من الزوايا التي لا تكاد تخلو منها جريدة أو مجلة أو قناة تلفزيونية في زماننا هذا ما يتعلق بـ “أخبار النجوم”. وليست النجوم هنا سوى الشخصيات الفنية في مجالات السينما
والدراما والرياضة. لكن أخبار الثقافة والأدب، وما يتصل بالمثقفين والأدباء باتت شبه منعدمة، ولا تلقى أي اهتمام حتى في حال نشرها إلا من لدن فئة قليلة من المشاهدين والقراء.
والدراما والرياضة. لكن أخبار الثقافة والأدب، وما يتصل بالمثقفين والأدباء باتت شبه منعدمة، ولا تلقى أي اهتمام حتى في حال نشرها إلا من لدن فئة قليلة من المشاهدين والقراء.
تتبدل مواقع النجوم حسب المنازل، كما يتبدل الاهتمام بأخبارها تبعا لتبدل الوسائط وبروز الأنواع الجديدة. كانت “النجوم” في الثقافة العربية الشفاهية تختصر في الشاعر. فالكل يحفظ أشعاره، ويرويها في المحافل، ويردد ما يشيع عن أخبار الشعراء. وفي فترة التدوين قدمت لنا المصنفات الأدبية الكثير من أخبارهم مصحوبة بأشعارهم، أو تتخذ هذه الأشعار لتربطها بتلك الأخبار. ويكفي الاطلاع على كتاب الأغاني لتأكيد ذلك. ووقع الشيء نفسه مع بروز الكتابة، حيث صارت أخبار الكتاب، في كل الاختصاصات، موضوع الاهتمام، فكانت تروى طرائفهم، في الحياة، ومواقفهم من السلطة، أو من بعضهم البعض، أو المجهودات التي يبذلونها في أعمالهم، تقريضا أو ذما. بل برز ضرب من التأليف تحت مسمى “الفهرسة” يعرض فيه الكاتب أو المثقف القديم صورا عن أساتذته وشيوخه الذين روى عنهم، أو لقيهم، مع ذكر بعض الأخبار التي تتصل بهم. ونكفي أن نذكر هنا فهرسة ابن الخير الإشبيلي للدلالة على ذلك.
أما في العصر الحديث، ومع ظهور الطباعة والصحافة المكتوبة، فقد استثمرت كل الأخبار التي اتصلت بتلك الشخصيات ـ الأعلام فتم الاهتمام بها في توثيق الحياة الثقافية بدراسة أثر حياة الكتاب والشعراء في إبداعاتهم. ولما شاع مصطلح “الأديب”، كانت الصحافة والمجلات الثقافية، وخاصة في مصر، تعنى بأخبارهم، وعلاقة بعضهم ببعض، فكنا نولي اهتماما خاصا لتلك الأخبار لأنها كانت تفيدنا في كتابة ما كان يطلب منا تحت عنوان: “التعريف بالكاتب”، والذي كنا نتبارى أينا يجمع أكبر عدد ممكن من المعطيات النادرة واللطيفة عنهم، وكان أساتذة العربية والفرنسية يقترحون علينا قراءة ما وجدناه عنهم. وأتذكر هنا، على سبيل التمثيل، كتابات أنيس منصور حول واقع الثقافة المصرية التي كان ينشرها في المجلات، والتي جمعها في كتابه “مع الآخرين”، أو “صالون العقاد كانت لنا أيام”، وغيرهما والتي استمتعت بها كثيرا في مراهقتي.
ما هي الأخبار المتداولة حاليا حول أعلام الثقافة والأدب في الوطن العربي؟ لقد تراجع الاهتمام والمتابعة لأخبارهم، وصارت أخبار حياة النجوم من الفنانين والرياضيين تملأ الصفحات والقنوات، هي ما يشغل الناس. إذا غير مغن صورته في إحدى صفحاته الخاصة على الوسائط الجديدة، تجد أصداء هذا التغيير في كل مكان، وإذا غير لاعب عقده مع فريق، تجد الخبر نفسه يتصدر كل الوسائط وبأدق التفاصيل، أما إذا أصدر باحث كتابا فلا نجد له أي خبر! في أحد التقارير استجوب مواطنون مغاربة عن فنانين مغاربة وعرب فكانت الأجوبة دقيقة جدا. وحين سئلوا عن الجابري والعروي وجدنا أجوبة دالة على واقع مرير!
نشرت في الأسبوع ما قبل الأخير مقالة عن “التعليم عن بعد”، فكان من بين التعليقات التي استوقفتني بشكل خاص ما أورده الطالب الباحث آيت با أوحسين محمد مشكورا، لأنه عاد بي سبعة عشر عاما إلى الوراء، وجعلني أستعيد تاريخا لا أفكر فيه الآن. ويسرني إشراك القارئ بمقتطفات مما كتب: “أحالتني قراءة هذه التدوينة (مقالة التعليم عن بعد)، مباشرة، على مجموعة محاضرات ما تزال منقوشة، إلى اليوم، في ذاكرتي، ومحفوظة بين دفتي دفتر بال من الحجم الكبير، أحتفظ به للاستئناس، واسترجاع الذكريات. كنا نتلقى، حينها، من بين ما نتلقاه محاضرات الدكتور سعيد يقطين في مادة تحليل الخطاب السردي، وكان من بين المواضيع الجديدة المطروحة للنقاش، وقتها، موضوع النص المترابط والسيبرنطيقا. طبعا كانت المادة العلمية جديدة، على الأقل بالنسبة إلينا كطلبة، بل كانت غريبة ودسمة، وهذه ميزة التصقت، بحكم تواترها، بالأستاذ يقطين. فقد كان يفاجئك دائما بالجديد، فتعودنا على ذلك، حتى صار الجديد معه لا يفاجئنا”.
“أتذكر أننا كنا نشتغل في مجموعات من اثنين، وعلى ذلك الأساس قسمنا العمل بيننا، فقد كان مجموعنا، آنذاك، حوالي أحد عشر مغربيا، بالإضافة إلى طالب من غينيا بيساو، لعله الحسين كوناتي. كنا حينها نشتغل على قصة موسى عليه السلام؛ وقد كلفنا الأستاذ يقطين بجمعها لأنها وردت متفرقة في القرآن الكريم بخلاف معظم قصص الأنبياء، كما طلب منا ترتيب أجزائها بناء على تيمية جامعة أو موضوعة، ثم دراستها بناء على ترتيبها في كتب الإسرائيليات. كان العمل على الحاسوب وقتها أشبه ما يكون بالموضة، ولك أن تتخيل أننا كنا نذهب إلى مقاهي الانترنيت لنشتغل وكنا نؤدي مقابل كل ساعة حوالي 20 درهما. كانت الحواسيب في أحسن الأحوال بطيئة. وكانت البرامج مكلفة. لكن على الرغم من كل ذلك كان حرصنا يزيد وحماسنا يتضاعف لإنجاز الأعمال الموازية. خضت هذه التجربة رفقة الفوج الذي حصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في وحدة البحث والتكوين: البلاغة الجديدة والنقد الأدبي سنة 2003، والتي كان يشرف عليها آنذاك الدكتور محمد العمري. لماذا أسرد كل هذا التاريخ الخاص؟ فقط، لكي يعلم متعلمو هذا الجيل، جيل 4G و الـ wi-fi ، كم هم محظوظون إذا أرادوا فعلا الانخراط في عالم الرقمنة، ورغبوا حقا في تطوير آليات وأدوات تعليمهم وتعلمهم، بما يستجيب وحاجياتهم الشخصية والجماعية. وبما يستجيب وتحديات العصر، ويضمن الانخراط في مواكبة الركب العالمي الذي يجعل من التعليم عن بعد خيارا استراتيجيا، وليس، فقط، مجرد إجراء أملته ظرفية معينة”. لقد كان الأستاذ يقطين، للشهادة، سباقا في جلب المعرفة المتعلقة بالتكنولوجيا الحديثة، كما كان مهووسا بالتفكير في سبل أجرأتها وتنزيلها وتبييئها ومواءمتها مع واقع التعليم بجامعتنا المغربية. وقد كنت من المحظوظين الذين اكتسبوا، على يديه الكريمتين، الشيء الكثير، وتعلموا بالأحرى أبجدية الحوسبة”.
أكاد الآن، بالكاد، أتذكر ملامح هذا الطالب، فإحدى وأربعون سنة من التدريس تجعلني عاجزا عن تذكر الجميع. لكن شهادته تبدو لي أصدق مما يمكن أن أكتبه في سيرتي المعرفية. إن مثل هذه التفاصيل إذا عبرت عنه بلغتي ربما تبدو دليلا على نرجسية خاصة لأن كتابة السيرة الذاتية تقدم صاحبها باعتباره بؤرة لما يدور حوله، ولا سيما حين لا تقدم فيها سوى الجوانب المضيئة من حياته. وفي غياب كتابات موازية للسير الغيرية تغيب عنا الكثير من المعطيات المتصلة بأعلام ثقافتنا. من يذكر لي الآن كتابا عن الجابري والعروي، مثلا، يقدم لنا صورا عن حياتهما من منظور يسمح للقارئ العادي التعرف عليهما؟ غياب مثل هذا النوع من التأليف الذي يمكن أن يقدم ليس فقط للباحثين والمهتمين، ولكن لعموم القراء، وبلغة واضحة، هو ما يجعل المواطن العادي يتعرف على أعلام ثقافة وطنه. كان المصريون حتى أواسط القرن الماضي يعنون في سلاسل حول “الأعلام” يقدمون هذا النوع من الكتابة الذي نجد الغربيين يهتمون به كثيرا. أما الآن فأخبار النجوم عندنا تخصص لها قنوات كثيرة. لكن النجوم سريعة الزوال، وبكل تأكيد ستبقى الأعلام.