يعتبر هاجس ضبط حدود اشتغال اللغة، أحد أهم القضايا التي تمحورت حولها اهتمامات مختلف الاختصاصات المعرفية بتنوع وتعدد مشاربها، حيث يحاول كل منها تعميق البحث في مجاله، انطلاقا من
الإمكانيات التأويلية التي تمده بها علاقته المرجعية باللغة المعتمدة في البحث.
ومن المؤكد أن الثراء الدلالي الذي تتمتع به اللغة، يعود إلى تعدد هذه الاختصاصات التي يكاد كل منها يستقل بآليات اشتغاله، لكن ضمن الإطار العام والمشترك للغة، والمصنف بين مستوياته الدنيا المتعلقة بالحياة اليومية، إلى مستوياته العليا، ذات الصلة بالقضايا الفكرية والإبداعية الكبرى. فاللغة الإبداعية على سبيل المثال لا الحصر، ليست في نهاية المطاف سوى إطار عام مشترك، تندرج فيه لغات إبداعية لا حصر لتنوعها واختلافها، حيث يحيل كل منها على مدارس بعينها، وعلى تيارات أو مذاهب قائمة الذات، قد تتشابه نسبيا فيما بينها، كما قد تتعارض وتتناقض، ما يساهم في إغناء اللغة أو اللغات المرتبطة بالخطاب الإبداعي والجمالي، حيث يمكننا في مرحلة أولى، الحديث بشكل عام عن مزايا اللغة الإبداعية ككل، وعن المقومات المؤثرة في انزياحها عن غيرها من اللغات والخطابات، كي نتحدث في مرحلة ثانية، عن اللغات الإبداعية الخاصة بتيارات معينة، وبمدارس بعينها. ثم في مرحلة تالية، يمكن الحديث عن خصوصيات الكتابات الإبداعية المندرجة في قلب كل تيار، وفي كل نظرية على حدة.
وتتشكل هذه الخصوصية من طبيعة الوعي الذاتي الذي تمتلكه الذات المبدعة تجاه الأبعاد الفكرية التي تتضمنها اللغة، وتجاه ما يحدث أن تمارسه من وظائف، يمكن إجمالها في بلورتها لدلالات قابلة للاستيعاب، وقابلة أيضا لأن تتخذ شكل منظومة تمتلك كل المقومات التي تجعل منها سلطة معرفية، تساهم في بناء ذهنية ما، أو هوية مجتمعية وثقافيه معينة. والتصور نفسه ينسحب على باقي الخطابات المتعلقة باختصاصات فلسفية، علمية، أو فقهية، تاريخية أو جغرافية وغير ذلك. ذلك أن التعدد الكبير لهذه الخانات، يترجم بشكل أو بآخر الاهتمامات المتعددة للذات البشرية، بوصفها عتبات معرفية لاقتحام تلك المدارات المغلقة، التي تحتجب فيها أرواح الحقائق وجواهرها.
على هذا الأساس، يحق للكائن عموما، أن يشعر بغير قليل من الزهو، لامتلاكه سلطة استثنائية يعود لها الفضل الكبير في تبديد ما ينشره غموض الكون أمامه وحوله من ظلمات، تراوح بين الشفافية والكثافة. فاللغة من هذا المنطلق، هي مصدر الامتياز الذي يتقدم به الإنسان تراتبيا على غيره من الكائنات. وبتعبير آخر، هي مصدر الامتياز الذي يخول له القدرة على ترويض جموح نسبة كبيرة من الظواهر الطبيعية، التي يشعره ثقل غموضها، بضعفه وضآلة شأنه. ومن المؤكد أن اللغة ستظل المفتاح الأكثر إجرائية، لاختراق المزيد من الغرف المغلقة على أسرار الوجود.
لكن وفي غمرة هذا الاطمئنان الكبير الذي تشملنا به السماء الصافية للغة، نفاجأ دوما بزحف بعض الغيوم الداكنة التي من شأنها أن تعكر صفو المشهد وجماليته، بفعل التباس حيثيات ما صنفناه سابقا في خانة وعي الذات بآلية اشتغال اللغة /الكتابة ووظائفها. وبالنظر إلى تعدد الإشكاليات المرتبطة بهذا الموضوع، التي سبق أن قاربنا بعضا من خطوطها العريضة في مقالات سابقة، فإننا سنتوقف في هذا السياق عند سؤال مركزي يتعلق بمدى تطابق مكونات الرسالة قبل التلفظ بها أو كتابتها مع المكونات ذاتها، بعد تحقق عملية انتظامها في نسق لغوي، ذي طبيعة شفاهية أو كتابية، حيث يمكن الجزم باستحالة هذا التطابق المؤثر بشكل ملموس في توسيع الهوة بينهما. ذلك أن سلطة اللغة تظل باستمرار محتفظة بهيمنتها على إرادة الكائن في ما يصبو إلى البوح به، من خلال استثمارها لرغبة الأفراد في القول، كي تتدخل مباشرة لتلزمهم بقول ما تريد هي قوله.
إن الفرد في هذا السياق يتحدث بلسان اللغة، وليس بلسانه هو. ومهما تميزت كفاءته في ضبط القوانين التعبيرية التي تزخر بها اللغة، إلا أن هذه الأخيرة، لا تعدم أبدا فرص العثور على ثغرات، بياضات وفراغات، كي تقحم خلسة وجهة نظرها الخاصة بها في الموضوع المراد تناوله، لأن الذات ليست مجرد آلة لغوية، تشتغل بشكل ميكانيكي حينما تكون في معرض بلورتها لقول، أو رأي ما، باعتبار أن اللحظة التعبيرية، تتشكل من صلب سيرورة تأملية مزدوجة، يتوجه شقها الأول نحو اختيار المعجم والبنيات النظمية الملائمة، فيما يتوجه الشق الثاني إلى عمق الفكرة، في أفق تكامل حدي السيرورة. وفي تضاعيف هذه الحركية تحديدا، تتفجر تلك البياضات وتلك الفراغات الناتجة عن التلكؤ الطبيعي الذي تستشعره الذات خلال معايشتها لحالة هذا التأمل المزدوج، وهي اللحظة التي تلقي فيها اللغة بثقلها الكبير، مالئة تلك البياضات وتلك الفراغات، بما ينسجم مع رؤيتها الخاصة للموضوع وليس بما هو متطابق مع رؤية الذات الكاتبة، أو المتحدثة التي تتحول إلى مجرد وسيط، تمارس عبره اللغة حضورها الخاص بها. وهو ما يؤثر ضمنيا في تحوير أبعاد الدلالات التي كانت تجهد نفسها للتعبير عنها. والجدير بالذكر، أن التدخل العنيف أو المبيت الذي تمارسه اللغة، قد يكون بفعل قلة خبرة الذات المتحدثة في العثور على البنيات اللغوية الملائمة، أو بفعل فقر زادها المعجمي، أو لمجرد انتشائها بتوظيف معجم لا صلة له بالرسالة المراد توصيلها.
الإمكانيات التأويلية التي تمده بها علاقته المرجعية باللغة المعتمدة في البحث.
ومن المؤكد أن الثراء الدلالي الذي تتمتع به اللغة، يعود إلى تعدد هذه الاختصاصات التي يكاد كل منها يستقل بآليات اشتغاله، لكن ضمن الإطار العام والمشترك للغة، والمصنف بين مستوياته الدنيا المتعلقة بالحياة اليومية، إلى مستوياته العليا، ذات الصلة بالقضايا الفكرية والإبداعية الكبرى. فاللغة الإبداعية على سبيل المثال لا الحصر، ليست في نهاية المطاف سوى إطار عام مشترك، تندرج فيه لغات إبداعية لا حصر لتنوعها واختلافها، حيث يحيل كل منها على مدارس بعينها، وعلى تيارات أو مذاهب قائمة الذات، قد تتشابه نسبيا فيما بينها، كما قد تتعارض وتتناقض، ما يساهم في إغناء اللغة أو اللغات المرتبطة بالخطاب الإبداعي والجمالي، حيث يمكننا في مرحلة أولى، الحديث بشكل عام عن مزايا اللغة الإبداعية ككل، وعن المقومات المؤثرة في انزياحها عن غيرها من اللغات والخطابات، كي نتحدث في مرحلة ثانية، عن اللغات الإبداعية الخاصة بتيارات معينة، وبمدارس بعينها. ثم في مرحلة تالية، يمكن الحديث عن خصوصيات الكتابات الإبداعية المندرجة في قلب كل تيار، وفي كل نظرية على حدة.
وتتشكل هذه الخصوصية من طبيعة الوعي الذاتي الذي تمتلكه الذات المبدعة تجاه الأبعاد الفكرية التي تتضمنها اللغة، وتجاه ما يحدث أن تمارسه من وظائف، يمكن إجمالها في بلورتها لدلالات قابلة للاستيعاب، وقابلة أيضا لأن تتخذ شكل منظومة تمتلك كل المقومات التي تجعل منها سلطة معرفية، تساهم في بناء ذهنية ما، أو هوية مجتمعية وثقافيه معينة. والتصور نفسه ينسحب على باقي الخطابات المتعلقة باختصاصات فلسفية، علمية، أو فقهية، تاريخية أو جغرافية وغير ذلك. ذلك أن التعدد الكبير لهذه الخانات، يترجم بشكل أو بآخر الاهتمامات المتعددة للذات البشرية، بوصفها عتبات معرفية لاقتحام تلك المدارات المغلقة، التي تحتجب فيها أرواح الحقائق وجواهرها.
على هذا الأساس، يحق للكائن عموما، أن يشعر بغير قليل من الزهو، لامتلاكه سلطة استثنائية يعود لها الفضل الكبير في تبديد ما ينشره غموض الكون أمامه وحوله من ظلمات، تراوح بين الشفافية والكثافة. فاللغة من هذا المنطلق، هي مصدر الامتياز الذي يتقدم به الإنسان تراتبيا على غيره من الكائنات. وبتعبير آخر، هي مصدر الامتياز الذي يخول له القدرة على ترويض جموح نسبة كبيرة من الظواهر الطبيعية، التي يشعره ثقل غموضها، بضعفه وضآلة شأنه. ومن المؤكد أن اللغة ستظل المفتاح الأكثر إجرائية، لاختراق المزيد من الغرف المغلقة على أسرار الوجود.
لكن وفي غمرة هذا الاطمئنان الكبير الذي تشملنا به السماء الصافية للغة، نفاجأ دوما بزحف بعض الغيوم الداكنة التي من شأنها أن تعكر صفو المشهد وجماليته، بفعل التباس حيثيات ما صنفناه سابقا في خانة وعي الذات بآلية اشتغال اللغة /الكتابة ووظائفها. وبالنظر إلى تعدد الإشكاليات المرتبطة بهذا الموضوع، التي سبق أن قاربنا بعضا من خطوطها العريضة في مقالات سابقة، فإننا سنتوقف في هذا السياق عند سؤال مركزي يتعلق بمدى تطابق مكونات الرسالة قبل التلفظ بها أو كتابتها مع المكونات ذاتها، بعد تحقق عملية انتظامها في نسق لغوي، ذي طبيعة شفاهية أو كتابية، حيث يمكن الجزم باستحالة هذا التطابق المؤثر بشكل ملموس في توسيع الهوة بينهما. ذلك أن سلطة اللغة تظل باستمرار محتفظة بهيمنتها على إرادة الكائن في ما يصبو إلى البوح به، من خلال استثمارها لرغبة الأفراد في القول، كي تتدخل مباشرة لتلزمهم بقول ما تريد هي قوله.
إن الفرد في هذا السياق يتحدث بلسان اللغة، وليس بلسانه هو. ومهما تميزت كفاءته في ضبط القوانين التعبيرية التي تزخر بها اللغة، إلا أن هذه الأخيرة، لا تعدم أبدا فرص العثور على ثغرات، بياضات وفراغات، كي تقحم خلسة وجهة نظرها الخاصة بها في الموضوع المراد تناوله، لأن الذات ليست مجرد آلة لغوية، تشتغل بشكل ميكانيكي حينما تكون في معرض بلورتها لقول، أو رأي ما، باعتبار أن اللحظة التعبيرية، تتشكل من صلب سيرورة تأملية مزدوجة، يتوجه شقها الأول نحو اختيار المعجم والبنيات النظمية الملائمة، فيما يتوجه الشق الثاني إلى عمق الفكرة، في أفق تكامل حدي السيرورة. وفي تضاعيف هذه الحركية تحديدا، تتفجر تلك البياضات وتلك الفراغات الناتجة عن التلكؤ الطبيعي الذي تستشعره الذات خلال معايشتها لحالة هذا التأمل المزدوج، وهي اللحظة التي تلقي فيها اللغة بثقلها الكبير، مالئة تلك البياضات وتلك الفراغات، بما ينسجم مع رؤيتها الخاصة للموضوع وليس بما هو متطابق مع رؤية الذات الكاتبة، أو المتحدثة التي تتحول إلى مجرد وسيط، تمارس عبره اللغة حضورها الخاص بها. وهو ما يؤثر ضمنيا في تحوير أبعاد الدلالات التي كانت تجهد نفسها للتعبير عنها. والجدير بالذكر، أن التدخل العنيف أو المبيت الذي تمارسه اللغة، قد يكون بفعل قلة خبرة الذات المتحدثة في العثور على البنيات اللغوية الملائمة، أو بفعل فقر زادها المعجمي، أو لمجرد انتشائها بتوظيف معجم لا صلة له بالرسالة المراد توصيلها.
وهذا الخلل مهيمن على أغلب الخطابات الهادفة عادة إلى إقناع الآخرين بحقيقة ما، سواء ما هو متداول منها في الفضاءات الخاصة أو العامة، كما لو أن قدر الكائن محكوم دائما بالسير في الاتجاه الخطأ، وبتزكية تامة من أوهامه التي بقوة وجلال استيطانها لدواخله، تجعله يعمى تماما عن رؤية ما يتخلل خطاباته من بياضات وفراغات قادرة في حالة إنصاته لها، أن يقف على رعب وهول المفارقات المؤثثة لوجوده.
نخلص من هذه الإشارات إلى القول، بأن الكائن نادرا ما يفلح في ترويض اللغة بغاية تحويلها إلى وسيط يصل بينه وبين ما يطمح إلى التعبير عنه، كما نستخلص أن اللغة هي التي تنجح في توظيف الكائن كوسيط لما تلح هي على تعميمه وتوصيله من خطابات وأفكار، كي يظل بالتالي ذلك الشقاق الأبدي محتفظا بهيمنته واستمراريته، خاصة حينما يتعلق الأمر بالحرب الضروس الدائرة رحاها أبدا بين الخطابات اللاهوتية، بتعدد أزمنتها ومرجعياتها، وهي لا تكف – مثلا- عن توريط نفسها في بناء وصياغة تصوراتها المضحكة، حول هوية الخالق الأول، بدون أن تنتبه إلى أن كل ما تسرف في نحته من أوصاف وتوصيفات، قد ينسحب على الكائنات البشرية أو الحيوانية، وحتى الخرافية، بدون أن يرقى لبلورة الحد الأدنى من رؤية لاهوتية قابلة للتصديق. كي يظل الاقتناع بها في حكم الاستحالة، بالنظر لتمحورها حول «ذات»يقتضي الحديث عنها تجريب لغة أخرى غير اللغة البشرية، التي لا نرجح في جميع الأحوال، أن تكون لغة مستمدة من منطق الطير، أو من منطق النمل.
نخلص من هذه الإشارات إلى القول، بأن الكائن نادرا ما يفلح في ترويض اللغة بغاية تحويلها إلى وسيط يصل بينه وبين ما يطمح إلى التعبير عنه، كما نستخلص أن اللغة هي التي تنجح في توظيف الكائن كوسيط لما تلح هي على تعميمه وتوصيله من خطابات وأفكار، كي يظل بالتالي ذلك الشقاق الأبدي محتفظا بهيمنته واستمراريته، خاصة حينما يتعلق الأمر بالحرب الضروس الدائرة رحاها أبدا بين الخطابات اللاهوتية، بتعدد أزمنتها ومرجعياتها، وهي لا تكف – مثلا- عن توريط نفسها في بناء وصياغة تصوراتها المضحكة، حول هوية الخالق الأول، بدون أن تنتبه إلى أن كل ما تسرف في نحته من أوصاف وتوصيفات، قد ينسحب على الكائنات البشرية أو الحيوانية، وحتى الخرافية، بدون أن يرقى لبلورة الحد الأدنى من رؤية لاهوتية قابلة للتصديق. كي يظل الاقتناع بها في حكم الاستحالة، بالنظر لتمحورها حول «ذات»يقتضي الحديث عنها تجريب لغة أخرى غير اللغة البشرية، التي لا نرجح في جميع الأحوال، أن تكون لغة مستمدة من منطق الطير، أو من منطق النمل.
٭ شاعر وكاتب من المغرب
القدس العربي وباتفاق مع الكاتب