الكاتب والناقد المغربي خالد التوزاني لديه ولع بالعجيب تجلى في مؤلفاته العديدة، ومنها "أدب العجيب في الثقافتين العربية والغربية"، وكتاب "جماليات العجيب في الكتابات
الصوفية"، و"الرواية العجائبية في الأدب المغربي الحديث"، واستمر هذا الولع ليدفعه للبحث عنه في أدب الرحلات، ففي مقاربته لأشهر الرحلات العربية ركز على ثيمة العجيب باعتبارها محط اهتمام الرحالة والمتلقي معاً، وذلك أحدث كتبه "الرحلة وفتنة العجيب بين الكتابة والتلقي" الصادر عن داري السويدي بأبوظبي والمؤسسة العربية للنشر ببيروت في عام 2017 وهو الكتاب الحائز على جائزة ابن بطوطة للدراسات لعام 2016 /2017.
وانطلق بحثه عن العجيب في أدب الرحلات من قناعته بأن هدف العجيب في الأدب عموما هو فضح الواقع وتعرية المعاني المختفية في شقوقه وتخومه، فإنه في نموذج أدب الرحلات يمثل محاولة لتغيير ذلك الواقع من خلال اقتراح حلول بديلة تعيد له التوازن المفقود، وقدم أيضا في الكتاب تعريفا مغايرا وجديدا لمفهوم الرحلة إذ اعتبرها "انتقالا من حضيض الرغبات والأهواء، إلى مدارج علوية من الجهاد الروحي والفكري والحضاري"، ويمثل "العجيب" ركنا أصيلا فيها فهو محور اهتمام الرحالة والمتلقي معا، فالرحالة بانتقاله في المكان يغادر رقعة المألوف ليقف على عجائب البلدان بينما المتلقي يبحث فيما كتبه الرحالة عن العجيب الذي دفعه للتلذذ بالرحلة رغم ما يكتنفها من مشاق ومخاطر.
ويلاحظ القارىء أن خالد التوزاني يمايز بين مصطلحي "العجيب" و"الفانتاسيكي" فيوظف الأول في سياق تحليل النصوص العربية للدلالة على معاني خرق المألوف المتضمن لعنصري الاستحسان والاستنكار، ويوظف الثاني في سياق التداول الغربي للدلالة على المتخيل المستحيل والمرعب والمخيف.
ويرجع التمييز لكون "الفانتاسيكي" كجنس أدبي أو تقنية في الكتابة جاء كنتيجة لظروف تاريخية وقيم ثقافية غربية ليست فقط مختلفة عن قيم الإنسان العربي بل حتى عن نمط تفكيره ونظرته للكون وللوجود وما بعد الموت والحياة، وهو ما ينعكس على رؤية النص وتأويله من جانب المتلقي، وهو العامل الحاسم في هذا الشأن فلا يكون العجيب عجيبا إلا إذا حكم عليه المتلقي بذلك، وهذا يوجب على الباحث الانتباه لنسبية العجيب.
عجيب الرحلات
يحذر الكاتب من معالجة العجيب في الرحلات بنظرة المقارنة أو المقايسة، بين حاضرنا الآن وماضينا البعيد الذي شهد تلك الرحلات، فمثل تلك المقارنة تحول بينه وبين أن يعيش فتنة العجيب، فحين يمنح القارىء للنص قدرا من التصديق الأدبي والجمالي، يغدو كل شيء في النص عجيبا، ليس لأن أصحاب الرحلات كانوا يزينون نصوصهم ببعض العجائب رغبة في إثارة انتباه المتلقي وتشويقه، وليس استجابة لذوق القارئ المَيَّال إلى العجيب فحسب، وإنما كذلك، لأن ما رآه الرحالة كان شيئا عجيبا حقا بالنسبة إليه، فـأكثر الناس حكما على الأمور بالغرابة هم أكثرهم ترحالا، حيث يواجهون الجديد دائما ويكسرون ألفة المكان والثقافة، فينقلون عالما جديدا مغايرا لما سحقته الرتابة وقتله الملل، ولذلك لم تكن غاية الرحلات إبداع عالم عجيب بقدر ما كانت التعجب من العالم الموجود.
لذلك فإن دراسة عجيب أدب الرحلات تتيح الفرصة لفهم عقلية الإنسان زمن تدوين الرحلة ومعرفة طبيعة تفكيره وتمثله للذات والآخر والمحيط. هنا يشير الباحث لرحلة ابن جبير الذي ركز على عجائب المشاهدات في المدن والآثار، لكنه لم يكتف بالوصف بل بحث عن السبب، فمثلا أرجع كثرة خيرات مكة لبركة البلد الأمين.
ويذهب الباحث إلى أن العجيب عند ابن جبير وغيره لم يكن مقصودا لذاته، بل كان هدفه تعبديا، فالرحلة بالنسبة للرحالة المسلم كانت عملا مقدسا ترتقي ذاته من خلالها، حيث زادت معارفه وارتفع مستوى إيمانه، ولذلك جمع المتصوف في رحلاته بين سفر القلوب ورحلة الأبدان، في نمط من الرحلات عُرفت بالرحلات الحجازية، حقق من خلالها نوعا من الكمال في سفره المقدس؛ ذلك أن الرحلة عندهم وبحسب تعبير الباحث "رحلة الأبدان وسفر القلوب"، فإن كانت سفرا محسوسا إلا أن الصوفي جعل منها رحلة في منازل العبادة، فيرتقي مع تقدمه في المسالك الحسية والمعنوية.
هوية ماء الموائد
دشنت الرحلة المسماة بماء الموائد لأبي سالم العياشي تحولا جديدا في أسلوب كتابة الرحلة، وقد اعتبرها بعض الدارسين أعظم رحلة مغربية، فقد شكلت مصدرا مهما لدراسة المظاهر الاجتماعية والثقافية في كل البلدان التي يسير فيها ركب الحجيج المغربي، لذلك اقتدى بها أصحاب الرحلات وكتبوا على نهجها متبعين طريقتها في النقل من الكتب وذكر طرائف الشيوخ والعلماء، واتخاذها من العجيب مطية لإدهاش القارىء، كما صنعت منه جماليات فنية وموضوعية أكسبتها لمسة أدبية عالية.
يذكر الكتاب أن رحلة الحج في زمن العياشي لم تكن أمرا سهلا لكثرة الفتن ومخاطر الطريق جعلتهم يسمونها "رحلة موت محفوفة بالحياة"، وقد رصد صاحب الرحلة في سفره كل ما واجهه من مخاطر وصعاب مؤكدا أنه استمد القوة في مواجهتها من تتابع مراحل الطريق واقتراب الوصول من أرض النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، فتحول المرض إلى صحة وتبدلت المشقة بمتعة، فرحلة الحج عند الصوفي تتحول إلى رحلة ترقية وتمكين في مقامات أهل الله، وهي تختلف عن رحلة باقي الحجيج لاختلاف النوايا رغم أن المناسك التي يؤدونها واحدة.
وقد أفلح العياشي في صياغة نص رحلي متماسك ومنسجم وقادر على التأثير المدهش في كل أنواع القراء المحتملين لنصه، وهو ما يؤكد امتلاكه لوعي منهجي في الكتابة دفعه ليكتب في مقدمة الرحلة "قصدي من كتابة هذه الرحلة أن تكون ديوان علم لا كتاب سمر وفكاهة، وإن وجد الأمران فيها معا فذلك أدعى لنشاط الناظر فيها"، أما باعث كتابتها فهو "إصلاح أوضاع فاسدة، ودرء الأدواء والأسواء في زمن صعب".
وقد انفتحت موضوعات العجيب في ماء الموائد على الواقع الإنساني، وما يحفل به من تناقضات وصراعات، فمثلت رؤية وشهادة باعتبارها محاولة للإجابة عن أسئلة ذلك الواقع. (وكالة الصحافة العربية)
https://middle-east-online.com
الصوفية"، و"الرواية العجائبية في الأدب المغربي الحديث"، واستمر هذا الولع ليدفعه للبحث عنه في أدب الرحلات، ففي مقاربته لأشهر الرحلات العربية ركز على ثيمة العجيب باعتبارها محط اهتمام الرحالة والمتلقي معاً، وذلك أحدث كتبه "الرحلة وفتنة العجيب بين الكتابة والتلقي" الصادر عن داري السويدي بأبوظبي والمؤسسة العربية للنشر ببيروت في عام 2017 وهو الكتاب الحائز على جائزة ابن بطوطة للدراسات لعام 2016 /2017.
وانطلق بحثه عن العجيب في أدب الرحلات من قناعته بأن هدف العجيب في الأدب عموما هو فضح الواقع وتعرية المعاني المختفية في شقوقه وتخومه، فإنه في نموذج أدب الرحلات يمثل محاولة لتغيير ذلك الواقع من خلال اقتراح حلول بديلة تعيد له التوازن المفقود، وقدم أيضا في الكتاب تعريفا مغايرا وجديدا لمفهوم الرحلة إذ اعتبرها "انتقالا من حضيض الرغبات والأهواء، إلى مدارج علوية من الجهاد الروحي والفكري والحضاري"، ويمثل "العجيب" ركنا أصيلا فيها فهو محور اهتمام الرحالة والمتلقي معا، فالرحالة بانتقاله في المكان يغادر رقعة المألوف ليقف على عجائب البلدان بينما المتلقي يبحث فيما كتبه الرحالة عن العجيب الذي دفعه للتلذذ بالرحلة رغم ما يكتنفها من مشاق ومخاطر.
ويلاحظ القارىء أن خالد التوزاني يمايز بين مصطلحي "العجيب" و"الفانتاسيكي" فيوظف الأول في سياق تحليل النصوص العربية للدلالة على معاني خرق المألوف المتضمن لعنصري الاستحسان والاستنكار، ويوظف الثاني في سياق التداول الغربي للدلالة على المتخيل المستحيل والمرعب والمخيف.
ويرجع التمييز لكون "الفانتاسيكي" كجنس أدبي أو تقنية في الكتابة جاء كنتيجة لظروف تاريخية وقيم ثقافية غربية ليست فقط مختلفة عن قيم الإنسان العربي بل حتى عن نمط تفكيره ونظرته للكون وللوجود وما بعد الموت والحياة، وهو ما ينعكس على رؤية النص وتأويله من جانب المتلقي، وهو العامل الحاسم في هذا الشأن فلا يكون العجيب عجيبا إلا إذا حكم عليه المتلقي بذلك، وهذا يوجب على الباحث الانتباه لنسبية العجيب.
عجيب الرحلات
يحذر الكاتب من معالجة العجيب في الرحلات بنظرة المقارنة أو المقايسة، بين حاضرنا الآن وماضينا البعيد الذي شهد تلك الرحلات، فمثل تلك المقارنة تحول بينه وبين أن يعيش فتنة العجيب، فحين يمنح القارىء للنص قدرا من التصديق الأدبي والجمالي، يغدو كل شيء في النص عجيبا، ليس لأن أصحاب الرحلات كانوا يزينون نصوصهم ببعض العجائب رغبة في إثارة انتباه المتلقي وتشويقه، وليس استجابة لذوق القارئ المَيَّال إلى العجيب فحسب، وإنما كذلك، لأن ما رآه الرحالة كان شيئا عجيبا حقا بالنسبة إليه، فـأكثر الناس حكما على الأمور بالغرابة هم أكثرهم ترحالا، حيث يواجهون الجديد دائما ويكسرون ألفة المكان والثقافة، فينقلون عالما جديدا مغايرا لما سحقته الرتابة وقتله الملل، ولذلك لم تكن غاية الرحلات إبداع عالم عجيب بقدر ما كانت التعجب من العالم الموجود.
لذلك فإن دراسة عجيب أدب الرحلات تتيح الفرصة لفهم عقلية الإنسان زمن تدوين الرحلة ومعرفة طبيعة تفكيره وتمثله للذات والآخر والمحيط. هنا يشير الباحث لرحلة ابن جبير الذي ركز على عجائب المشاهدات في المدن والآثار، لكنه لم يكتف بالوصف بل بحث عن السبب، فمثلا أرجع كثرة خيرات مكة لبركة البلد الأمين.
ويذهب الباحث إلى أن العجيب عند ابن جبير وغيره لم يكن مقصودا لذاته، بل كان هدفه تعبديا، فالرحلة بالنسبة للرحالة المسلم كانت عملا مقدسا ترتقي ذاته من خلالها، حيث زادت معارفه وارتفع مستوى إيمانه، ولذلك جمع المتصوف في رحلاته بين سفر القلوب ورحلة الأبدان، في نمط من الرحلات عُرفت بالرحلات الحجازية، حقق من خلالها نوعا من الكمال في سفره المقدس؛ ذلك أن الرحلة عندهم وبحسب تعبير الباحث "رحلة الأبدان وسفر القلوب"، فإن كانت سفرا محسوسا إلا أن الصوفي جعل منها رحلة في منازل العبادة، فيرتقي مع تقدمه في المسالك الحسية والمعنوية.
هوية ماء الموائد
دشنت الرحلة المسماة بماء الموائد لأبي سالم العياشي تحولا جديدا في أسلوب كتابة الرحلة، وقد اعتبرها بعض الدارسين أعظم رحلة مغربية، فقد شكلت مصدرا مهما لدراسة المظاهر الاجتماعية والثقافية في كل البلدان التي يسير فيها ركب الحجيج المغربي، لذلك اقتدى بها أصحاب الرحلات وكتبوا على نهجها متبعين طريقتها في النقل من الكتب وذكر طرائف الشيوخ والعلماء، واتخاذها من العجيب مطية لإدهاش القارىء، كما صنعت منه جماليات فنية وموضوعية أكسبتها لمسة أدبية عالية.
يذكر الكتاب أن رحلة الحج في زمن العياشي لم تكن أمرا سهلا لكثرة الفتن ومخاطر الطريق جعلتهم يسمونها "رحلة موت محفوفة بالحياة"، وقد رصد صاحب الرحلة في سفره كل ما واجهه من مخاطر وصعاب مؤكدا أنه استمد القوة في مواجهتها من تتابع مراحل الطريق واقتراب الوصول من أرض النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، فتحول المرض إلى صحة وتبدلت المشقة بمتعة، فرحلة الحج عند الصوفي تتحول إلى رحلة ترقية وتمكين في مقامات أهل الله، وهي تختلف عن رحلة باقي الحجيج لاختلاف النوايا رغم أن المناسك التي يؤدونها واحدة.
وقد أفلح العياشي في صياغة نص رحلي متماسك ومنسجم وقادر على التأثير المدهش في كل أنواع القراء المحتملين لنصه، وهو ما يؤكد امتلاكه لوعي منهجي في الكتابة دفعه ليكتب في مقدمة الرحلة "قصدي من كتابة هذه الرحلة أن تكون ديوان علم لا كتاب سمر وفكاهة، وإن وجد الأمران فيها معا فذلك أدعى لنشاط الناظر فيها"، أما باعث كتابتها فهو "إصلاح أوضاع فاسدة، ودرء الأدواء والأسواء في زمن صعب".
وقد انفتحت موضوعات العجيب في ماء الموائد على الواقع الإنساني، وما يحفل به من تناقضات وصراعات، فمثلت رؤية وشهادة باعتبارها محاولة للإجابة عن أسئلة ذلك الواقع. (وكالة الصحافة العربية)
https://middle-east-online.com