دبَّ قلمه على صفحات الدفتر جيئة وذهابا كإبرة مرصاد تسجل هزاتٍ لا تُدرى بؤرتها. أخيرا طاوعته الكلمات. كانت تسمع له على الطاولة نقرات متكررة مكتومةً بحائل الورق.
استرسل يسوّد الصفحات الأولى بدون توقف. المَطالع حاسمة جامعة مانعة ، تشدّ قارئ الرواية أو تصرفه. دبت من خلفه حركة خفيفة أحس بها بدون التفات. توقف وأسند ظهره إلى الكرسي وأرخى بصره عبر زجاج نافذة غرفة عالية ، ينظر إلى أفق البحر الغائم. ماستخدام سياط المطر تجلدُ ظهر الموج المستغني بمياهه. فجأة انفتحت كوة في سقف السحاب الكثيف ، فتسلل شعاعُ شمس محجوبةٍ متمردة ، لم يتوقف لها المطر. همس لنفسه بهمس الصبا: «عرسُ الذيب!» ،
ثم سُمع من خلفه حفيفٌ من جديد. تذكر إحداثيات مكانٍ انشغل عنه بزمكان الرواية وهول مطلعها. التفت ليرى جسد دنيا يشغل السرير كله ، وجوارحها توضب الشرشف من حين لآخر وهي نائمة. نظر إليها نظرة قاتل يريد أن يتخلص من الجثة في غد جريمته. تمنى أن لا تفيق ، خشية أن تفسد عليه ما أنهمر بعد أيام من مخاض رواية عسير.
عاد الهدوء للسرير. كان استيقاظا كاذبا بعد ليلة بجميع الألوان. أدار وجهه تجاه النافذة بحيطة وحذر كأن للالتفات صدىً. تأمل المطر المستمر والشعاع المتسلل من السحاب ، مثل إضاءة خافتة في مسرح. تخيل نفسه على الخشبة في عرس ثقافي مهيب ، وسط حضور من أصدقائه النقاد ذوي الوزن والكيل بمكيال الأسماء الوازنة الصديقة. كان فرحا بمصافحة أساطين حقل الثقافة ورؤوس سوق الأدب ، ويتسلم جائزته عن رواية ما يمكنها تعانده الآن ، مثل جنين في جيئة معترضة. أعاده حفيف الشرشف للغرفة. التفت وخاطب الجسد الدنياوي المنتشر بصوت خفيض: «لا تستيقظي يا لعينة» برقت في عينيه بارقة وعاد إلى صفحة الدفتر الأولى. كتب على الفراغ أعلاها: «لا تستيقظي يا لعينة» أعاد قراءة العبارة فاستثقلها. تردد قليلا ثم شطب عليها وكتب «نامي يا لعينة!» ارتسمت على شفتيه بسمة كاتب ألهِمَ عنوان الرواية منذ البداية. فألٌ حسن انضاف إلى استرسال الكتابة وشعاع الشمس المتسلل عبر المزن. لا شك أن روايته ستنال الجائزة ، رغم عنادها وتمنعها. الروائع هكذا عنيدةُ البداية. لن تضيع منحة نخبة المؤسسات الثقافية ، ولن يذهب التفرغ والإقامة الفندقية على ذمةِ الإبداع هباءً.
تحرك الشرشف من جديد ، تمنى لو أنها استيقظت وانصرفت إلى غرفتها المحجوزة على ذمة الإبداع هي كذلك. نظر إليها مليا حتى هدأت. كأن عينيه حقنتاها بمخدر. عاد إلى أوراقه. قرأ ونقح حتى سرَّته ، وهمَّ أن يفتح الحاسوب ليتم الكتابة نقرًا على المفاتيح. القلم للاستفتاح وللاختتام فقط. تردد. رفع بصره عبر الزجاج. كوة السحاب انغلقت ولم يتوقف المطر. أحس بشيء من غبن رغم ذلك. صادف حجزُه الفندقي على ذمة الإبداع ربيعا مطيرا باردا ، كأن العام مشى القهقرى.
زميلُه الفائز في العام الماضي عن روايته «بإجراء السناجب تفهم» كان محظوظا. صادف حجزُه الفندقي على ذمة الإبداع جوا دافئا وغصت الإقامة السياحية بالمُلهِمَات ..
أزاح دفتره فكاد يُسقطُ قنينة جيب وضعها هناك عند عودته من جولة صباحية اقتضبها بسبب المطر. تلقفها بخفة كيلا يُهرَقَ محلولها ولا يوقِظ تكسرها دنيا. فتحها ثم ارتشف رشفاتٍ مُلهماتٍ وعاد يسود الصفحات. توقف حين بدا الشعاع من جديد. «عرس الذيب» عاود الظهور. ثم كأن دفقا من إلهام ألم به ، فانتقل مباشرة إلى نهاية الدفتر. طفق يسود فهرسا لفصول الرواية ، كما سنحت في ذهنه اللحظة ، ثم في صفحة أخيرة أخذ يكتب فقرة بدت له جديرة بقفلة الرواية. استبشر. أي يوم هذا. أي صباح. أي غيث. مطلعُ الرواية وقفلتها وهندسة فصولها بعنوانُها ، كل ذلك أعطى الطوع دفعة واحدة!
حين فرغ من تسويد الفقرة أخذته الحماسة ، نسي احتياطه كيلا يوقظ دنيا. لكن دنيا كانت قد استيقظت وجلست وسط السرير شاردة تحملق في ظهره. كان قد تناول أوراقه وطفق يقرأ النص كأنه الآن في حفلة التتويج ..
«أفرغتُ الكأس الثالثة وما زالت الحانة لم تمتلئ بعد. صوت الشيخة قمُّونَة الخاثر وحده يملأ الفراغ. لولاه لكان فراغا مضاعفا. عيطة تلو عيطة. جربوع البارمان استبق ضجري في لحظة ، فشغل الرَّاي. انطلق صوت الشاب الهَيْشْ الجهوري الفتان يردد لازمة أغنيته الجديدة. كل أغنيته لازمة يرددها من البداية إلى النهاية. لا بد أن الهيش من المتوحدين. لكن لازمته تغري الوحيد مثلي بمزيد من كؤوس الغواية: «زيد شربي يا مول البار زيد شربي!» ها أنذا أفرغت كأسا رابعة أداري الوجع الوجودي الصامد. إنه بحر يحيط بقارة قلقي ويعصر أمعائي كأنها الكوليرا. لماذا لم يأت الرفاق ، لعل شائعة الكوليرا التي انتشرت منعتهم من الحضور. ماذا يخشون. العدوى؟ الموت؟ عهدي بهم لا يخشون شيئا مثل ندامى أبي نواس. ويتمتع القديسون دان الزمان لهم فلا يصيبهم إلا بما شاؤوا. حتى دنيا الحمقاء لم تأت بعد وهي الكوليرا والطاعون الأسود شخصيا. لعلها ما تزال تغط في سبات دب قطبي لعين. منذ دعوت عليها بطول النوم صار نومها ثقيلا طويلا. قلت لها مرارا إتق دعوة المنحوس ». قبل أن يتم أخذ دنيا تصفق من خلفه بقوة ، كأن جمهورا غفيرا يصفق في المسرح ، وقد سطعت الأضواء وعمل الكل يصافح الكل ، ويتبادلون التهاني بفوز روايته «نامي يا لعينة» وكذلك إليه مخرج يشق الصفوف ، يريد أن يحول رائعته شريطا سينمائيا يترشح لجائزة «التيس الذهبي »الدولية.
- قاص مغربي