يبدو المسرح وحده في هذا الزمن الآسن يتيما وحيدا يعيش عزلة قاسية لا يمكن لفن آخر أن يدعي أنه يعيشها. فالمسرح الذي يعبّر عنه في العادة بأنه طقس اجتماعي احتفالي،
قادر على تشكيل حضور إنساني معروض أمام نظر الجمهور وخلق علاقة حميمة بين الممثلين والمشاهدين، حيث يعتاش المسرح على جمهوره فما الذي يفعله اليوم وقد غُلّقت الأبواب وانفضّ الجميع إلى جحورهم. المسرح هو الوحيد الذي بقي على شموخه ولم يتنازل ليلحق الناسَ إلى بيوتهم. وفي الوقت الذي استطاعت الأجهزة واللواقط وشاشات العرض أن تحوّل غرفة في بيت إلى قاعة سينما إذ تكفي مساحة مقبولة لمشاهدة فيلم سينمائي بجودة عالية بوجود هذه الأجهزة، وفي الوقت الذي يمكن لأي شاعر أن يقيم أمسية يقرأ فيها ديوانا كاملا أمام أفراد عائلته الذين يتحولون إلى جمهور أو عبر فيديو سريع بهاتف لا يحتاج إلى خبرة كبيرة في توظيف جماليات الصورة ومقاييس الكادرات حتى يجلب لنفسه اهتماما من رواد مواقع التواصل (وكما يقول بعض النقاد: هو مكتفٍ بنفسه يرفض مساعدة أخرى غير صداه الصوتي في رأس القارئ أو السامع) فإنّ الأمر سيختلف بالتأكيد مع المسرح إذ كيف السبيل لصناعة فرجة مسرحية لا يصلح لها بيت ولا وسيط ميديائي ولا تتم إلا عبر مكانها الأقدس: الخشبة ومتلقين وتواصل حي بين الطرفين؟!
طبيعة العرض المسرحي
لا يمكن أن ننساق مع بعض المتسرعين الذين يبشرون بمسميات غريبة مثل مقولة المسرح الرقمي مرة وتعويض الفيديو للعرض نفسه فهذا يفقد العملَ ميزة في غاية الضرورة: الرؤية الواسعة التي يتمتع بها متلقي المسرح وهو في الصالة بحيث يمكنه أن يشاهد العرض بكامله من كل جهاته أو من الزاوية التي يختارها ويحب أن يركز فيها بينما عندما يعرض كفيديو لا يمكن رؤية العرض إلا بعين الكاميرا التي صورته واللقطة الصغيرة التي اختارتها تلك العين كما يحوّل العمل المسرحي إلى مجرد مادة ميتة تظهر على الشاشة كأي عمل مصور يفقد أهم ميزة له: الحياة الراهنة التي لا يفصل بينها وبين المتلقي شيء أو أحد حيث تباع بطاقات الدخول في مدخل المسرح ثم يتم اختيار الأماكن المفضلة مع الأسرة أو الأصدقاء وأكل الفوشار أو الفول السوداني.
إنّ عرض المسرحية على أجهزة مرئية يحوّلها من عرض مسرحي إلى شكل من أشكال الفرجة التلفزيونية أو الميديائية التي تحكمها شروط ومقاييس ولا يمكن أن تحوز على خصائص الفرجة المسرحية التي يشاهد فيها الجمهور الشخصيات حيوية ويتفاعل معها بالضحك والحزن والتصفيق والوقوف في آخر العرض لتحية أصحاب العمل والأنفاس المتقطعة والعرق ينز من جباههم ولذلك كان أساتذتنا من نقاد المسرح يشترطون في الكتابة النقدية أن تكون تالية لحضور العرض في المسرح حصرا الذي يتيح للعمل أن يكون طازجا مليئا بالحياة.
إنّ عرض المسرحية على أجهزة مرئية يحوّلها من عرض مسرحي إلى شكل من أشكال الفرجة التلفزيونية أو الميديائية التي تحكمها شروط ومقاييس ولا يمكن أن تحوز على خصائص الفرجة المسرحية التي يشاهد فيها الجمهور الشخصيات حيوية ويتفاعل معها بالضحك والحزن والتصفيق والوقوف في آخر العرض لتحية أصحاب العمل والأنفاس المتقطعة والعرق ينز من جباههم ولذلك كان أساتذتنا من نقاد المسرح يشترطون في الكتابة النقدية أن تكون تالية لحضور العرض في المسرح حصرا الذي يتيح للعمل أن يكون طازجا مليئا بالحياة.
معركة وجود
في هذا الزمن الموبوء يتدحرج المسرح بعيدا عن مساحاته المعتادة وينزوي محبوه إلى حيواتهم الخاصة حيث يحل محله الكثير من وسائل الترفيه أهمها السينما. لتظهر أن السينما-إلى جانب ما تقدمه نتفلكس من سلاسل قصيرة أو طويلة بجودة عالية-هي أكبر الرابحين في معركة الوجود حاليا فعلى الرغم من الحماس الكبير للسينما عند جمهورها العريض منذ ظهورها وفي أكثر أيامها ازدهارا بقي المسرح محافظا على حضوره الخاص وجمهوره النوعي إلاّ في هذه الأيام السوداء: غاب المسرح وحضرت السينما.
وفي بلد مثل الجزائر حيث الصناعة المسرحية لا تزال تتأخر عن جيرانها عددا ونوعا إلا في استثناءات قليلة وحيث أنّ تقاليد متينة للفرجة تبقى غائبة لا يبدو من التشاؤم القولُ أنّ الشلل القاسي الذي يعاني منه الفن النبيلُ قد يطول حتى بعد عودة الحياة إلى طبيعتها بعد القضاء على الوباء أو التخفيف من آثاره. من جهة أخرى ما الذي يفعله فنان المسرح الذي ينتظر في الأغلب فرصة واحدة يتيمة في السنة ليعمل؟ لا يبدو أنّ حاله سيكون مختلفا كثيرا عن المهن الأخرى التي انهارت فجأة. من الصعب القولُ أنّ فنان المسرح يعيش من الأدوار التي يقوم بها وفي الغالب يكون محتاجا إلى مهنة قارة يشتغل بها حتى يسد بها ضروريات الحياة.
وفي بلد مثل الجزائر حيث الصناعة المسرحية لا تزال تتأخر عن جيرانها عددا ونوعا إلا في استثناءات قليلة وحيث أنّ تقاليد متينة للفرجة تبقى غائبة لا يبدو من التشاؤم القولُ أنّ الشلل القاسي الذي يعاني منه الفن النبيلُ قد يطول حتى بعد عودة الحياة إلى طبيعتها بعد القضاء على الوباء أو التخفيف من آثاره. من جهة أخرى ما الذي يفعله فنان المسرح الذي ينتظر في الأغلب فرصة واحدة يتيمة في السنة ليعمل؟ لا يبدو أنّ حاله سيكون مختلفا كثيرا عن المهن الأخرى التي انهارت فجأة. من الصعب القولُ أنّ فنان المسرح يعيش من الأدوار التي يقوم بها وفي الغالب يكون محتاجا إلى مهنة قارة يشتغل بها حتى يسد بها ضروريات الحياة.
دراما ما بعد الأزمة
ومع أنّ الزمن الكوروني زمن موحش وقاسٍ، يشبه البقاء فيه زنزانة باردة مظلمة لا يختلف معها شروق شمس أو غروب فقد يكون له تأثيره الكبير على كتابات المؤلفين واختيارات المخرجين مستقبلا. إنّ التجربة الوجودية التي عاشها الجميع، مشاعر الرهبة والخوف القاسيين ستجعل من الكتابات عن الوباء تتورم بشكل قياسي، سينشط كتاب المسرح فيتخذون من الفيروس موضوعا لنصوصهم وسيتحدث النقاد عن مستويات متأرجحة في القيمة وستكشف القراءة الفاحصة (وهي قليلة كما تعودنا) عن محاولات لكتاب متسرعين بدؤوا بالكتابة منذ المرحلة الأولى لظهور الوباء في بلادهم كما قرأنا عند بعض الأصدقاء بشكل يشي بقلة التريث والصبر كما يفترض في كل كتابة رصينة تتغيّا الفكرة العميقة والبناء المحكم والشكل الجميل وقد تتشابه وتتماثل إلى درجة المطابقة.
يقيننا أن المسرح سيبقى ضرورة في حياة الإنسانية بعيدا عن أية رومانسية قد تظهر في هذه العبارة، كما سيبقى ميزانا دقيقا لمدى تقدم الأمم حضاريا وذوقيا بعيدا عن التشوه السائد والإقبال المستمر على التفاهة.
يقيننا أن المسرح سيبقى ضرورة في حياة الإنسانية بعيدا عن أية رومانسية قد تظهر في هذه العبارة، كما سيبقى ميزانا دقيقا لمدى تقدم الأمم حضاريا وذوقيا بعيدا عن التشوه السائد والإقبال المستمر على التفاهة.