تثير ملاحظات في قراءةُ ترجمة جديدة لنيتشه، أنجزها الباحث
المغربي رشيد بوطيب في كتاب بعنوان “محاسن التاريخ ومساوئه”، صدر مؤخراً عن “منتدى
العلاقات العربية والدولية”.
وهذا العمل بالذات، وإن تأخّرت ترجمته، هو أحد أكثر
أعمال نيتشه ملامسة لقضايا الفكر العربي، وخصوصاً أنه يثير سؤال التاريخ
واستعمالاته في الحاضر، وهو سؤال وإن طُرح ضمن سياقه الألماني المخصوص يظلّ سؤالاً
أساسياً في الثقافة العربية.
يعتبر نيتشه أن المجتمع الألماني يعاني من “مرض التاريخ”،
على خلفية أن الحضور الطاغي للماضي يضرّ بالحياة ويضعف الشخصية الفردية والجماعية.
ألا تقدّم ملاحظة كهذه عناصر إجابة على أحد أكثر أسئلة الفكر العربي: لماذا تأخّر
العرب وتقدّم غيرهم؟ وإذا كان من غير الممكن أن نُسقط على واقعنا إجابات تبلورت في
سياق مخالف، فإنه من الممكن استحضار السؤال نفسه في سياقنا الخاص، مع الاستئناس بمتابعة
الاشتباك الذي يقيمه مفكّر معاصر معه، وتلك قيمة مضافة، وأيّ قيمة، تقدّمها
الترجمات الفكرية.
كدأبه في جميع مؤلفاته، ورغم أن هذا العمل من كتابات
الشباب، يذهب نيتشه بالنقد إلى حدودٍ قصوى، فينتقد مثلاً النظر إلى التاريخ
باعتباره معرفة موضوعية، مشيراً إلى أن هذه النظرة تحوّله في الأخير إلى
ميتافيزيقا، أو بعبارة أخرى إلى شكل من أشكال الخروج من الحياة ونفيها.
بعقود كثيرة، يسبق صاحب “العلم المرح” طروحاتٍ هي اليوم
الأشهر في استقراء عمليات كتابة التاريخ وتأثيث الذاكرة الجماعية، من قبيل ما
قدّمه إدوارد سعيد وموريس هالفاكس وبول ريكور في هذا الإطار، إذ يشير نيتشه بوضوح
إلى أن التاريخ يصنّع في “مختبر” الحاضر، أي إنه محكوم بظروفه ومعطياته، وهي قراءة
تعيد للإنسان سيطرته على التاريخ مقابل ما تروّج له الدول والجماعات حين تشتغل على
“صناعة التاريخ” وفرضه على المنتمين لها، سالبة منهم كل حق في القراءة ومحتكرة
استخدام التاريخ. هنا يلتقي نيتشه الشاب بالفكرة التي تبلورت على مدى مشروعه
الفلسفي حول الإرادة، والتي يبدو وكأنه يشير فيها إلى أن النسيان (نسيان القراءة
التاريخية الجاهزة من بينها) أحد شروطها.
يبقى أن نتساءل: لماذا غفلت الثقافة العربية عن هذا النص؟
ربما لأنه من أعمال سنوات الشباب، ولا يمكن وضعه بين أبرز ما ألّفه الفيلسوف
الألماني. كما أنه عمل يمكن أن نضعه ضمن حقل فلسفة التاريخ، وفي هذا الإطار لا
يلمع اسم نيتشه مقارنة بأسماء ألمانية أخرى مثل هيغل وماركس وشبنغلر.
ربما أيضاً لأن هذا العمل ليس سوى جزء ثان من كتاب من أربعة
أجزاء، أصدرها نيتشه تحت عنوان جامع “اعتبارات في غير أوانها”، بدأها بإصدار جزء
أول (“ديفيد شتراوس: مُعترفاً وكاتباً) في 1873 ثم تبعه الكتاب الذي نحن بصدده في
1874، وهي نفس السنة التي أصدر فيها “شوبنهاور مربّياً”، ليختم عمله الرباعي سنة
1874 بـ”رتشارد فاغنر في بايروت”. كل هذه التفسيرات لا تلغي أن غياب العمل عن
الثقافة العربية ذو دلالة، وكأن سؤال التاريخ وتعاملنا معه يفضّل أن يظل غير
مطروح، أو أنه يُفضّل أن يُطرح على ألا يكون بمستوى الحدّة النيتشوية.
عن
مقال للكاتب شوقي بن حسن بتصرفالتفاصيل