-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

ضحك كالبكاء ذ . رشيد سكري


تسارع انهيار و سقوط ... فجأة ...

وكانت أياد خفية ... كأنها تسرق قمرا ... أو تقطع وتينا ، بل تذبح ، دون رأفة ، شريانه الأبهر ... فيسقط أمام أعيننا مدرجا بدماء زرقاءَ ... واقفين ، خائفين ... كقطط وجلة في منتصف الليل ؛ لنردد جميعا :

قفوا لحظة للبكاء ... أو ضحك كالبكاء ...

قفا نبك ...

تعليمنا العمومي غادرناه على مضض . بنا حسرة وألم وبكاء وعويل و لطم خدود . غادرناه مطأطئي الرؤوس ... خجلا من أنفسنا ومن غيرنا ، إننا لم نحافظ على وجوده ، وكيانه ، واستمراريته في الزمان والمكان .

هل خنا ، فعلا ، الأمانة ؟

 يوم قررنا أن نغادر أسوارا كانت تحمينا من وطيس حرب ضروس ، تدور رحاها على القفا الصغيرة ، لـُهْوتها أطفال صغار ، لم تكن آنذاك قد حلقت بعد رؤوسها ، وإنما كانت تتهجى ، من فم لازال أثرم ، حروف لغة عربية سديدة .

دائما في  قلبها ـ أي المدرسة العمومية ـ رحمة ورأفة لا رهبانية ... بأولاد قد مروا هاهنا ... على سديم من زجاج شفيف ...

إنها أمي ، التي أرضعتني حليبا طازجا وغنيا بأملاح و هيدروكاربورات . وأصبحتُ  حصان طروادة ،  قادرا على حمل قنينات ماء على مسافات بعيدة ، حيث يختلط ضباب السراب بأشياء أخرى ... يتلوى السَّمْتُ مدحورا كأفعى فقدت بصرها بمطر بداية شهر أبريل نـَيسان .  

غادرنا مدرستنا العمومية ، وتركناها وحيدة عند الجسر، كانت تحمل في عيونها الكسيرة أحلام غد قريب ، عندما كانت ترضعنا ، كما درسنا أستاذ البلاغة بأمثلته الشهيرة ، خبزا طريا وحليبا طازجا وتمرا كالشهد في الحلاوة .

كانت أصابعنا الصغيرة على لوح رطب أملس ؛ نستخرج في جدول واصف مشبها ومشبها به ووجه الشبه  . وكنا نخرج ، في خيلاء وكبرياء ، إلى ساحة متربة ، وعريشها الظليل يمتد في نفوس كجداولَ رقراقة هدَّارة بماء معين . هكذا ، بغـُنـْج ودلال نقلد رقصة هاري بوتر ؛ فتنقذف في دمائنا جنون عظمة لا ندرك مصدرها.  

  غادرنا مدرستنا العمومية ، وانبطحنا لتدوسنا أقدام و أقدام وأقدام ...

 انبطحنا خلف سورها الصفيق ، وعلى انفراد كنا نذبِّحها ، بخبث وشماتة ، من الوريد إلى الوريد . يذكرني التخلي عن المدرسة العمومية بسقوط غرناطة المدوي في القرن التاسع الهجري ، كان معلمي يشرح لنا هذا السقوط ، والطريقة التي تم بها . فضلا عن الصورة ، التي قدم بها هذا الانهيار في تاريخ الدولة الأموية  بالأندلس ، فهي لازالت في باحتي الرمادية زهاء أربعين عاما .

  يرتدي ، معلمي ، بذلته البيضاء كعهن منفوش وصافية كالحليب ، فطأطأ رأسه ما شيا ومشـَّاءً بين الصفوف ، شبيها بأبي عبد الله الصغير عندما عقد العزم على الرحيل ؛ فوضع مفاتيح غرناطة في أيدي القشتاليين .

فما درى أ إلى حتفه يسعى ؟ أم إلى الغوغاء يرتقي ؟

رجالات أمس قريب ، كانت مدرستنا العمومية تنحتهم من صلصال كالفخار، فترمي بهم دون رحمة ولين إلى فرن زند أو إلى عين حمئة ؛ كي يشتد عودهم . وتمتد فيهم جذوع مجتمع يتحسس ، ويترقب ما ستأتي به الأيام . رجالات بقناعات تتصدع لها الجبال ، وتفور لها الأعين و البحار من الغيظ . أرضعتنا مدرستنا العمومية حليب المساواة بين البشر والحجر ، فكنا نحمل معنا ، من أجل هذه المساواة ، خبزا نضعه في كيس معلق على مشجب يتيم قرب المعلم . فعندما يحن وقت التحرر من الدرس ، تمتد أياد صغيرة إلى الكيس كما تمتد إلى عيون القمر ؛ لحمل كسرة خبز بغية إخماد لهيب قـُداد يعتصر جوفنا ... من جوع ضارٍ ؛ لأن الجوع كافر ... وأيضا الفقر كافر . فكيف ما كان صيدك ثمين من خبز يصبح  نصيبك وقدرك العظيم ، والغريب ...  أن الخبز أنواع وألوان ...

خبز بالشعير ، وآخر بالذرة الصفراء المذهبة ، وآخر بالقمح الطري ، ومن منا من يأتي بخبز محمص مدهون بزيت الزيتون ، بيد أنه لا يستطيع أن يتناوله أثناء تحررنا من الدرس ، لأن المعلم حريص كل الحرص أن يأكل كل تلميذ ما جاد به نصيبه من السحب العشوائي من هذا الكيس الخبزي .

   الآن ، تقطعت السبل باليتم أم اليتم الذي تقطعت به السبل ...

حيتان تأكل الأخضر واليابس ، بل تشيد مناسك قتل وذبح على صراط الدنيا . في ساحة الكوريدا كان الثور يرقص على جراح الموت ، زاحفا ... مدرجا بدماء غدر وشماتة ... يلقي نظرة وداع على صاحبه ، بل يمنحه قبلة وداع ... وهو الذي قدمه قربانا للسفاحين والسيافين والذبَّاحين  .

 رقصتنا ، بعدما خنا الأمانة ، رقصة ديك مذبوح على أعتاب المسخ الكفكاوي .

سامسا يا سامسا  !

عد إلينا ... كما يعود المساء إلى بطاحه . لقد تشبعنا بقيم الحب والخير والعشق والوله ، فلمَ غدوت حشرة مقززة منزوية بالبيت ؟           

   

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا