إذا تحرّر العقل استقام
الإنسان. فالعقلُ المحرَّر يحدّد مقياس الفهم والقدرة على استيعاب الأمور ونقدها
بدقّة المتأمّل. وأعني بالعقل المتحرّر، العقل القادر على قبول كلّ صورة أو فكرة
أو نظريّة دون أن تستأثر به ردّات فعل
عشوائيّة أو أحكام مسبقة فتمنعه من تبيّن المعنى.
والقبول لا يعني الاقتناع، وإنّما
القبول يسمح للعقل أن ينقد الفكرة أو يطوّرها أو يرفضها ضمن أصول معيّنة. ولعلّ
هذا الأمر يحتاج إلى تدريبٍ وتثقيف وتحرير داخليّ من شوائب الموروث العقليّ
والنّفسيّ، ومن منطق "العيب" بدل منطق الجدل أي الحركة الذّهنيّة
والنّشاط الذّهني الّذي يخرج الإنسان من دائرة الجهل إلى دائرة الفهم، من دائرة
الحماقة إلى دائرة الاتّزان العقليّ. إنّ الرّصانة العقليّة تحصر الصّورة أو
الفكرة في العقل ليشتغل المخزون المعرفيّ والثّقافيّ على فهمها وإدراك معناها. كما
أنّ الرّصانة العقليّة تشكّل رادعاً لردّات الفعل والأسلوب غير اللّائق، فيتلقّى
العقل الصّورة أو الفكرة ببساطة بمعزل عن الضّغط الثّقافيّ الموروث المرادف
للتّحريم والتّحليل، ويجادلها بأصول الفهم وآداب التّعبير عن الرّأي.
ولعلّ أكثر من يواجهون مشكلة في التّعامل مع العقول هم الكتّاب والشّعراء
والمثقّفون بشكل عام. فالكتابة تفترض بالدّرجة الأولى عقلاً أفرغ ذاته من شوائب
كثيرة ثم ملأها مخزوناً ثقافيّاً ثمّ كوّن رأياً خاصّاً انطلاقاً من الخبرة
الحياتيّة والمعرفيّة ثم نقل هذا الرّأي وعبّر عنه في نصّ أدبيّ. والكاتب الحقيقيّ
هو الّذي لا يملي عليه أحد ما يكتب وما لا يكتب، وهو الّذي يعبّر عن ذاته بصدق
وشفافيّة، ويراقب ويلتقط الأفكار والسّلوكيّات ودقائق الأمور ليعبّر عن الآخر بذات
الصّدق والشّفافيّة. قد لا يحلو للبعض ما يكتب هذا الكاتب أو ذاك أو هذه الكاتبة
أو تلك، وقد يتعرّضون لشخصه أو شخصها بما لا يليق، وهذا يعود إلى مشكلة القارئ مع
نفسه، لأنّه غير قادر على التّعامل فكريّاً مع نصّ أدبيّ. فإمّا يرفعه إلى مستوى
القداسة إذا ما أعجبه النّصّ، وإمّا ينحدر به إلى مستوى الدّنس إذا ما كان غير
راضٍ عنه. فيكون الحكم على الشّكل النّصّي بمفهومه الضّيّق، ولا يكون الحكم
انطلاقاً من مبدأ الفهم. لأنّ الفهم يقود إلى نقد المعنى لا إلى نقد الشّخص (شخص
الكاتب/ة)، وأمّا الحكم على المعنى الشّكليّ فما هو إلّا دلالة على عدم الفهم.
نشر الأديب الفلسطينيّ
فراس حج محمّد في ديوانه الأخير "ما يشبه الرّثاء" قصيدة بعنوان
"صفّ من النّسوان" الّتي أثارت حفيظة بعض القرّاء وعبّروا عن عدم رضى
على النّصّ بحكم أنّه نصّ لا أخلاقيّ ومفسد للقارئ. ما دفعني إلى التّأمّل بكيفيّة
تلقّي القارئ الذّهنيّة للنّصوص وتبيّن أسس اعتماده على رفض هذا النّصّ أو ذاك.
فالهجوم على شخص الأديب بحجّة كتابة نصّ لا أخلاقيّ يدلّ بالدّرجة الأولى على
مستوى عقليّ فاضح عند بعض الّذين يدّعون الثّقافة. لأنّه عندما نقرأ نصّاً أدبيّاً
وخاصّة نصّاً شعريّاً علينا كقرّاء أن نتبيّن المعنى المستتر لا المعنى الشّكليّ
وحسب.
القارئ هو النّاقد
الأوّل لأيّ نصّ، وهو مالك النّصّ حينما يتمّ نشره، وهو العنصر الّذي يبحث عنه
الكاتب أو الشّاعر. فالكتابة مرتبطة أوّلاً وآخراً بالقارئ، وبالتّالي فللقارئ
أهمّيّة كبرى في عينيّ الكاتب لذلك عندما يقدم على كتابة نصّ يفترض أنّ قرّاءه
أذكياء. وأظنّ أنّ ما يكسر الكاتب قارئ جاهل يدّعي الفهم. وكثيرة هي النّصوص الّتي
يعترض عليها بعض القرّاء انطلاقاً من مبدأ المحرّمات، المبدأ الّذي أصبح مملّاً ما
يدعو إلى عدم الخوض فيه.
إلّا أنّه من الممكن
تبيّن أنواع القرّاء ومستوياتهم الفكريّة وربّما النّفسيّة، انطلاقاً من هذه
النّوعيّة من النّصوص الّتي تُصنّف ضمن خانة المحرّمات. ويبدو لي أنّ القرّاء مستويان:
الأوّل، القارئ الحرّ:
وهو الّذي يقرأ بعقله الحرّ أيّ نصّ ويسبر أغواره ليتبيّن المعنى أو ليقترب منه.
فإمّا يشعر بأنّ هذا النّصّ أو ذاك يعبّر عنه فيعيد قراءته ويحتفظ به في قلبه
ويخزّنه في عقله، وإمّا يعرض رأياً مخالفاً، أو لا يقتنع بالنّصّ وهذا حقّ. ثمّة
قرّاء لا يدركون المعنى الّذي في قلب الشّاعر عقليّاً لكنهم يحسّون به في قلوبهم
وهذا منتهى الفهم، لأنّ القارئ هنا يتعامل مع روح النّصّ.
الثّاني، القارئ
المسكين: وقد يكون هذا النّوع من المثقّفين أو الّذين يدّعون الثّقافة. هذا
المستوى من القرّاء هو الّذي يقرأ نصّاً انطلاقاً من مفهومه الضّيّق للحياة،
وانطلاقاً من محرّمات دينيّة وثقافيّة، فينصّب نفسه وصيّاً على الكاتب فينعته
بأقبح النّعوت، ويهين كرامته. وإذا ما توجّه القارئ في اتّهاماته نحو الكاتب فاعلم
أنّه مسكين، لأنّه لا يستطيع أن يتبيّن أنّ عليه التّعامل مع النّص وليس مع الكاتب،
واعلم أنّه لم يُجِد قراءة النّصّ. فلا يوجد كاتب فاسق وكاتب محترم، أو كاتبة
فاسقة وأخرى محترمة. الكتابة هي الكتابة، وكلّ فكرة فيها مباحة شرط أن تقدّم فكراً
للقارئ، والكاتب/ة حرّ في ما يكتب شاء من
شاء وأبى من أبى. وحرّيّة الكاتب غير الابتذال والانحطاط الثّقافيّ والمعرفيّ.
إنّها حرّيته الفكريّة والنّفسيّة الّتي تسمح له أن يبلور أفكاره ويضعها بين يدي
القارئ.
لعلّ قصيدة الأستاذ فراس
حج محمد أثارت مسكنة هذا النّوع من القرّاء وخاصّة النّساء منهم. لعلهنّ اعتبرن
أنّه يهين المرأة أو يحطّ من قدرها، فعبّرن عن رأيهنّ بشكل غير لائق ليظهرن عن ضيق
أفقهنّ وعدم قدرتهنّ على ولوج معنى النّصّ الّذي يمكن تبيّنه من العنوان أوّلاً
"صفّ من النّسوان". استخدم الشّاعر تعابير شعبيّة تدلّ القارئ على المعنى
الّذي يتضمّنه النّص أو القصيدة. فالشّاعر ضيّق دائرة المعنى وحدّدها بتعبير
(النّسوان) ولم يستخدم تعبير (النّساء). كما أنّه استخدم دلالات لفظيّة مرتبطة
بهذا الصّنف من النّسوان تحديداً، لكنّه يصف مشهداً يعبّر من خلاله عن منتهى القبح
الّذي جعله أمامه كمناقض للجمال. وفي النّصّ ذاته يشير إلى النّاظر إليهنّ قائلاً: "يضحك
إذ يشير بكلتا يديه كأنّه متقلّب ذات اليمين وذات الشمال بكهف القرَدةْ"، أي
إلى الآخر/ الرّجل الّذي يصفه بذات القبح.
- شَبِقٌ أنا لو أنّهنّ معي في ليلة أخرى لينزعن عن
جسدي بقايا اللّيل والنّومة المستعمرةْ
- لكنّهنَ كما ترى، من عهد الأحافير المهشّم
كلّها تنعى ارتداد الحظوة في ثيابِ السَّحَرَةْ
- لا بأس. ننعمُ ليلة أخرى بجنب المدفأة.
يضحك إذ يشير بكلتا يديه كأنّه متقلّب ذات اليمين وذات الشمال بكهف
القرَدةْ.
وإذا أثارت هذه القصيدة أو أيّ نصّ آخر للأستاذ فراس حج
محمد أو سواه حفيظة بعض القرّاء والقارئات ونعتوه بنعوت لا أخلاقيّة فذلك لسبب
مهمّ في هذه النّوعية من القرّاء الّتي أطلقت عليهم وعليهن صفة المساكين. عندما
يقرأ هذا النّوع نصاً ويمسّ أعمق نقطة في نفسه ينتفض ويعتبر أنّه أمر متعلّق
بشخصه. ولئن كان عقله غير متحرّر يجيّش كلّ ردّات فعله أو فعلها ليحطّم الكاتب أو
الشّاعر. ويظنّ بذلك أنّه أبدى رأياً. لذلك يتمّ وصف الكاتب بالفاسق أو الملحد أو
المُفسد وما شابه من الألفاظ غير اللّائقة. لقد مسّ الأستاذ فراس أعمق مكان في نفس
هؤلاء القرّاء ما حرّك كلّ وسائلهم الدّفاعيّة من خلال ردّات فعل فوضويّة تبعد عنهم المعنى الّذي مسّهم أو مسّهنّ.
ولو لم يكن الأمر كذلك لمرّ النّصّ مرور الكرام بسبب عدم فهمه ببساطة.
يقول
الشّاعر المكسيكي أوكتافيو باث: "أوافق طوعاً على أنّ القراءة تعني الفهم.
لكن ماذا عن التّأمّل؟ التّأمّل هو الشكل الأرقى للفهم لأنّه يجمع بين النّظر
والفهم". والنّصّ الشّعريّ نصّ للتّأمّل أكثر منه للفهم العقليّ، لأنّه قد
يخرج من لاوعي الشّاعر. ويخرج كما هو بنظامه، بتلقائيّته، بتعبيره عن ذاته
العميقة.
القارئ
المسكين يركّز على شكل الكلمة والشّكل فيه ما فيه من فراغ، وأمّا القارئ الحرّ فهو
الّذي يمزّق قشرة الكلمة ليسبر أغوارها ويحسّها
بقوّة. هذا هو القارئ الّذي يبحث عنه الكاتب/ة، الكنز الّذي يرافقه في التّعبير عن
ذاته وعن القارئ الّذي يبدي ملاحظاته برفعة وأدب. يقول العقاد: "اقرأ
كتاباً جيداً ثلاث مرّات أنفع لك من أن تقرأ ثلاث كتب جيدة مرّة واحدة".
والقارئ الصّديق والرّفيق مدعوّ لقراءة النّصوص جيّداً والارتباط بها والولوج فيها،
فهذا أنفع من التّطاول على شخص الكاتب. فالشّعوب تزدهر بمقدار ما تحمل من فكر حرّ
يعي كيفيّة التّعامل مع الأدب.