أنا يا صديقي امرأة لبنانيّة:
عطري من أرز لبنان
أحمر شفتيّ من ورد شرفاته
كحل عينيّ من مكحلة ليله العميق
لون جلدي من قمح سهوله المتشرّبة نورَ الشمس
في صوتي ترجيعات من أصوات فيروز ووديع وصباح وزكي وسلوى
وفي صدري تهدر أنهاره المطيعة والعاصية
وفي تجاويف دماغي مغاوره العتيقة العابقة بحكايات الأمس
وفي حنايا ذاكرتي تاريخه الممتلئ مجدًا وانكسارات
جدران بيتي من صخور جباله
وستائر نوافذه من أشرعة مراكبه العائدة مترنحّةً بنشوة الاكتشافات
بعدما أخضعت البحار
***
أنا يا صديقي امرأة مسيحيّة:
صليبي جسر خشبيّ يحملني لألتقي بك
وأيقونتي وجهك حين تشعّ منه سكينة التأمّل
وزيتي المقدّس ينير ليل هذا الشرق ولا ينضب
وخبزي المعجون بعرق العمل والمغموس بنبيذ الفرح مائدتي الممدودة لكلّ عابر
وأرض المسيح أرضي مهما طالت غربتها
***
أنا يا صديقي امرأة مارونيّة:
كنيستي لا تعرف الانحطاط ولا الإحباط
قومي يبشّرون بالكلمة
أديرتي لا تعرف إلّا الصلاة
صوامع نسكي تصمت لتصغي إلى أناشيد الكون
أودية زهدي تسمو إلى العلا
وجبال عزّي تنحني تحت هالة المجد الذي أُعطي لها
وأغنيات ليلي ترانيمُ تبحث عن السماء ولا تنسى الأرض
***
أنا يا صديقي
لا أنتمي لهذا الذي تراه وتسمع عنه في الوطن والطائفة
أعرف الخوف من الفقر والمرض والموت
ولكنّني لا أخضع له
ولذلك لا أبحث بين أرجلِ الكراسي عن موطئ قدم ومسندِ رأس
ومن طلب منّي مقعدًا أخليت له البيت
ومن طلب مني البيت تركت له الشارع
ومن طلب منّي الشارع تنازلت له عن الحيّ
لأنّ مملكتي لم تكنْ ولن تكونَ من هذا العالم
الذي يحاول أن يخنق حرّيتي
فيلبسني مرّة مِسحًا ومرّة برقعًا
***
أنا يا صديقي
أعرف العشق حين ألتقي به ولا أهرب منه
وأعرف الصداقة الحقيقيّة من النظرة الأولى
وأهوى جَمْعَ الأعداء لأنّ عددَهم مقياسُ إنجازاتي
والذين عرفتهم ومضَوا أشكرُهم لأنّهم جعلوني ما أنا عليه
فجسدي ملْك لي
وكلماتي لا شريكَ لي فيها
أمّا جُبن الآخرين فيثير نقمتي
***
أنا يا صديقي أحبّ الشِعر
لأنّني في الشِعر وجدتك
وفيه وجدت وطني الجميل وانتمائي الحضاريّ
وأحبّ شجرة الزيتون التي حوّلها تجّارُ الهياكلِ زينةً
بعدما كانت معصرة وخابية ورزقًا حلالاً
وأحبّ شواطئنا التي يريد المعتدون على الحضارة
-أولئك الذين لا يفكّون الحرف-
أن يبنوا قصورَهم من خشب سُفنِها
وأن يزيّنوا واجهاتِها بأبجديّةٍ علّمناها للبشريّة كلِّها
وأن ينزّهوا كلابهم وقططهم
على أرجوانٍ كان فخر صناعتنا فصيّروه علامةَ خنوعنا
***
أنا يا صديقي ابنة هذا الشرق الهائج
أنظر إليك تائهًا في غربة أيّامك
وأشفق على حياتك المنظّمة وأيّامِك الرتيبة
أراك هائمًا في أرضٍ أعطيتها حياتك
ولن تعطيَك مدفنًا
تبحث في صقيع ما يحيط بك عن دفءٍ حملته معك
يوم تركت هذه الأرض لتبحث عن نفسِك
فوجدت كلّ شيء إلّا ما كنت تبحث عنه
تُبكيك "فيروز"
وتُسعدُ "صباح" قلبَك
وتثير حماستَك إنجازاتُ أهل بلدك
ويدفئك صحن العدس بالحامض
وتفتح شهيّتَك مناظرُ الثلج والبحر والسهول
تصِلُك إلى حيث أنت
بين ثلج وبحر وسهول
لا تشبه التي عرفتها مع جدّك وجدّتك
وتطلب منّي أن أرسل إليك قصيدةَ "يا ثلجُ قد هيّجت أشجاني" لرشيد أيّوب
فتقرأها وتدمع عيناك
***
هذه أنا يا صديقي! وهذا أنت!
أشرق كلّ يوم على غروب أيّامك
لعلّ شمسَ بلادك تنبثق من داخلك
فترجع يومًا إلى حيث تركت جذورك!