حين يرنّ إسم جورج حاوي في أذني، حين أتذكره، حين أستعيد شريط التفاصيل الحارة التي جمعتنا. أنتبه إلى بعض الشبه بيننا، نحن الإثنين، في التجربة الحياتية. جئنا إلى هذا
العالم فوق مرتفع يطل على البحر المتوسط في جبل لبنان، هو من “بتغرين” وأنا من “عمشيت“. المكان الذي احتضن الميلاد والطفولة والصبا ليس مجرّد جغرافيا محايد. إنه فضاء فسيح لعلاقات أهلية ضاربة الجذور في تاريخ لبنان. علاقات موروثة تتعهدّها الذاكرة الجمعّية للناس بالصيانة وإعادة الإنتاج، وكأنها ماهيتهم التي دونها ليسوا يوجدون.
التنشئة التي يتلقاها المرء في كل لبنان تقوم على تنمية الشعور بالإنتماء إلى الجماعة الصغرى القائمة على العصبية: عصبية الدم. وعصبية المذهب. لا يتحدّد المرء إلاّ في علاقته ببنية الجماعة الفرعية التي ينتسل من صلبها، وبعد ذلك يأتي انتماؤه إلى الوطن. عليه أن يكون مثلما ارادته القبيلة والطائفة والبلدة والضيعة أن يكون. لا يملك إرادة إختيار كينونته أو ماهيته لأن هذه موجودة سلفاً قبل أن يولد.
يساهم نظام الدولة الطائفي ـ إلى جانب التنشئة العصبوية، في اعادة انتاج هذه العلاقات من التبعية التي تشدّ الافراد الى تكويناتهم العصبوية ـ القبلية والعشائرية والعائلية والطائفية والمذهبية ـ فتمنعهم من الانتظام في وطن جامع.
الدولة في لبنان على مثال الاجتماع الاهلي فيه: دولة عصبوية، يجري تقاسم السلطة فيها على مقتضىً طائفي. ليس في رحابها مواطنون متساوون أمام القانون لأن القانون مصمّم على أساس التمييز والتفاضل بينهم بحيث يحقّ لبعضهم ما ليس يحق لسواهم. الأسوأ من ذلك أن الدولة ليست فقط مجرّد انعكاس ميكانيكي للبنى الاجتماعية العصبوية وإنما ـ أيضاً ـ تعيد إنتاج وتكريس تلك البنى بتشريعاتها المكتوبة ومواثيقها الشفهية.
كان على المرء كي يكسر شرانق الانتماء إلى العصبية، ويطلّ على الوطن بما رحب ووسع أن يصطدم بالعصبية وبالدولة ،بالاجتماع الاهلي وبالاجتماع السياسيّ على السواء. وكان عليه، أحياناً، أن يدفع غرامات باهظة في الاشتباك اليومي مع هذا الحلف غير المقدّس بين العصبية والدولة.
ولعلّ اليسار اللبناني الوطني والديمقراطي ( غير الطائفي ) أكبر الشهداء في هذه المعركة التي خيضت من أجل تحرير لبنان من أصفاد العلاقات العصبوية ـ الطائفية في المجتمع والدولة.
كان جورج وكنّا مجموعة في جملة أولئك الذين دافعوا عن حقهم في كينونة إنسانية أرقى تكسر قيد العصبية التقليدية وتخرج الى رحاب الوطن. كبر طموحنا مع الايام: لم يعد الوطن الصغير ( لبنان ) يسع المشروع الكبير .أخذتنا فكرة العروبة بعيداً ، الى كل نقطة وبقعة في أرضها الفسيحة. وذهبنا في حلم الأممية بعيداً دون أن ننسى الوطن الصغير والوطن الكبير. كانت مغامرة. لكنّها تستحق أن تخاض لأنها المعنى العميق لكي نكون أحراراً ولأن نكون ما نشاء لانفسنا أن نكون. نما التشابه مع كثر من أهل الوطن مع الزمن.
وكلما كنت أقترب من جورج حاوي، كنت أكتشف فيه بعضي. وكلما كان يأتي دوماً لحضور أمسياتي كان يكتشف بعضه. فكأنما تواعدنا على أن يحفظ كلّ واحد منّا ما للآخر فيه. كنت أرى في جورج السياسيّ فيّ الذي أحاول أن أهذّبه، وكان يرى فيّ الفنان المبدع فيه الذي يحاول استضافته في لغته السياسية ومفردات خطابه. وكان ذلك سبباً للقائنا الذي لم ينقطع في لبنان وفي البلاد العربية وفي العالم إلاّ حين سقط شهيداً في ٢١ حزيران سنة ٢٠٠٥.
يا “أبا أنيس” أكتب لأعترف بأن الصداقة باقية والمحبة باقية وصيانة شعلة المبادىء باقية، ولأقول لك أحببناك وادمناك ولم ينج أحد من عدواك.
هذا المقال عبارة عن تدوينة كتبها مرسيل عن صديقه حاوي بعد مرور 15 سنة على وفاته