تسارع انهيار و سقوط ... فجأة ...
وكانت أياد خفية ... كأنها تسرق قمرا ... أو تقطع
وتينا ، بل تذبح ، دون رأفة ، شريانه الأبهر ... فيسقط أمام أعيننا مدرجا بدماء زرقاءَ
... واقفين ، خائفين ... كقطط وجلة في منتصف الليل ؛ لنردد جميعا :
قفوا لحظة للبكاء ... أو ضحك كالبكاء ...
قفا نبك ...
تعليمنا العمومي غادرناه على مضض . بنا حسرة
وألم وبكاء وعويل و لطم خدود . غادرناه مطأطئي الرؤوس ... خجلا من أنفسنا ومن
غيرنا ، إننا لم نحافظ على وجوده ، وكيانه ، واستمراريته في الزمان والمكان .
هل خنا ، فعلا ، الأمانة ؟
يوم
قررنا أن نغادر أسوارا كانت تحمينا من وطيس حرب ضروس ، تدور رحاها على القفا
الصغيرة ، لـُهْوتها أطفال صغار ، لم تكن آنذاك قد حلقت بعد رؤوسها ، وإنما كانت
تتهجى ، من فم لازال أثرم ، حروف لغة عربية سديدة .
دائما في قلبها ـ أي المدرسة العمومية ـ رحمة ورأفة لا
رهبانية ... بأولاد قد مروا هاهنا ... على سديم من زجاج شفيف ...
إنها أمي ، التي أرضعتني حليبا طازجا وغنيا
بأملاح و هيدروكاربورات . وأصبحتُ حصان
طروادة ، قادرا على حمل قنينات ماء على
مسافات بعيدة ، حيث يختلط ضباب السراب بأشياء أخرى ... يتلوى السَّمْتُ مدحورا كأفعى
فقدت بصرها بمطر بداية شهر أبريل نـَيسان .
غادرنا مدرستنا العمومية ، وتركناها وحيدة
عند الجسر، كانت تحمل في عيونها الكسيرة أحلام غد قريب ، عندما كانت ترضعنا ، كما
درسنا أستاذ البلاغة بأمثلته الشهيرة ، خبزا طريا وحليبا طازجا وتمرا كالشهد في
الحلاوة .
كانت أصابعنا الصغيرة على لوح رطب أملس ؛
نستخرج في جدول واصف مشبها ومشبها به ووجه الشبه . وكنا نخرج ، في خيلاء وكبرياء ، إلى ساحة متربة
، وعريشها الظليل يمتد في نفوس كجداولَ رقراقة هدَّارة بماء معين . هكذا ، بغـُنـْج
ودلال نقلد رقصة هاري بوتر ؛ فتنقذف في دمائنا جنون عظمة لا ندرك مصدرها.
غادرنا
مدرستنا العمومية ، وانبطحنا لتدوسنا أقدام و أقدام وأقدام ...
انبطحنا خلف سورها الصفيق ، وعلى انفراد كنا
نذبِّحها ، بخبث وشماتة ، من الوريد إلى الوريد . يذكرني التخلي عن المدرسة
العمومية بسقوط غرناطة المدوي في القرن التاسع الهجري ، كان معلمي يشرح لنا هذا
السقوط ، والطريقة التي تم بها . فضلا عن الصورة ، التي قدم بها هذا الانهيار في
تاريخ الدولة الأموية بالأندلس ، فهي لازالت
في باحتي الرمادية زهاء أربعين عاما .
يرتدي ، معلمي ، بذلته البيضاء كعهن منفوش وصافية
كالحليب ، فطأطأ رأسه ما شيا ومشـَّاءً بين الصفوف ، شبيها بأبي عبد الله الصغير
عندما عقد العزم على الرحيل ؛ فوضع مفاتيح غرناطة في أيدي القشتاليين .
فما درى أ إلى حتفه يسعى ؟ أم إلى الغوغاء
يرتقي ؟
رجالات أمس قريب ، كانت مدرستنا العمومية
تنحتهم من صلصال كالفخار، فترمي بهم دون رحمة ولين إلى فرن زند أو إلى عين حمئة ؛
كي يشتد عودهم . وتمتد فيهم جذوع مجتمع يتحسس ، ويترقب ما ستأتي به الأيام .
رجالات بقناعات تتصدع لها الجبال ، وتفور لها الأعين و البحار من الغيظ . أرضعتنا
مدرستنا العمومية حليب المساواة بين البشر والحجر ، فكنا نحمل معنا ، من أجل هذه
المساواة ، خبزا نضعه في كيس معلق على مشجب يتيم قرب المعلم . فعندما يحن وقت
التحرر من الدرس ، تمتد أياد صغيرة إلى الكيس كما تمتد إلى عيون القمر ؛ لحمل كسرة
خبز بغية إخماد لهيب قـُداد يعتصر جوفنا ... من جوع ضارٍ ؛ لأن الجوع كافر ... وأيضا
الفقر كافر . فكيف ما كان صيدك ثمين من خبز يصبح نصيبك وقدرك العظيم ، والغريب ... أن الخبز أنواع وألوان ...
خبز بالشعير ، وآخر بالذرة الصفراء المذهبة ،
وآخر بالقمح الطري ، ومن منا من يأتي بخبز محمص مدهون بزيت الزيتون ، بيد أنه لا
يستطيع أن يتناوله أثناء تحررنا من الدرس ، لأن المعلم حريص كل الحرص أن يأكل كل
تلميذ ما جاد به نصيبه من السحب العشوائي من هذا الكيس الخبزي .
الآن
، تقطعت السبل باليتم أم اليتم الذي تقطعت به السبل ...
حيتان تأكل الأخضر واليابس ، بل تشيد مناسك
قتل وذبح على صراط الدنيا . في ساحة الكوريدا كان الثور يرقص على جراح الموت ،
زاحفا ... مدرجا بدماء غدر وشماتة ... يلقي نظرة وداع على صاحبه ، بل يمنحه قبلة
وداع ... وهو الذي قدمه قربانا للسفاحين والسيافين والذبَّاحين .
رقصتنا ، بعدما خنا الأمانة ، رقصة ديك مذبوح
على أعتاب المسخ الكفكاوي .
سامسا يا سامسا !
عد إلينا ... كما
يعود المساء إلى بطاحه . لقد تشبعنا بقيم الحب والخير والعشق والوله ، فلمَ غدوت حشرة مقززة منزوية بالبيت ؟



