- آلو .. وجدي!!
- نعم من أنت..؟!
- أنا مهيوب. - مهيوب من؟!
- مهيوب صعلوك الحارة في قصة (حارتي)، التي كتبها القاص مسعود سعيد .. صديقك مسعود..!!
- آه لقد قرأتها .. كان دورك فيها حقيرا، بصورة تثير الاشمئزاز ..!!
- صدقت.
ارتفع صوت مهيوب ناشجاً ببكاء مرير، بينما كان صوت وجدي يطل من سماعة التلفون :
- آلو .. مهيوب، مابك يارجل .. لماذا هذا البكاء .. أرجوك .. توقف .. أتسمعني؟!! .- أهي، أهي، أهي .. نعم .. نعم إني أسمعك .. أرجوك .. أهي، أهي أهي، أرجوك أن تسمعني أنت..؟!
- حسنا تكلم.
- لقد رأيت بنفسك كيف قدمني صديقك المؤلف إلى القراء .. صحيح أنني مشهور كصعلوك عنيد في الحارة، لكنني لست سيئاً إلى درجة أن يصفني فيها بأنني، بأن....
- بأنك لقيط!!
- آه يالها من كلمة قاتلة، إنها أوجع من نصل خنجر طويل ينغرس في القلب .
- آسف .
- لا عليك.
- هاه، ما سبب اتصالك بي .. ألا تخشى أن يعرف المؤلف بذلك .. تعلم أنني في خصام معه خلال هذه الأيام!!
- لن يعرف !!. - ألم تقل لي ما سبب اتصالك بي؟!!
- آآآآ.
- تكلم .. أم أن الخجل قد صار إحدى سماتك..؟!
- .......
- ماذا تريد، تكلم..؟!
- أريد أن أنتقم ..!!
- ماذا تقول أيها المعتوه ..؟!
- أريد أن أنتقم منه،و.... - هل ستقضي عليه أيها المجنون؟!!
- لست عنيفاً إلى هذه الدرجة، فأنا إنسان مسالم ينبذ العنف.
- إذن ما هو انتقامك ..؟!
- سيكون انتقامي بجعل صديقك أضحوكة تتندر بها الشفاه.
- لم أفهم أي شيء، هلاَّ أوضحت الأمر..؟!
- سأجعلك وجميع أصدقائه، بل جميع الناس يضحكون عليه، ويرمقونه بنظرات السخرية ..!!
- لم أفهم ماذا تريد عمله .. ماذا تخطط أيها المعتوه ..؟!
- سأقوم بسرقة حذائه ..!!
- أهذا هو انتقامك .. إنه..
- لا .. لا أرجوك لا تقس ذكائي وقدرتي بحصرها في سرقة الأحذية..؟!!
- .....!!
- سأقوم بسرقة حذائه عندما يدخل إلى المسجد لأداء صلاة العصر ..!!
- .......!!
- أعرف أنك مستغرب من كلامي، لكن سأشرح لك أسلوب انتقامي..!!
- إنك بهذا الحديث غير الواضح، تنتقم مني، . هه، هاه، هه، هه، هاه!!.
- وأنت بهذه الضحكة الخارقة تسخر مني!!
- طيب أيها السفاح المتخصص بسرقة واغتيال الأحذية، اشرح لي ماذا تنوي عمله .. إنك تريد تنفيذ عملية إرهابية لسرقة حذاء المؤلف .. ثم ماذا بعد ذلك أيها الإرهابي الحذائي .. هه، هه، هاه؟!!
- اسخر مني كيفما شئت .. للعلم إن المؤلف اشترى حذاءه الجديد بمبلغ كبير من المال، والحذاء ما زال جديدا لم يمض على استخدامه سوى أسبوعين، أي منذ أن لبسه في يوم العيد.
- ادخل في الموضوع، لدي أعمال كثيرة، أرجوك أوجز وأوضح ماذا تريد عمله بعد سرقة الأحذية.. حتى أحتاط ولا أفقد حذائي في يوم من الأيام، هه، هه، هه، هاه..؟!.
- ماذا تعني ..؟!.
- لا داعي للتوضيح، فأنت تعرف قصدي .. المهم أكمل ماذا ستعمل..؟!
- بعد أن يخرج صديقك المؤلف من المسجد بدون حذاء سيمشي حافي القدمين حتى يصل إلى المقهى. إنه سيمشي في الشارع طوال تلك المسافة، وسيشاهده جميع المارة، وجميع سائقي السيارات، بل سيراه معاريفه، وقراؤه، وسيستغربون لماذا يمشي حافي القدمين..!
- سيعرفون أن حذاءه قد سرق منه، أو سيشتري أي حذاء، فمن غير المعقول أن يمشي في الشارع حافي القدمين .
- إن صديقك كما تعرف بخيل جدا .. بالإضافة إلى أنه مفلس وليس معه قيمة أرخص حذاء بلاستيكي، فمتطلبات العيد الذي مرّ قد استنزفت كل ما معه من نقود!!.
- طيب .. ثم ماذا سيحدث بعد ذلك ؟!
- عندما يراه الجميع وهو يمشي حافي القدمين، سيقولون أن به حالة نفسية، وأنه قد بدأ معاملة الالتحاق بعالم المجانين !!.
- أيها الخبيث!!.
- بل سأجعل أطفال الشارع يهتفون خلفه : يا مجنون، يا حافي.. - عليك اللعنة.
- وبالطبع سيلمحه أحد صحفيي صحيفة (أحوال الناس) وذلك عندما يمر من أمام مقر الصحيفة، الواقع في نفس الشارع، وستنشر الصحيفة عنه خبرا في صباح الغد كالتالي : (شوهد القاص المعروف مسعود سعيد يقطع شارع الجامعة وهو حافي القدمين ملاحقا بمجموعة من أطفال الشارع الذين كانوا يطلقون صيحاتهم وهتافاتهم المستفزة له : يا مجنون، يا حافي . وستشير الصحيفة إلى أن هناك شائعات تقول أنه قد أصيب بحالة نفسية، وقد أثار استغراب المشاة الذين تأسفوا لحالته ).. هه، هه، هاه. ياله من خبر طريف!!
- أيها المعتوه إنك خبيث جدا.
- هه، هه، هه هاه..
- إنه انتقام رهيب ؟!
- على الباغي تدور الدوائر!!.
- إنه لا يستحق كل ذلك .. لقد فعل بي أكثر من ذلك. - لماذا إذن أنا بالذات اتصلت بي وأخبرتني بهذه العملية الإرهابية، ألا تخشى أن أفشل مخططك؟!
- لن تستطيع، لأنه لم يعد هناك أي وقت لتدارك ما سيحدث ثم إنك الآن على وشك الخروج إلى المقهى، وصديقك الآن في طريقه إلى المسجد..!!
- إذن لماذا اتصلت بي؟!
- لتستعد أنت وأصدقاؤك لمشاهدة صديقك المؤلف وهو يدخل المقهى في حالة مزرية كالأبله .. هه، هه، هاه.
- عليك اللعنة .. أهذا كل ما تريد أن تقوله؟!
- كلا .. هناك مفاجأة أخرى؟
- أيها الوغد ما هي ..؟!
- ستعرفها في وقتها.
- أين؟ - في المقهى ..؟!
- والآن وداعا ياصديقي المؤلف .. وداعا .. هه، هه، هه هاه..!!
.. وانقطع الاتصال التليفوني..!
***
كان المقهى الواقع في الشارع الدائري بصنعاء مكتظاً بالزبائن ورواده الذين اعتادوا التجمع والالتقاء فيه لتبادل الأحاديث المتفرقة وتناول الشاي والقهوة وتدخين النارجيلة والتسلي بلعب الورق. وفي ركن من ساحة المقهى كانت تربض طاولة مستطيلة اعتاد مجموعة من الأصدقاء أن يلتقوا حولها مساء كل يوم أربعاء، ومعظمهم من الأدباء والمثقفين، الذين كانوا يجدون في هذا المقهى الأسبوعي فرصة للنقاش وتبادل الآراء حول كل جديد في الساحة الثقافية واستعراض ما لديهم من أعمال أدبية جديدة وتبادل إعارة الكتب في ما بينهم، إلى جانب ممارسة البعض لـ «الحشوش والنميمة» ضد بعض الأدباء والمثقفين الذين يكونون حديث الساعة..!!
ومن بين ذلك الجمع الأدبي في المقهى كان القاص وجدي الأهدل بين الحين والآخر يستطلع وجوه الداخلين إلى المقهى متشوقا لرؤية صديقه الذي سيأتي حافي القدمين!!. لم يمض سوى وقت قصير حتى أطل المؤلف عليهم بوجهه المتعب وبملابسه الأنيقة وبقدميه الحافيتين المنهكتين من السير على الإسفلت. ووجد في استقباله قهقهات عالية ونظرات مستغربة من الأصدقاء ومن جميع رواد المقهى، فلم يحتج على القهقهات الساخرة التي استقبل بها ولا اهتم بتلك النظرات ..
كان يريد الجلوس فوق أقرب مقعد كي يريح جسده المنهك من رحلته الحافية المحفوفة بسخرية المشاة والأطفال. ورغما عنه لم يكن في وسعه إلاّ أن يواجه الجميع بابتسامة مصطنعة وبكلمات قصيرة كان لابد منها لكي يُفسِّر لهم الأمر وينهي الموضوع :
- أرجوكم افهموني .. لقد سُرِقَ حذائي من المسجد .. واضطررت للسير مسافة طويلة حافيا حتى هنا .. لأن جيوبي كانت خالية من النقود .. ذلك كل ما في الأمر .. أرجوكم خففوا من سخريتكم .. واطلبوا لي شايا وأشعلوا لي سيجارة وواصلوا ثرثراتكم في مواضيعكم المعتادة .. عليكم اللعنة أيها النمامون!!.
ثم أطلق ضحكة عالية مدارياً بها تعبه ووضعه وخيبته. وما كاد المؤلف يلتقط أنفاسه حتى أتى نادل المقهى حاملاً بين يديه علبة كرتونية وبرفقتها رسالة داخل مظروف.. وسلمهما للمؤلف قائلا له :
- يا أستاذ مسعود .. هذه رسالة إليك .. وصلت إلى المقهى قبل وصولك بدقائق إنها باسمك شخصيا.
وبحركة متعمدة أخذ وجدي الأهدل المظروف وأخرج منه الرسالة وقرأ :
-"عزيزي المؤلف المغفل مسعود سعيد .. لقد أضحكت عليّ القراء عندما كتبت عني في قصتك الأخيرة، وجعلتني أبله ومثيراً للسخرية والتنكيت، وألصقت بي كل مساوئ تلك الحارة اللعينة التي وجدت حياتي فيها رغما عن إرادتي ..
وها أنا يا عزيزي المؤلف التعس أرد لك بعض ديونك .. وجمائلك، وأذيقك قطرات من كأس المرارة الذي أسقيتني إياه في قصتك السيئة الذكر .. ها أنا أجعلك أمام زملائك وأمام الناس أضحوكة، تسير على قدمين حافيتين ها أنا أجعلك مصدرا لسخرية المشاه في الشارع، وملهاة للأطفال في الحواري..
وهذا انتقامي منك ليس بالكثير مقابل ما سببته لي من آلام نفسية، فأنا مازالت لدي مشاعر تكبحني من التمادي في الانتقام ولأن أخلاقي مازالت عالية وليست كما زعمت في قصتك البغيضة أنها واطية، فإني لم أسمح لنفسي بأن تعود هذا المساء إلى منزلك حافي القدمين حتى لاتصطدم بسخرية زوجتك وسلاطة لسانها الذي سينهال عليك بشتى صنوف السخرية المريرة، وذلك عندما تعرف بأنك أضعت حذاءك الجديد الذي اشتريته لمناسبة العيد، ولم يمض على استعماله إلاّ أيام قلائل.. وأنت تعرف كيف إن زوجتك عندما تطلق لسانها فلن يتوقف إلاّ بعد أن تنجو بنفسك وتلجأ للمبيت داخل غرفتك الموصدة، أو تذهب للمبيت عند جيرانك رحمة بنفسك من سخرية زوجتك التي ستبثها إلى جميع منازل الحارة ..
عزيزي المؤلف المغفل .. ها أنا أريك أخلاقي العالية .. ففي هذا الكرتون الصغير يوجد حذاؤك المسروق، والذي أعيده إليك شفقة بك وبحالك.. وإن عدت للسخرية مني .. عدت إليك بمقلب جديد .. وتقبل تحيات صعلوك الحارة. ".
وكر الجميع حتى أدمعت أعينهم!!.
* شاعر وقاص يمني
من #قصص_محمد_القعود