ـ 1 ـ
يزحف
الخريف على الأرصفة و الأفاريز... ناشرا سحابات قطنية على هامات البيوت الواطئة ،
مصابيحُ غافية و مويجات تلفظ آخر أنفاسها على الشاطئ المغبش . على إيقاع الغنج و
الدلال ، قطعا معا المساءات الندية ، حتى وصلا جسر العبور الآمن .
نظر إليها بدر، ماسحا رذاذا رُضابيا
على جبينها كحُبيبات زُمردية ، تتخاطفها الألوان . وقال : أنت شاعرة بالدَّواخل ،
لا تراجع و لا رجوع .اِحفظي القوافي...فالزمن الشعري آت ، كالطوفان ... يقتلع
الأغراس و يقيم الأعراس .
قالت بديعة :
ـ الجدب كل الجدب ... عندما تحتد
الريح ، لن أنظر إلى الوراء. هاهي الشمس ترسل الوداع مع آخر نورس نخره الانتظار...
ويبتلعها الأزرق الكتوم .
طاف حولها متلمسا بكلتا يديه بطنها ،
الذي يزداد انتفاخا يوما عن يوم .
قال لها ، وهو يجلس القرفصاء :
ـ متى سيرى النور هذا الجهمي ؟
أجابته ، و هي تهز نظرها إليه من تحت رموشها
الفحماء : بالأمس كنت أنا و ميسان عند الطبيب ، أجرى لي كل الفحوصات اللازمة ،
فبدا الجنين و المشيمة في صحة جيدة ، قاس الأطراف و النخاع و حجم الدماغ أيضا .
تبسمت بديعة فظهرت أسنانها مرصّعة
بيضاء كالبرَد ، وقالت : انتهى ، إلى حين ، التاريخ الدموي إذن ... قاطعها بدر
واضعا راحة يديه على فمها . وقال:
ـ لا تقولي ، إنك لا تعرفين جنسه ؟
أطبق السكون على المكان ، إلا من هدير مويجات
حالمة تلهو كطفل ، و ترغو فوق أحجار الفيروز البيضاء و الأرجوانية . أخذت إحداها فأرسلتها بعيدة في الزحمة بين ظل النوارس و
الماء . فسح لها الطريق ، فنزلت كسيدة الضوء نحو شاطئ باردةِ رماله.
قالت بديعة :
ـ قرأت ، في بعض المجلات المتخصصة ،
حديثا عن سلوكيات الأجنة في الأرحام ؛ تأخذ الأنثى في الجهم المنحى العرضي، وتبدو
منكمشة على نفسها في طقوس الولادة محافظة على جسدها الذهبي ؛ وتظل ملتصقة الساقين .
بينما المخلوق الذكري يأخذ المنحى الطولي، ويثور رافضا هذه العتمة، التي تصفده و
تكبله... ويشرع في الركل والرفس ... يتذوق مرارة الحياة ، بما هي صراع في صراع ...
وفي هذا ينشدان أسطورة العيش الأبدي . رفعت بديعة فستان اللِيكْرا الأحمر بقماشه
الناعم ، ذا عروة وحيدة جهة الظهر ؛ فكشفت عن ساقيها وبطنها. تحسس بدر بأذنه كل
مناحي جسدها العاري السبط الأملس، و قال:
ـ إنني أسمع غيثك غيثك الميمون
أصواتا ، تناديني من أعماق جسدك الغوير... أصوات ترسل عبر أثير السوائل ؛ التي
تسبح فيها الحياة . أسدل بدر ستار قماش اللَِيكْرا على الجسد الفارع ، وأخذها بين
ذراعيه ، فبدت كعصفورة ضمها الخريف.
ـ
2 ـ
تذكرت بديعة ما قالته أمي طاما ،
عندما لفت بطنها بخيط الفتيل الأبيض، و بقياسات جدولة و تمتمات غريبة... تستطيع أن
تكشف عن سر من أسرار طوق الرماد الداجي بين العَتْمة والضوء ؛ أسرار الأجنة . وضعت
أمي طاما على حبل غسيل جدولا ، ذا تربيعات متداخلة ، فبدأت تنط من فوقه بقلم
الأبنوس المخضل بالحناء ، الذي يجلب السَّعد ؛ إلى أن توقفت قطيرات الحناء على
تربيعة قصية ... فتقرؤها... قارئة التربيعات !
رفعت بقعة الحناء في الضوء بين
الارتواء و الاجتفاف. فظهر الجسد المرمري الممشوق، يُدق فيه الانتفاخ رويدا...
رويدا. وصاحت :
ـ وجدتها ! وجدتها!