-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

بين ثنائية "المركز والهامش" في الإغتراب، وثنائية "اللذة والمرارة " عزيز رزنارة


في إطار بحث أكاديمي، كنت مندمجا جدا في النبش في مراجع عديدة عن ثنائية المركز والهامش، وتجلياتها في العديد من المجالات الفكرية، والاجتماعية والاقتصادية وغيرها. الكثيرون ممن
تطرقوا لتحليل هذين المفهومين، المركز والهامش، رأوا بأنهما ينطبقان أكثر في مجال التحليل الاقتصادي، بينما رأى أخرون أنهما أنسب لدراسة وفهم بعض الظواهر في علم السياسة، وانتهى الأمر بأغلب الباحثين في الموضوع إلى أن يضيفوا العلوم الإنسانية إلى لائحة المجالات التي يمكن تحليل بعض مظاهرها بالاستعانة بثنائية المركز-الهامش. ولعل إقحام هذه الثنائية في المجال الأدبي أعطاها زخما كبيرا، وأضاف للنقد الأدبي أداة لتحليل وسبر أغوار بعض الظواهر والإبداعات الأدبية.
وجاء اهتمامي بهذه الثنائية صدفة بعد أن بدأت بتجميع وتصنيف مقالاتي التي نشرتها على صفحتي الخاصة أو صفحات أخرى بالفيسبوك، وفي مواقع أدبية الكترونية، وبعض الجرائد الورقية بالمغرب والإمارات. اكتشفت بمحض الصدفة أن هذه المقالات تنقسم حسب مواضيعها إلى قسمين الأول يتعلق بارتساماتي وخواطري عن الوطن من موقعي كمغترب، والثاني يتطرق إلى مشاهداتي وشهاداتي عن بلد الإغتراب من موقعي كوافد مقيم بالدولة. ومن هذا التصنيف تراءت إلي من بين سطور المقالات ثنائية المركز-الهامش في مجال الهجرة والاغتراب. ودفعني ذلك إلى تعميق البحث حول تجليات هذه الثنائية في حياة المغتربين المغاربة بالإمارات على أن أبحث لاحقا عنها في فضاءات الاغتراب المغربي التقليدية التي تشكل أوروبا مركزها الأساسي.
وقد أفادني إسقاط ثنائية المركز-الهامش على تحليل الإغتراب المغربي بالخليج والإمارات على الخصوص في فهم عدة ظواهر تلازم ممارسات مواطنينا في هذه المنطقة التي تختلف اختلافا جوهريا عن دول الإستقبال الأخرى للاغتراب المغربي سواء في أوروبا أو أمريكا. أهم ظاهرة تكرس هذه الثنائية في حياتنا كمغتربين هي موقع الوطن الأم في حياتنا اليومية والعادية في بلد المهجر. هناك البعض، وأنا منهم، من يحضر المغرب في حياته اليومية بشكل طاغي بحيث تتواجد رموزه في مختلف أماكن وأوقات المغترب: البيوت صغيرة أو كبيرة تؤثت على الطراز التقليدي المغربي، القنوات الفضائية المغربية حاضرة دائما على شاشة التلفزيون في الصالون رغم تفاهة أغلب برامجها ورغم وفرة القنوات الفضائية الأخرى. في السيارة أشرطة لأغاني مغربية شعبية وعصرية، والأهم اللباس التقليدي المغربي داخل البيت للرجال والنساء وأحيانا حتى للأطفال إذا وجدوا. أما العطلة الصيفية فهي تكاد تكون مختصرة كل عام في وجهة واحدة: المغرب. هاته الفئة يشكل الوطن لهم المركز، أما الفضاء الذي يعيشون فيه، بأبراجه الشاهقة وثقافاته المتعددة ومظاهر البذخ البراقة، ليس سوى هامشا سيتلاشى كما تتلاشى كل الهوامش. البعض الآخر، يعيش حياته في المهجر باندماج كامل مع ممارسات الحياة العادية التي يشترك فيها مع العديد من الجنسيات والثقافات الأخرى المتنوعة. منهم من لا يخطر على باله الوطن إلا إذا جاءته مكالمة هاتفية منه، أو حدث ما يجعل ذكر المغرب يأتي في نشرات الأخبار أو قصاصات الجرائد. الكثير من هؤلاء لاتعني لهم العطلة الصيفية بالمغرب أي شيء، بل يستغلون قربهم الجغرافي من وجهات سياحية أخرى فيسافرون ضمن العروض المغرية إلى دول آسيا على الخصوص، التي لا تشكل وجهة تقليدية للسائح المغربي. بالنسبة لهؤلاء يشكل مكان تواجدهم بالمهجر المركز، بينما الوطن يمسي هامشا للعديد منهم، وقد يتفادى بعضهم حتى الإنتساب إليه في ملتقياتهم بجنسيات أخرى متواجدة بالدولة.
الفئة الأولى التي تعتبر الوطن مركزا ولو في غربتها، تكاد كلها تسم هذه الغربة بنوع من المرارة أو النوستالجيا التي تعج بها كتابات من يكتب منهم أو أحاديث من تحادثهم. وتكاد هذه الغربة المريرة تكون حصرا على العرب بصفة خاصة. بحثت في اللغة الفرنسية التي اعرفها إلى جانب العربية فلم أجد فيها ما يطابق كلمة "الغربة" في العربية بكل تلك الشحنة من المرارة والحنين. بل إن أغلب الدول استبدلت بعض المصطلحات التي تخفي بين ثناياها بعضا من هذه المرارة واستبدلنها بكلمات عملية أضحت مصطلحات ثابتة حتى في الأدبيات والمراسلات الرسمية. ولعل أهم مصطلح تم الاستغناء عنه هو "الهجرة" و"المهاجرين" (Immigration, Immigrés) واستبدالهما بكلمة "الاغتراب" و "المغتربين" (Expatriation, Expatriés) عند الفرنسيين مثلا، واللبنانيين وغيرهم. ويعود ذلك إلى النعت القدحي الذي يرافق كلمة الهجرة والمهاجرين التي أصبحت مرادفة لموجات النزوح جراء الحروب والنزاعات التي تعرفها عدة مناطق من العالم. كما كلمة الهجرة أصبحت تحيل إلى هجرة شرعية وأخرى غير شرعية، بينما الاغتراب يحمل معنى آخر غير ذلك.
في خضم هذا اللج من الأفكار حول المركز والهامش وحضورهما في عالم الاغتراب، انتابتني فكرة طاغية عن البحث عن مكامن هذه اللذة التي يجدها المغاربة في المرارة، وكيف أن بعضهم يعشقها حد التغني بها، وتحفل الكثير من أمثالنا وأغانينا الشعبية بما يؤكد هذا المعنى اللذيذ للمرارة في بعض مناحي الحياة العامة للمغاربة. وجنح بي التفكير إلى محاولة التنقيب عن أهم تجليات هذه الثنائية الجديدة التي أفرزها اشتغالي على ثنائية المركز-الهامش، فإذا بي أجد نفسي في سبر أغوار ثنائية المرارة-اللذة عند المغاربة. ولأن المرارة أو اللذة مصطلحان يكثر ذكرهما عند تذوق الطعام بصفة عامة فقد اتجه تفكيري إلى البحث في كنوز  الطبخ المغربي عن حضور هذا الثنائي المتناقض ظاهريا ولكنه يحمل في ثناياه لذة لا يعرفها إلا الراسخون في روائع الموائد المغربية. وجدت العديد من الأطباق والتحضيرات المطعمية التي تختزل هذه الثنائية المرارة-اللذة بكل تجلياتها في طبق شهي لذيذ. واستوقفتني وصفة كنت قد استمتعت بها خلال مأدبة عشاء بمراكش، وما أدراك ما مراكش في عالم الطبخ. هذه الوصفة هي ما يسميه المغاربة عادة بطاجين زيتون "مسلالة". وتأتي مرارة هذا الطبق من نوعية الزيتون وطريقة تحضيره. زيتون "مسلالة" هو زيتون أخضر يتميز بمرارته، ويكون في فصل الشتاء. وأكثر المناطق المعروفة به، بني ملال، مراكش والنواحي. ومن الأكيد أنه متواجد في جهات أخرى من المملكة، إلا أن هذا الطبق ارتبط بزيتون هذه المناطق المذكورة. ويتم تحضيره عادة بالبيت بدل شرائه من السوق جاهزا، لأن السر كل السر في طريقة تحضيره. إذ يتم كسر حبات الزيتون دون المساس بالنواة داخله، أو كما يسمي المغاربة هذه العملية اليدوية ب"التفرشيخ" وهناك من يسمي زيتون "مسلالة" بالزيتون "المرفشخ". يوضع الزيتون بعد كسره أو تفرشيخه في خابية طينية مع الماء، ويتم تغيير الماء كل يوم أو يومين  للحد من مرارته. وبعد أن ينضج الزيتون قليلا تضاف إليه كمية من الملح وقطعا من الحامض (الليمون). ويمكن تناوله ضمن بعض المقبلات في الوجبات الرئيسية كسلطة بعض إضافة الشرمولة إليه، أو في وجبة الإفطار مخلوطا بزيت الزيتون رفقة الشاي بالنعناع الأخضر. إلا أن الإستعمال الرئيسي له هو تحضير طاجين اللحم بزيتون "مسلالة" الذي تعطي مرارته للطبق لذة لا تقاوم.
استغرقني البحث في هذه الوصفة وقتا أكثر مما أخدت مني ثنائية "المركز-الهامش"، واكتشفت أن العملية الإبداعية في نسج قصيدة شعر أو كتابة نص أدبي لا تختلف كثيرا عن اشتغال العقل في تحضير وصفة إبداعية مطبخية جديدة. الشاف الذي يرابض في مطبخه ويحضر وصفات جديدة مستحضرا خبرة من سبقوه في الميدان هو مثل الكاتب الذي يجلس إلى ورقه الأبيض ليخط عليه أفكاره وإبداعلته الجديدة سواء أكانت شعرا أو قصة أو مقالا. وكما يتمادى الشعراء والكتاب في انتقاء الكلمات والمعاني، فإنني وجدت نفسي وأنا أبحث بين كل الوصفات المتاحة لطاجين اللحم بزيتون "مسلالة" عن طريقة جديدة لإضافة نوع آخر من المرارة زيادة في هذه اللذة الغريبة التي تنشأ عنها. ومررت أمام ناظري كل الخضر التي يمكن أن بمرارة أكثر، فاستقر رأيي على "اللفت المحفور" فأضفته إلى الوصفة التي كنت أخط تفاصيلها كأنني أكتب قصيدة شعر. وكان لابد من تجريب الوصفة لمعرفة ملاءمة ما هو مكتوب لما سيكون عليه الطبق المطبوخ. الزيتون "مسلالة" لا وجود له بنفس الطريقة هنا في الإمارات، ولكن تتوفر العديد من أنواع الزيتون من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين وتركيا وغيرها التي يمكن لبعضها أن تفي بالمراد. المشكل هو العثور على "اللفت المحفور" في هذا البلد وربما الخليج كله. وفجأة وجدت نفسي أطرح سؤالا على إحدى صفحة مجموعة للمقيمين المغاربة بالإمارات أسأل إذا كان "اللفت المحفور" موجودا هنا رغم أنني لم يسبق لي أبدا أن رأيته أو رأيت ما يشبهه. جاءتني ردود عديدة أغلبها يؤكد عدم وجود "اللفت المحفور" المغربي، ولكن يوجد ما يقابله في رواق المنتوجات الفلاحية الهندية تحت مسميات عديدة، رسب في ذهني من بينها تسمية "الجزر الأبيض". وأشار البعض إلى أنه متوفر في فرعين من الأسواق التجارية الكبرى أحدهما يتواجد على مدخل مدينة دبي من جهة أبوظبي، بينما أنا أقطن في عجمان مما يعني أن على أن أقطع تقريبا أكثر من ثلاثين كيلومتر للبحث عنه. لم يفث ذلك في عضدي وعزيمتي، وركبت سيارتي إلى المركز التجاري المتواجد داخل مول ابن بطوطة. بحثت في كل أركان جناح الخضر والفواكه، فلم أجد "اللفت المحفور" ولا ما يشبهه. نفس الشيء في المركز التجاري المتواجد بمول الإمارات ليتأكد جدسي المسبق على أن "اللفت المحفور" يجب إضافته إلى لائحة الكنوز الفلاحية التي لن ننعم بتذوقها إلا في الوطن الأم، وربما ذلك ما يزيد في لذتها رغم أي مرارة كانت.
عدت إلى بيتي وأنهيت كتابة الوصفة نظريا وأعطيت للطبق إسما يليق به، وبخصوصيته. وأسميته "لذة المرارة – Délice de l’amertume". في انتظار انقضاء الجائحة الصحية التي اجتاحت العالم، وعودة فتح الأجواء وحركة الطيران للسفر إلى المغرب، هناك يمكنني أن أجرب وصفة "طاجين اللحم بزيتون مسلالة واللفت المحفور". ولأنه لا توجد حقوق محفوظة في مجال الإبداع المطبخي فإني أترك المجال مفتوحا لكل عشاق المطبخ المغربي إلى تجريب هذه الوصفة، وإخباري بالنتيجة ولهم أجر المحاولة أولا وإذا نجحوا فلهم أجران، والأجر الثالث هو إسعادي بخبر نجاح الوصفة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

دبي في 30 يونيو 2020
ملحوظة المحرر : العنوان الأصلي للمقال طويل ولا يستجيب لمعايير النشر ولهذا السبب قمنا بتجزيئه مع اعتذارنا للكاتب.
بين ثنائية "المركز والهامش" في الإغتراب، وثنائية "اللذة والمرارة " في طاجين "مسلالة باللفت المحفور"

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا