انطفأ محرّكُ سيّارته فجأةً وهو يهمُّ بالانطلاق مع فتحِ الإشارة الضّوئيّة، فانهالت عليه الزّوامير السّاخطة وأبواق المركبات حوله، مع خليطٍ من العبارات الغاضبة وبعض
الشّتائم التي وصلته وهو ساكنٌ مرتبكٌ حائرٌ غاضب، إذ لم تكن تلك المرّة الأولى التي تخذلُه فيها سيّارته العتيقة التي قرّرت، كما بدا له، إحالة ذاتها على التّقاعد بدون أن تستأذنَ منه!اقتربَ منه صبيٌّ من بائعي اليانصيب المتجوّلين يعرضُ عليه المساعدة، فلم يعرف بماذا يجب وهو يتأمّلُ الصّغير بملابسه الرّثّة وصوته المشوب بالانكسار، ثمَّ ليجده يهرعُ فينادي صبيةً آخرين ويبدأون في دفع المركبة إلى أن دارَ المحرّكُ من جديد، ولم يعرف بمَ يُكافئ الصّغير وهو يعلمُ تماماً أن ليس في جيبه سوى القليل من القطع المعدنيّة، لكنّه جازفَ ومدّها له ليُفاجأ بالصّبي يُناوله ورقة يانصيب وهو يقول بحماسة: «السّحبُ غداً يا ربّ تكسب» ويمضي بعيداً.
دسَّ الورقة في جيبه ليتابعَ طريقه وهو يشعرُ بالسّخف ويُغمغمُ بسخرية: «أكسب؟ أنا؟ ستكون طرفة الموسم» ثمَّ عاد ليتذكّر أنَّ له مواقفَ شهمةً مع عديدين، وأنّه قضى عمرَه وهو يفعلُ الخيرَ للآخرين بدون أن ينتظرَ كلمة شكر. ونظرَ إلى السّماء أمامَه فلمحَ حفنةً من أشعة الشّمس الذهبيّة قد شقّت طريقها وسطَ غيوم الخريف الرّمادية، فقرّرَ أن يتفاءل مُقنعاً نفسَه أنّها إشارةٌ إلى أنَّ الفرجَ قريب، ولعلّه الوقت المناسب لأن تُكافئه الأقدارُ أخيراً بعد أن خاصمته، وعملت ضدّه طوال عمره عن سبق الإصرار والتّرصّد، لكن ليس بعد الضّيق إلا الفرج.. نعم، الفرجُ ها هنا قابعٌ في جيبه.
وصلَ إلى مكان عمله، صعدَ الأدراج بخفّة، طلب قهوته الصباحيّة من المراسل وهو يُقرّرُ أنّه سيدفع له قريباً الحسابَ القديم المتراكم للقهوة والشّاي مع إكراميّةٍ سخيّة!
ثمَّ قرّرَ أنَّ أولويّاته ستكون في شراء شقّة، سقفٍ يأويه وأسرَته فيرتاح من همّ الإيجار إلى الأبد، وابتسم وهو يتخيّلُ نفسه يدفع لصاحب البيت الدّيون المتراكمة فينهي العلاقة مع ذلك المتعجرف العابس المتأفّف في وجههه كلّ صباح. ودخلَ أحدُ الزّملاء، فسأله عن أفضل أنواع السّيارات مضيفاً ببعض الزّهو أنّه بصدد ابتياع واحدة، ليشرعَ الآخر في تقديم خبرتِه ونصائِحه وتوجيهاتِه حتى استقرَّ الرّأي على نوعٍ معيّن.
بعد انتهاء الدّوام، ولحظة وصوله إلى البيت، طلب من زوجته كتابة قائمةٍ بالحاجيّات الضّروريّة المتعلّقة بكسوة الشّتاء للأولاد، وتأمّلها وهي منهمكةٌ بفرح في الكتابة ليعدَ نفسه بشراء مصاغٍ جديدة لها بدل تلك التي باعها في أزماته الماديّة المتلاحقة!
في الليل، ألقى نفسه في فراشه وهو ينظرُ حولَه باستياء ليُقرّرَ تغييرَ الأثاث جميعِه بما يليقُ مع الشّقة الجديدة، هذا بعد أن يُسدّدَ الأقساط المتبقيّة لأثاثِ منزلِه هذا الذي أوشك على الاهتراء.
تقلّبَ قليلاً ثمَّ شعرَ بوخزةٍ في ضميره إذ نسيَ والدَه الذي يسعى لإنشاء مشروعٍ صغير يُشغلُ به نفسه بعد إحالته على التّقاعد مؤخّراً، وكذلك أخاه الخاطب الذي استدان تكاليفَ الزّواج من هنا وهناك، فعزمَ على مساعدة الاثنين مادّياً، كما قررَّ ابتياع ثيابٍ جديدة للصّبي وتقديم مبلغٍ سخيّ لعائلته بعد أن يُقنعهم بضرورة إعادته إلى المدرسة ثمَّ بحسبةٍ بسيطة اكتشفَ أنَّ قيمة الجائزة الأولى قد لا تفي المطالبَ تلك كلّها، فتمنّى لو أنّهم زادوا قليلاً من قيمتِها.
قفزَ من سريره في صباح اليوم التّالي للاطّلاع على النّتائج المُعلنة على الموقع الإلكتروني للجائزة، وانهمك يأكلُ الأرقامَ الفائزة بعينيه ليرى أنَّ لا رقمَ منها يُقارب ما لديه من قريبٍ أو بعيد! مضت أيّام إلى أن تعطّلت سيّارته إيّاها عند الإشارة نفسها، فاقتربَ منه الصّبيُّ ذاتُه ليعرضَ عليه المساعدة، هنا، قفزَ صاحبُنا منها فجأةً وبدأ في تحريكِها مع الصّبية الآخرين أنفسِهم، إلى أن أوصلوها إلى زاويةٍ مناسبة، ثمَّ جلس لاهثاً على طرف الرّصيف، تأمّل البراءةَ في العيون حولَه، استمعَ إلى صخبهم المُفعمِ بالنّقاء، سحرتُه أرواحُهم الصّافية المشرقة، فشعرَ بأنّه مُحاطٌ بأصدقاءَ من نوعٍ خاصّ، تنهّدَّ بارتياح لم يدرِ له سبباً، ليجدَ نفسَه يمدُّ يده إلى جيبه فيوَّزع ما يملك من نقود عليهم، ثمَّ لتداهمه موجةُ ضحكٍ لم يدرِ لها سبباً، شاركَه فيها بعدوى الضّحك الصّغارُ كلّهم، وبعضُ المارّة، فانتشر الضّحك والابتسامات في الشّارع كلّه، وهكذا حتى غادرَ المكان إلى مكتبه، وقضى يوماً عاديّاً مثلَ بقيّةِ أيّامه.
٭ كاتبة أردنية ووزيرة سابقة