لم تعايش أجيال الاستقلال وما بعده أوبئة أو
أزمات صحية حسب ما أذكر، وإن كانت قد عايشت هزات اجتماعية وربما سياسية طوى الفاعل
السياسي صفحاتها باقتدار، وهذا
ما جعل ذاكرة هذه الأجيال لا تحتفظ بما له علاقة مع
الأوبئة والجوائح، باستثناء ما تناقلته الجدات من أخبار، خاصة اللواتي عايشن بعضا
من هذه الأوبئة.
وفي المقابل، شخصيا، لا تحضرني إلا صور باهتة
عن حملة لتعميم التلقيح ضد مرض الكوليرا قد تكون، حسب ما أتذكر، تمت حوالي سنة
1971.
طوابير تنتظر دورها بالمراكز الصحية، وقد
تتبعت ذلك بالمركز الصحي السباتا بمكناس. كما ساهم بعض من أطر وزارة الصحة في
تقديم الدعم للعملية، وإن كنت لا أعرف إن كان الأمر قد عمم أم لا. فإن كل ما أذكره
أن منزلنا بدرب مولاي علي بمكناس قد استقبل بعض الجيران ليستفيدوا من العملية
اعتبارا لكون أختي الكبرى ممرضة.
وباستثناء هذه الصور الباهتة، فإن أجيال ما
بعد الاستقلال عاشت بمنأى عن المخاوف التي تتسبب فيها الأوبئة والأزمات لدرجة
اعتقدنا معها أن أزمنة الخوف قد ولت إلى غير رجعة، ولم يبق منها إلى صدى حكايات
ظننا أنها تعرضت للتهويل والمبالغة.
ما فتئت جدتي من جهة الوالدة (تغمدهما الله
بواسع رحمته) القايدة رقية تقص ما عاشته بلدتها من أحداث ووقائع خلال عام تصفه مرة
بعام البون ومرة بعام الجوع، كانت تحكي عما عانى منه الناس من جراء انتشار المجاعة
ووقعها الصادم على ساكنة المغرب، خاصة في العالم القروي. لم تكن لتحدد تواريخ أو
أماكن، إلا أنه يبدو أن الأمر يتعلق بأربعينيات القرن الماضي، أما المكان فإني لا
أستبعد ان يكون دوار الخلط الواقع في تقاطع الطرق بين اتجاه عين كرمة ومولاي إدريس
زرهون، وما زالت إلى اليوم تتردد في ذاكرتي صدى كلماتها عن عام الجوع وما ميزه من
نقص كبير في المواد الغذائية ذاق مرارته الجميع. ولم تقف الأهوال عند هذا الاحتياج
الذي لم يفرق بين كبير وصغير، خلف ضحايا كثر. بل تعداه إلى ظهور سلوكات غربية
وطبيعية في الوقت ذاته، غربية لكونها غير مسبوقة ولا يمكن للعقل أن يتقبلها في
أحلك الظروف وأصعبها، لكنها طبيعية لكونها مرتبطة بالسلوك البشري المدفوع بالخوف
من الموت جوعا إلى ابتكار ردات فعل تحركها غريزة حب البقاء والبحث عن الحل الفردي
للنجاة.
تحدث الجدة ذلك الطفل الصغير آخر العنقود عما
قالت إنها شاهدته بأم عينها، وروته له بلسان صدق مبين عن شخص انتحى جانب الطريق
ينهش جثة ضحية من ضحايا المجاعة، وتصك الكلمات سمع الطفل الذي يتظاهر بعدم تأثره
بما يسمع ويعي، فالرجال كما يُقال بمناسبة وبغير مناسبة، لا يخافون، لا يبكون، لا
يتأثرون. وكان الطفل يصدق أنه رجل، وبالتالي فما عليه إلا أن يُظهر صلابة وألا
يظهر عليه أي أثر للصدمة أو الارتباك. لكن لا أحد يعرف بعد ذلك كيف قضى ليلته بعد
ما سمع ووعى.
لم تكن وقتها أفلام الرعب التي تصور لحظات
الأوبئة التي تهز أركان المدينة وتنشر الرعب والموت قد وُجدت بالشكل الذي تظهر
عليه الآن، لكن خيال الطفل كان لوحده قادرا على خلق أجواء تلك النوعية من الأفلام،
خالقا لها خلفيتها، وواضعا لها زمنا ومكانا لهما من الخصوصية ما يجعلها جديرة بحمل
كل مشاعر الخوف والرعب وانتظار الأسوأ. لا تسألوا عن المؤثرات الصوتية، فهي الأخرى
كانت حاضرة بكل قوتها وتأثيرها. فالتهليلة التي كانت تسبق آذان الفجر بصوت شجي
علمت بعد سنوات من ذلك أنها بصوت المؤذن سي عبد المالك الذي استمر في أداء تلك
المهمة إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي بالمسجد الكبير بديور الجداد. ينضاف إلى
ذلك هديل الحمام بمحل بيع الإسمنت والرمل عند مدخل الدرب (درب ادريس باهري). هذا
الحدث حرمني من النوم كلما قررت العائلة المبيت عند الجدة، وهو ما جعلني أرفض ذلك،
وإن حدث فلا يحدث إلا وأنا مكره.
لم يستطع الطفل وقتها أن يميز بين الجوع
والمجاعة، فسيطر عليه الخوف من الموت جوعا، ومع إزالة اللوزتين فيما بعد، أصبحت
الطريق للأكل بشراهة متاحة لدرجة تَكَوَّنَ لدي تآلف مع الأكل أصبحت معه قادرا على
الحضور بالمنزل عندما تُعد المائدة للطعام، وهو ما كان مناسبة للتندر من طرف أفراد
العائلة. وأنا استدعي هذه الذكريات، ماذا سنترك للقادمين من الأبناء والحفدة عن
عام كوونا.
والآن، ونحن في زمن كورونا، وفي ظل اختلاف
الظروف والحيثيات، ورغم أن الموت، إن جاء، فلن يكون نتيجة جوع، أفلا تزال غريزة حب
البقاء والبحث عن الحل الفردي قادرتين على تحريك ردود أفعال الناس. لو عدنا للحظة
التي أعلن فيها عن الحظر الصحي والدعوة لملازمة البيوت حيث ظهرت مشاهد طوابير طويلة
أمام المتاجر والأسواق التجارية الكبرى عاكسة لهفة أو لنقل “لهطة” غير مسبوقة
للتسوق كما لو أن الفيروس سيمسح المواد الغذائية وباقي المواد من السوق ويعدمها،
فاقتنى الناس فوق طاقتهم، اقتنوا كل شيء في مشهد مضحك مبك في الآن ذاته، اقتنى
الناس الدقيق والزيت والحليب ومشتقاته، حتى الورق الصحي المستعمل بالمراحيض اختفى
من رفوف المتاجر الكبرى، وهو ما قدم صورة عن ذهاب ثقافة وحلول أخرى محلها عن تعامل
المغاربة مع الخلاء ؟؟؟ وفي هذه الظروف، لا أحد تساءل، ماذا سأفعل مع هذا الكم
الهائل من المواد لو كنت فعلا من ضحايا فيروس كورونا وقضى علي؟
في المقابل، هناك سلوكات ظهرت في ظل الحجر
الصحي استحسنها الجميع، وكان لها الأثر الحسن على حياتنا وبيئتنا، لدرجة أن رمضان
هذا العام، كان أنظف رمضان عرفه المغاربة، والأقل تبذيرا وإتلافا لما لذ وطاب من
مأكولات نعدها للفطور والسحور باشتهاء، ونرمي الجزء الكبير منها في صندوق القمامة.
والسؤال الذي يحضرني الآن بإلحاح هو: هل
ستستمر هذه الأمور الإيجابية التي رافقتنا في الحجر الصحي في الحضور في فضاءاتنا
بعد كورونا؟ وهل ستكون صدمة كورونا مناسبة ليغير الإنسان سلوكات ننتقدها ونتمسك
بها؟. المؤشرات التي ظهرت في مناطق من العالم رفعت الحظر الصحي كليا أو جزئيا لا
تنبئ بالخير، اعتبارا من رغبة في تعويض ما تسببت فيه الغمة من أثر نفسي والتعويض
عن ذلك بالعودة بقوة إلى ما كان سائدا قبل أن يحل فيروس كورونا ضيفا غير مرحب به
بيننا. فمن المحتمل أن ننتقل إلى الاستهلاك الانتقامي، والتخلص من كل قواعد
التباعد الجسدي، ولعل هذا ما جعل العديد من البلدان تذهب في اتجاه تخفيف تدريجي
للحظر الصحي حتى يتمكن الناس من الاستئناس مع أجواء الحرية التي كبلتها الإجراءات
والقواعد المتبعة لمواجهة فيروس كورونا، ويبدو أن المغرب لن يشكل استثناء في ذلك.