الرخاء إلا ذكرياته الباهتة ولم يفكرن في ما سيؤول إليه مصيرهن عند ضمور ربيع الجسد وغزو التجاعيد وكل تباشير الهرم لمساحات كبيرة وجلية من وجوهن وأغلب رأس مالهن الجسدي. بعض اللبيبات منهن، قرأن تاريخ من سبقنهن فاشتغلن على توفير "قبر الحياة" وأسباب تقاعد مريح في الوطن الذي ينتظرهن كنوع آخر من المنفى. هؤلاء اللواتي لم يسعفهن الحظ بذلك يخترن الهجرة، مثل الفيلة المسنة، إلى منفى اختياري يمارسن فيه غواية متأخرة لزبائن لديهم سقف متطلبات جد متدني بالمقارنة مع مرتادي نوادي وعلب دبي الليلية.
اكتشفت أن بعضا من حالات بؤسنا
الاجتماعي الذي أصبح لازمة لسمعتنا وسمعة الوطن قد بدأت مسيرتها من
"ابوهيل" وانتهى بها الأمر إلى "تريشفيل" كنوع من المنفى
الاختياري في انتظار ما سيأتي أو لن يأتي للهروب من هذه الجدران التي هي نوع من
قبر الموءودة التي دفنت وهي حية. مازلت استجمع أنفاسي مما علمت عن نماذج "تريشفيل"
المهاجرة من "أبوهيل" في انتظار أن تسعفني حالة ذهنية خاصة أعرفها
وتعرفني لكي أقوى على تدوين فقرة أخرى من فقرات مأساتنا الأخلاقية والاجتماعية،
والتي يبدو أن حلقتها الأخيرة لن ترى النور قريبا.
أبيدجان في سبتمبر 2014