الرباط - عبد العزيز بنعبو - يصر الروائي المغربي أحمد القاسمي، على الاحتفاظ بخطواته ثابتة مركزة في طريق الإبداع، الذي بدأه ذات يوم ويواصله إلى حين استكمال ما بدأه من الصرح السردي. كما يصر على أن يركب صهوة الإصدار الورقي، غير حافل بمتاهات النشر الإلكتروني، رغم تأكيده على تمازجهما في تماهيهما مع بعض، فبالنسبة إليه الورقي والإلكتروني يكملان بعضهما بعضا. أصدر مجموعتين قصصيتين؛ الأولى عنونها بـ«الكتاب والموطأ وساعة جيب» والثانية بـ«المعتقل» بالإضافة إلى رواية بعنوان «جزيرة في المحيط».
التقته «القدس العربي» فكان هذا الحوار:
□ نسألك في البداية كيف السبيل إلى دخول عوالمك السردية؟
■ كتبت وما زلت في وسط زاخر بالإغناءات الأدبية، ومفعم بالنصوص الإبداعية والعلمية والآراء والأفكار والاتجاهات والتيارات الأدبية والفكرية، وأدبنا العربي قديمه وحديثه ومعاصره ثَرّ، علاوة على ما نهلنا منه في الآداب الأوروبية، وجميع هذا كان الطريق إليه هو الكتاب، فأنا قارئ محترف له ومتأمّلُه، فإن مطالعتي للكتاب وفي شتى العلوم والآداب، وفي مضامين غزيرة، ولجميع الكتاب والمفكرين والمنظرين؛ دون استثناء أو انحياز أو تحيز أو ميل عاطفي، فكما أقرأ كتب الدين والشرع؛ أقرأ لداروين مؤسس نظرية التطور، وللمنظرين للمذاهب التجريبية والمادية؛ وهو – أي الكتاب – الذي يحدد الطريق الذي أسلكه إلى الأدب الإنساني؛ أُشارك الإنسان في أفراحه وأتراحه، وأناصره في استضعافه، وأشد بعَضُده إذا يئس لحق مغتصب، أو له مظلمة عند أخيه الإنسان، زمنيا قدمت من هنالك من تربة التراث الإسلامي العربي، من الوسط القبلي والعائلي؛ كانت نفحات منه؛ تقديس للكتاب السماوي واللغة العربية، ثم الوسط التعليمي بمستوياته الثانوية والجامعية، والتمسك باللغة العربية لغة الأدب بامتياز، وعشق للعلم وللحضارة العربية الإسلامية ببُعدها الروحي والإنساني؛ أخوالي كانوا حفظة للقرآن، وكانت لهم مكتبات في الدين والشرع، وفي مناقب الأولياء، وكتب التراث السردي، أحد أخوالي رحمة الله عليه؛ حج راجلا – كما رُوي – ربما في العقد الثاني أو الثالث من النصف الأول من القرن الماضي، وعرج على جامع الزيتونة وعلى جامع الأزهر؛ في غير موسم الحج ليتعلم.
في حقيقة الأمر لم أسأل نفسي يوما إلى أي مدرسة أدبية تنجذب إليها كتاباتي السردية، أو التي أكون قد حاولت أن ألتمس حضنها وألوذ بها اتقاء هذه المدارس والتيارات الأدبية الجارفة، وإذا حاولت أن أُموقِع نفسي، فأكون ولا أدري هل أخطئ في ما أقول؛ إنني أقوم بعمل هو من اختصاص المشتغلين بنقد الأدب، والتقعيد والتنظير للنص الأدبي، أو الذين يترصدون للظاهرة الأدبية بمختلف عوالمها ودوافعها وبيئاتها وأوساطها وتطوراتها وصيروراتها التاريخية؛ ربما أكون قد كتبت تأثرا في مرحلة زمنية، كتابات انحرفت إلى واقعية مناصرة الضعفاء، أو في المجتمع الفاضل، أو في حياء الحب والعذرية، الذي يمكن أن أقوله هو إنه بعد أن خمدت العاطفة السياسية، وتبني قضايا سياسية بعينها؛ تكرست لديّ كتابات إبداعية تتناول الإنسان خارج الزمن والمكان؛ قد يموقعه الدارس في مرحلة زمنية آنية، أو قبل هذا؛ لا أدري، فأنا لست دارسا ولا ناقدا، ولا مُكتسبا لأدوات حرفية لفك النص وتشريحه وتحليله، أو دراسته من الداخل أو من الخارج، أو مثل هذه المغامرات أو الاندفاعات المغرية، أو انتواء قصب السبق في ذلك.
□ وماذا عن تأثير التحولات الجارية عاليا في وضعية الكاتب؟
■ لا ننسى أننا غدونا تحت تأثير؛ ليس فقط عالم الكتاب الورقي الذي قد تؤرقنا القضايا التي عالجها، وحصرنا في بوتقة النضال السياسي، إنما تحت تأثير عالم المواقع الإلكترونية ذي المواضيع والمضامين التي لا تحصى، التي تنوعت، وقد يكون فيه شيء من الإباء، إنني لا أريد أن أكون منتدبا لأي جهة أو مؤسسة أو مكان؛ ذلك نزوعي المذهبي إلى الأدب الإنساني، وفي تصنيف الكاتب في هذا الجيل أو ذاك، أليس فيه تقزيم لهذا الكاتب أو ذاك؟ إن مهمة الكاتب الروائي والقصصي لا تتغير، فهو إبراز إنسانية الإنسان، وفي إنسانيته انتصار الخير على الشر، قد يقول قائل إننا نحصر الكاتب في الثنائيات التي اشتغلت عليها الدراسة الأدبية في أوروبا؛ لا أدري أفي مرحلة زمنية معينة من تاريخ الأدب؟ الخير والشر؛ الحزن والسرور؛ الظلمة والنور، فإما أن تكون خيرا ينعم الناس في ظلك بالطمأنينة، أو شريرا يكابد الناس الخوف والقلق النفسي في قلعتك المريعة؛ من هنا المذهب الإنساني؛ لا زمان أو ظرف يفضح هويته التاريخية، ومكان جغرافي يكشف عن انتمائه للأرض؛ لكن المكان في قضيتنا الفلسطينية شيء محوري، وبالنسبة للفلسطيني شيء كالماء والأوكسجين؛ وفي هذا إشكال، وقد ننحرف مع التيارات الأدبية التي صدرت من المركزية الغربية، فنحن أبناء المنطقة العربية ومن ثمة الإسلامية، نحاول أن نكون إنسانيي النزعة، لكن أرضنا الفلسطينية الحبيبة يجب أن لا نفرط فيها، وفي ذلك أيضا مقاومة كل كيان يقوم على أفضلية العنصر.
□ في عز ثورة الرقمي؛ تصر على إصدارك كتب ورقية بوفاء وبعزيمة، كيف تجد الأمر أمام هذا الهجوم الإلكتروني؟
■ أنا على وعي بذلك، ومنح النشر الإلكتروني فرصا للنشر لم يمنحها النشر الورقي يوما؛ للقيود والمعايير الصارمة التي كانت لهذا الأخير؛ سواء على المادة المنشورة أو على مستوى شكل الكتاب. إذا أردت أن أجيب عن هذا السؤال، وأكثر من هذا؛ أن أخوض في الموضوع الذي يُولّده، فإنني أجد أن الأمر جد معقد، وقد تختلط فيه علينا المفاهيم والدلالات والمعاني والمصطلحات، وقد سبق وأن عالجته في مقال؛ انطلاقا من فعل (القراءة) وحاولت أن أشرح بدقة المقصود لغويا وقاموسيا لكل من فعل (القراءة) و(الكتاب)؛ هذا الأخير بحجمه المادي وبشكله الإلكتروني.. فكل ما هو جديد، وقد ابتُكر، وتم التفكير فيه ولحاجة ماسة، ولأنه يُلبي الظروف المتطورة والمتغيرة يغزونا حثيثا، والقديم يظل يقاوم مُنسحبا، فيصبح شيئا من التاريخ؛ هذا ما هو عام.
إن المسألة ليست في ما هو ورقي أو إلكتروني، وإنما الذي يعنينا أكثر هو فعل (القراءة) هل أبقت هذه الوسائل الرقمية على رغبة قراءة كتاب بعدد من الكلمات وبمضامين معينة؛ إن (الكتاب) الورقي حامل من حوامل تقييد أو تدوين المعارف؛ سواء كان ماديا أو رقميا، إذا كان لي ميل إلى قراءة كتاب؛ فإني أقرأه سواء على الورق السيلولوزي، أو على شاشة قارئة إلكترونية.والذي يهمني في هذا السؤال هو أنني أبدأ أولا بإصدار كتب ورقية لأهداف عديدة وعميقة؛ منها أن للكتاب قيمته المطبعية؛ لا يمكن أن أجازف بنشر كتاب دون تدقيقه وتمحيصه وتنقيحه؛ لا من ناحية اللغة فقط والمصطلحات، لكن أيضا من الناحية النحوية والإملائية، والذي يعزز كلامي هو أن تنظر إلى الأخطاء الإملائية والنحوية وبالحفنات؛ تملأ نصوصا معروضة رقميا على الكثير من المواقع، فالكتاب الورقي يجعلني أكثر رصانة وتهيّبا من الأخطاء التي قد تُسيء إلى سمعتي، ومن هنا فنشر الكتاب الورقي هو عملية تقنية يتدرب الكاتب أو المؤلف خلال مراحلها على النشر وبتُؤدة مُثمرة. وكثير من الناس يقع في اعتقاد خاطئ، وغير حضاري، وهو أن النشر الإلكتروني يعبر عن التقدم ومسايرة الركب، ودراية يُحسد عليها في هذا المجال، لكن قد يكون فيه حتف للكاتب وهو ما يزال في مهده، وخداع له وتلاعب بعقله، فالخير في الذي أراه هو أن يكون النشر الورقي مرحلة تُؤهِّل لمرحلة النشر الإلكتروني. لقد اختزل النشر الإلكتروني حرفة النشر الورقي، وأقصى حرفيين في مجال النشر، كالناشر الذي كان لا ينشر إلا ما هو أصلي وجيد، وليس لكل من هب ودب في هذا الميدان، والطباع كذلك والمصحح للأخطاء المطبعية؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى أفسدت بعض المواقع العديد من الكتاب؛ التي لا تسعى إلا إلى الاستمرارية، وإلى المزيد من الربح المادي من العدد الكبير للزيارات الإلكترونية اليومية، حتى أضحت تنشر دون مراجعة، ولا تدقيق ولا تحري الجودة في اللغة وفي المضمون، لكن الكاتب الذي يحترم نفسه يظل صارما مع نفسه وفي أي شيء يكتب.
□ هل لنا أن نسأل من أين تستمد عوالمك السردية؛ هل هي محض خيال أم لها امتداد في الواقع؟
■ ا أستطيع أن أُحدِّد ما هو محض خيال، وما له امتداد في الواقع؛ ذلك أنني قد أنطلق من حدث وقع بالفعل؛ لكن أصبه في قالب قصصي وروائي يطابق مقومات وقواعد هذين الجنسين الأدبيين، وأمنح لكل عنصر من عناصر الحكي حقه كالمكان والزمان والشخوص، ولماذا وقع الحدث ولِـمَ وقع.؛ هذا يجرنا إلى أن نقول إن في هذين النوعين من السرد والحكي مزج بين ما هو خيالي وما قد يكون قد وقع بالفعل، وبين أمكنة مُتخيلة وأخرى موجودة بالفعل، ففي روايتي «جزيرة في المحيط»؛ أمكنة اِستوحيتها من أماكن جغرافية قرأت عنها أو ترددت عليها، ومن الصعب أن تنكشف للقارئ، إلا إذا أسررت إليه بذلك، ونبهته إليها، وفي قصتي «صاحب مطعم بجانب الطريق» فإني نسجت حدث القصة على مقهى موجود بالفعل بجانب طريق ساحلية، وأوحى إلي بالعديد من الأحداث، كما أن عنصرا من الحدث وقع بالفعل، وفي كتابي «البحري الغواص» وهو سيرة مهنية لغواص بحري، لكن فيها أشياء من الخيال، كيف بررت ذلك، وقد أكدته في المقدمة، وهو أن من المغامرات والإنجازات التي قام بها البحري الغواص ما قد يفترض أنها وقعت بالفعل، وإن لم تكن مُوثقة واقعيا، ما دام أن البحري الغواص كان يُشهد له ببراعته ومراسه في الغوص، وأنه كان المعلم الوحيد للغطس. فإني أنسج حدث القصة والرواية من موقف رأيته بالفعل؛ دون أن أجعله محور القصة، فلا بد من التخييلات، وإضافة للشخوص، وتطور للحدث وزيادة فيه، لأن القصة لغة وتعابير وتصوير ووصف، وسبر لأغوار النفس البشرية، الكتابة كما قيل تُعيد ترتيب الأحداث والأشياء، فالواقع اليومي صاخب ومختلط، ولا ندري ما سنُقدِم فيه وما نُؤخر، ولا نتنبأ بنهايته، فالكاتب بسرده ووصفه وبتسلسله المنطقي يعيد عرض الواقع، كما أن الأدب مرآة سحرية نرى فيها خِلقتنا وخُلُقنا، ومن هنا كانت تلك الفائدة الجمة للقراءة.
https://thenationpress.net/news-107744.html