-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

قصة قصيرة (النعناع والماركيتينغ...) عزيز رزنارة .


أوقف حميد سيارته على الشريط الرملي الجانبي للطريق الرئيسية التي تمر وسط السوق القروي الأسبوعي بمحاذاة أحد المقاهي المنتشرة على طول الرصيف. اعتاد تناول فطور ثاني هو أشبه
بوجبة غذاء قبل الأوان في هذه الأسواق الشعبية كلما كانت وجهته نحو جنوب البلاد.  كانت الساعة في حدود العاشرة صباحا وهي ذروة الحركة في السوق حيث تكون الذبائح قد تم الترخيص لها بالبيع من بيطري السوق، فيأخذ منها أصحاب المقاهي والمطاعم حاجتهم لتحضير وجبات الفطور والغذاء للمتسوقين من أبناء الناحية وزوار السوق من تجار وعابري الطريق.
وكما تقتضي طقوس الأسواق الأسبوعية في البادية المغربية لمن خبروها من مرتادي هذه الطريق من سائقي الحافلات والشاحنات وسيارات الأجرة والسيارات الخاصة ، وكما تعود حميد  من خلال تجربته مع مقاهي الأسواق الشعبية التي يتوقف بها في تجواله عبر مدن البلد، قرر  شراء بعض مستلزمات الأكل تفاديا للغش والتلف، مثل اللحم، خصوصا لحم الغنم لمن يخشى أن يباع له بدل ذلك لحم الماعز دون أن يدري ، أوحبوب الشاي الأخضر الصيني من نوعية ممتازة، أو النعناع الطري. بعد دقائق قليلة استكمل حميد تسوقه باقتناء اللحم للشواء والشاي والسكر ثم ولى وجهه نحو المقهى التي ركن سيارته أمامها. انتبه، قبل عبور الطريق إلى أنه نسي النعناع الأخضر فعاد أدراجه إلى السوق حيث تجلس العديد من النساء عند مدخله لبيع رتل من الخضر وبعض الأعشاب من بينها النعناع. لمح من بعيد سيدة عجوزا تستظل بظل جدار متهاو وقد وضعت أمامها بعض باقات النعناع الأخضر المشدودة بشريط من الدوم، إضافة إلى أكوام أخرى لأعشاب تضاف عادة لتحضير الشاي. استوقفه منظر المرأة العجوز التي ملأت التجاعيد وجهها وبرزت عروق يديها، ولبث واقفا مكانه بضع ثواني ينظر إليها بشفقة قبل أن يتقدم منها ويبدأ في فحص ربطات النعناع. ثم سألها:
-         شحال النعناع أميمتي
-         عشرة دريال للقبطة
تفحص كثلة "قبطات" النعناع المتراكمة أمامها، وبنظرة التاجر الفاحص قدر عددها بحوالي عشرين "قبطة" مما يعني أن سعرها كلها هو عشرة دراهم. وانتابته فجأة مسحة شفقة  قرر ترجمتها مباشرة إلى كرم، اعتبره في نفسه، حاتميا تجاه العجوز، إذ عزم بينه وبين نفسه أن يشتري كل النعناع بضعف السعر أي عشرين درهما.  فقال وهو يبتسم:
-         شحال غادي تخلي لي الربطات كلهم؟
يبدو أن العجوز لم تفهم سؤاله، فأعادت عليه جوابها الأول كأنه يسألها لأول مرة:
-         عشرة دريال للقبطة
-         شوفي أميمتي، غادي نعطيك اربعماية ريال، وناخد النعناع كله. شوفي لي شي خنشة صغيرة وجمعي لي فيها النعناع.
قال جملته الأخيرة وكأنها تحصيل حاصل، أو نوع من الأوامر التي تعودها في مجال عمله أو مما يسمى في عالم التجارة بالعرض الغير القابل للرفض.  كان قد جلس القرفصاء أمام العجوز ليتملى بمشاهدة الفرحة على وجهها بعد عرضه السخي. وفجأة التقت عيناه بعينيها الذابلتين. لم ير فيهما أي أثر لعرضه السخي كما توقع. استنتج أن العجوز لم تستوعب بعد ما عرضه عليها، فأعاد اقتراحه:
-         آلميمة، غادي نعطيك عشرين ريال لكل قبطة هي اربعماية ريال للنعناع كله. وجمعي لي النعناع في شي ميكة باش نديرو في الطوموبيل...
رفعت العجوز عينيها إليه ولم يبد فيهما أي بريق أو إشارة لفرح بصفقة، وسألته:
-         علاش؟
لم يفهم طبيعة ولا موضوع سؤالها، وسألها بدوره:
-         كيفاش علاش؟ بغيت ناخد النعناع كله نديه معاي للدار، وانت غادي تربحي مزيان.
ويبدو أن الجملة الأخيرة كان فيها ما يوحي بأنه أشفق عليها ويود مساعدتها بشكل غير مباشر، ولكن جوابها كان كالصاعقة:
-         شوف آولدي، خد النعناع اللي خاصك باش تصاوب أتاي ديالك وخللي الباقي باش نبيعه
ورد عليها بنفس سؤالها السابق:
-         وعلاش؟
لم تكلف نفسها عناء النظر إليه، بل انشغلت عنه بإعادة ترتيب باقات النعناع التي شتتها حميد وهو يقلبها. ولما أحست باضطرابه وهو جالس القرفصاء ينظر إليها حائرا، رفعت إليه عينيها وهو مازال أمامها. ولأول مرة لا حظ بريقا غريبا يشع من عينيها أضاء قليلا من العمش المتجمد في زاوية التقاء جفنيها. قالت وهي لا تزيح عينيها عنه:
-         شوف آولدي، الله يجازيك بخير. هاد النعناع اللي قدامك غادي نبيعو كله ان شاء الله، كيف ديما نهار السوق. الناس ديال الدوار باقين مشغولين دابا مع الاول ديال السوق. من شوية كلشي غادين يجيو يسلموا علي وكل واحد غادي ياخد قبطة ديالو ويحط عشرة دريال بلا ما نشوفو. عندي 2 اولادي وعندهم اولادهم ما كانشوفهوم غير من السوق للسوق... وبناتي 3 مزوجات وساكنين في دوار آخر، كايجيو للسوق باش يشوفوني ويسولوا علي... إلى بعت ليك النعناع كله دابا، آش غادي نبقى ندير في السوق؟ خصني نشوف الاحباب والناس ديال الدوار كلهم ونسلم عليهم ويسلموا علي ونسولهم على اخبار اللي ما جاش، وكل واحد كياخد قبطة ديالو ديال النعناع وفي الآخر كيجي ولدي الصغير كنتغذى معه ونرجعوا للدوار.....
بقي لبرهة في جلسته القرفصاء وكأنه يسمع درسا وافيا عن مفهوم آخر للتجارة... وهو الخبير في علوم وتقنيات التسويق. أطرق برأسه وهو يحاول أن يستعيد كلمات العجوز الأخيرة ويلبسها تعابير أكاديمية مما تعود على إلقائه أمام مستمعيه. انتبه إلى أنه مكث وقتا طويلا في جلسته غير المريحة وأحس بركبتيه تؤلمانه قليلا. جاهد نفسه على الوقوف بينما كانت العجوز منهمكة في إعادة ترتيب رتل "القبطات" الخضراء ورشها بقليل من الماء قبل أن تسدل عليها قماشا مبللا من "الخيش" يحفظ لها طراوتها تاركة فسحة كافية لكي يرى الناس النعناع وينتقون منه ما يريدون.
أخد حميد "قبطة" واحدة احتراما لرغبة العجوز، التي لم تأبه لقطعة "عشرة دريال" التي وضعها بين مجموعة قطع نقدية مرمية قرب ركبتها المطوية على حصير رث من "الدوم". لما استقر على مقعده الخشبي بالمقهى في انتظار شي اللحم وتحضير الشاي، شرد بذهنه يحاول استعادة الحوار الذي دار بينه وبين العجوز. تذكر كل كلمة قالتها لكنه استعصى عليه أن يستوعب منطقها بعدم قبول عرضه السخي. شرد بذهنه كثيرا يحاول تفسير هذه النسبية الجديدة للوقت التي لقنته إياها سيدة عجوز تتعامل مع "الزمن" حسب رغبتها وليس انصياعا له بتحقيق أكبر ربح ممكن في أقل زمن متاح. تذكر فجأة أنه منذ انطلاقته صباحا وطيلة مسافة الطريق من بيته إلى السوق كان يرتب أفكاره بحسب موضوع المحاضرة التي كان سيلقيها على مجموع الوكلاء التجاريين للمجموعة التي يعمل بها مسئولا عن التسويق أو الماركيتينغ. كان يجوب كل مناطق البلاد دوريا للقائهم وتطوير أدائهم بما يخدم السياسة التجارية للشركة الأم. وافتر فمه عن ابتسامة ساخرة عندما تذكر أن موضوع لقائه اليوم كان حول تسخير شبكة العلاقات الشخصية لتطوير التجارة وجلب زبائن جدد المعارف. كانت سخريته نابعة من قساوة الدرس الذي تلقاه اليوم بأن العكس ممكن أيضا وصحيح جدا: تسخير التجارة لتطوير العلاقات والحفاظ على أواصر التواصل مع المحيط العائلي الذي تشتته ظروف الحياة.
استفاق من شروده أمام نادل المقهى وهو يضع أمامه طبق اللحم المشوي وصينية براد الشاي  وخبزة دائرية تم تسخينها للتو وما زالت تحمل آثار الرماد والفحم. وكما طلب ذلك من النادل تم غسل النعناع ووضعه في كاس لكي يضيفه للشاي حسب رغبته. حملق كثيرا في باقة النعناع الصغيرة التي تحدت كرمه الحاتمي، بل ولقنته درسا جديدا في الماركتينغ قرر بينه وبين نفسه أن يضيفه إلى محتوى ما كان سيتكلم بشأنه مع مستمعيه من موظفي المبيعات بفرع الشركة. وضع ربطة النعناع كلها في البراد وانتظر قليلا لكي تتحلل في الشاي الساخن ويكون مفعولها موازيا لما أحدثته في نفسه من أثر سيبقى يتذكره لوقت طويل...

الدارالبيضاء في 25 اكتوبر 2018


عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا