كان الزقاق الذي سرنا فيه ضيقاً، أشبه بمرآة عاكسة لبيوت متقابلة، كلها متشابهة، حتى في لون الأبواب والنوافذ؛ التي رُكبت عليها مبردات الهواء، كانت كلها بلون ازرق.
جئنا هنا لزيارة السيدة سين، التي رحبت بنا بطريقتها الخاصة، غير المتكلفة، جلسنا على كنبة تتسع لإثنين، زوجتي وأنا، وجلست هي على كرسي امامنا، سألتها عن ولديها، دمعت عيناها، خشيت ان زدت كلمة، فقد تنفجر باكية، قالت بعد أن كفكفت عبراتها، ومسحت دموعها، بكم ثوبها "هاجرا بعدما اشتد علينا الحصار الأمريكي"
وتفاديا لنظرة الشفقة التي ارتسمت على وجهينا، اسرعت لتقول "هما بخير، ويبعثان ما يغطي حاجتي"
اعرفها، امرأة ذات نفس ابية، توقعت في تلك اللحظة الرفض، إن عرضت عليها المساعدة، هذا بالإضافة الى انني سأحرجها، وربما أجرح مشاعرها.
إستأذنت منا لتقدم لنا شيئا، القيت نظرة على أثاث غرفة الإستقبال، فأدركت مدى الإختلاف الذي طرأ على حياتها، فقد كانت قبل عودتها الإضطرارية للوطن، تعيش في شقة كبيرة، بمنطقة السالمية الراقية بالكويت، المطلة على البحر، نظرة سريعة، تكفي المرء ان يعرف، انها الآن في أسوأ حال.
لن انسي أبداً تلك الظروف التي مرت بنا، عندما اجبرتني الحرب على الهرب، استجابة لمبادئي الإنسانية الرافضة للعنف، كما فعل آخرون على إختلاف مشاربهم ونواياهم وأهدافهم، فأنا نوعاً ما مثل هيرمان هسه، في رفضه للحرب التي أثارها هتلر، واتخذ من مدينة سويسرية مكانا لإقامته، وهناك الف كتابه "إذا ما إستمرت الحرب*" ولكن مع اختلاف واضح، ان سويسرا كانت على الحياد، اما الكويت فلم تكن كذلك، لذا كان على الذين التجأوا اليها، توخي الحذر والحيطة قبل الجهر بآرائهم السياسية، او مواقفهم الرافضة للحرب.
في تلك الأيام الصعبة، رحبت بنا السيدة سين واستضافتنا في شقتها لفترة قصيرة، على كل حال، في معمعان تلك الظروف الحرجة، مدت لنا السيدة سين، يدها الكريمة، حتى حصلنا على العمل والسكن، واستقر بنا المقام، وكأي مغترب لبلد آخر، يحتاج الى التعارف على أبناء بلده، خاصة أولئك الذين ينسجم معهم، ويرتاح لصداقتهم، ومن حسن الحظ ان معرفتنا بالسيدة سين قديمة، لذا تبادلنا معها الزيارات العائلية، طوال فترة اقامتنا، التي استمرت حتى إحتلال الكويت في الثامن من أغسطس، آب 1990.
قبل ان نودع السيدة سين، نأمل في زيارة آخرى، ان نؤدي لها واجب المساعدة المطلوبة التي تستحقها.
تذكرت فجأة القط يسترداي، فسألتها عنه، تبسمت، قالت انه لا يزال معي، فقلت لقد ظل وفيا ومخلصاً لك، هزت رأسها بالإيجاب، نادته، فجاء كطفل يحبو، ندت مني صرخة خافته، يا إلهي.. لقد كبر الهر وهرم كثيرا، وبطؤَت حركته.
قعد بين قدميها، وراح يتطلع الينا، كأنه يحاول ان يتذكرنا، غشت وجهه كآبة حزن، لم تفت عن العين الفاحصة، قلت لها، لم أكن أتوقع ان اراه حياً، قالت، انت تعرف جانباً من حياته، وآخر لا تعرفه، استأذنتنا، خرجت وعادت بيدها رزمة أوراق، مدتها إليَّ، خذها أقرأها، فيها كل ما تحب ان تعرفه عنه .. وعني، اعرف انك تهوى الكتابة، لعلك تجد فيها ما يثير اهتمامك، فتكتبه وتنشره، ولكن رجاء لا تنسبه لي شخصياً، دع القصة تُسردْ من دون ذكر الأسماء، لتكن مثلا سيرة ذاتية لإمرأة مجهولة وقطها ، اخذت الأوراق، دون ان الفظ كلمة، صافحتها مودعاً ومضينا.
في البيت تركت الأوراق على المنضدة الجانبية لسرير النوم، شعرت ان مجرد تصفحها، يعتبر انتهاكاً لخصوصيتها، رغم انها منحتني الإذن بالأطلاع على ما فيها، كنت أحيانا اختلس النظر اليها، فأتراجع دون ان أجرأ فأمد يدي، بقت في مكانها لعدة أيام، قمنا بأكثر من زيارة للسيدة سين، تمكنا في إحداها وبصعوبة بالغة؛ ان نقنعها على قبول مساعدتنا المالية. سألتني عن الأوراق، قبل ان نودعها: أكيد قرأتها، فأعتذرت بالإنشغال وضيق الوقت، وبهذا التبرير لم أقطع بشئ، بعد تلك الزيارة، انكببت اقرأ الأوراق، وأكتب الملاحظات على هوامشها، حتى أكملت القصة وبصيغة ضمير المتكلم، احب ان انبه القارئ، انني سأتدخل عند الضرورة، كشاهد عيان، على الإحداث التي تسردها السيدة، والمدونة في الأوراق بخط يدها، وما قمت به، كان مجرد إعادة صياغتها، لتناسب أساليب كتابة القصة القصيرة، وهي كما يأتي:
كان يوما عاديا، يبدأ عند السادسة صباحا، بإعداد الطعام لترويقة الصباح، يخرج زوجي عادة قبلي للعمل، بعد ان يتناول طعامه بسرعة، أقوم انا بمساعدة الولدين على ارتداء ملابسهما المدرسية، وهما يلتهمان طعامهما، ولا انسى أبدا ان ادس في حقيبتيهما ساندويتشتين، تصبيرة لما قبل العودة الى البيت، اي بعد الواحدة ظهرا.
حكيت لزميلاتي في مكان العمل، عن القط الذي عثرت عليه، اقترحت احداهن ان نسميه يسترداي، اعجبني الأسم، فهو جميل ومودرن، لكنني قلت لماذا لا ندعوه أسعد، قالت الزميلة أوكي، الأسم الأول يشير الى الى الماضي، والثاني للمستقبل، وهو أيضا جميل، ويضفي على هذا المخلوق الضعيف، الذي عثرت عليه اليوم، شيء من التألق، الجاذبية، الفرح، ادهشني انني اخترت له أسماً جميلا، جاء عفو الخاطر، لم أفكر به قبل لحظة واحدة، فقلت في نفسي يا لها من مصادفة جميلة.
عندما عدنا الى البيت، كان القط الصغير، يموء تحت مائدة الطعام، وينوص بين قوائم الكراسي، إستأنس بالمكان الدافئ، المفروش بالموكيت الرمادي، الشبيه بلونه، عدا البياض الذي يبقع صدره وظهره، راح الولدان يداعبانه، يمسدان على رأسه وظهره، سألني الأكبر، ماما ماذا نسميه.. قلت أسعد، واحياناً عندما نفكر بماضيه، ندعوه يسترداي، اتفقنا.. هل اعجبكما الأسمين، صرخا هيه هيه، وأخذا ينطان حوله متحمسين، ذكرتهما ان ذلك يزعج الجيران تحتنا، فهدئا.
لا زلت اذكر صباح ذلك اليوم، نزلت من الطابق الثاني، لأرمي كيس القمامة في حاوية العمارة، سمعت مواءً خافتاً، كان المسكين يلتصق خائفاً بالحاوية، انحنيت علية، رأيته يغمض عينيه، كالجراء الحديثة الولادة، يحرك رأسه حركة بطيئة، عدت للشقة، احمله بين يدي، دلقت حليباً في صحن غير عميق، وقربته منه، أخذ يلعق حافته المستديرة، فتح عينيه قليلا، مد رأسه، وأخذ يتحسس الحليب بلسانه الوردي، كما لو انه يريد ان يتذوقه اولاً، نظرت اليه متعاطفة، وفي نفسي تساؤل حزين، يا له من مخلوق مسكين، تُرى هل سبق ان ذاق الحليب من قبل، هل ارضعته امه من أثدائها البارزة كحبات العنب، والغزيرة باللبن، قبل ان تنفصل عنه، يبدو ان المسكين قد حُرم حتى من قطرة واحدة يتذوقها، ربما تركته الأم لسبب ما، أوحدث لها ما حدث، فأخذه احدهم ورماه جنب الحاوية، او ان الأم كانت قطة منزلية، تخلوا عنها مع صغارها، على كل الأحوال، وجد من يرعاه، الولدان احباه، كانا يلحان علي ان اشتري لهما قطاً شيرازياً او سيامياً ، لكنني كنت ارفض دائما، ليس لدي الوقت الكافي حتى لنفسي، كما انني كنت أخشى تعلقهما عاطفيا به، الأطفال سريعو التعلق بالحيوان، سواء كان قطاً او كلباً، او حتى طيرا في قفص، ناهيك عن العناية المطلوبة، من تلقيح وتنظيف وما اليه، مسؤلية أخلاقية، وعاطفية أيضا، اذا ما حدث له شيء، سيكون تأثيره العاطفي على الولدين مؤلماً، وما يدريني كيف سأواجه ذلك، بعد ان اتعلق به، لكن ها انا ذا اتقبل ما كنت اخشاه.
سيدتي سين لا عليك، لقد وضعتكما الصدفة في طريق واحد.. ليسامحني القارئ لأنني اربكت بتدخلي تيار السرد، لنعد للسيدة سين وقطها.
اذكر اني سحبت الطفلين، عندما كنت اروم مغادرة الشقة للذهاب للعمل، كانا يتشبثان بقوة بكراسي مائدة الطعام، يتوسلان بي ان ابقيهما مع القط، وأذكر أيضاً انني القيت عليه نظرة شفيقة،عندما تركناه لوحده، لكنني ارتحت وإطمأنت نفسي، حين رأيته قد شبع، وتمدد غافياً على الموكيت الرمادي، اسرعنا نهبط السلالم، ومشينا الى ساحة العمارة، حيث ركنت سيارتي.
لن أنسى ابداً، ما حدث في ذلك اليوم، أذكر كل دقائق ذلك الصباح، الذي انطبع في ذاكرتي، بطابع مزيج من الفرح والحزن، لا أعرف لماذا أحببت ذلك الحيوان الأليف، وتعلقت به بقوة.
لأعود أحكي عن نفسي، فقدت والدي وأنا صغيرة، وفي الثامنة عشر، فُرض علي زواج قسري، من رجل يكبرني عقدين على الأقل، لم أحبه، كانت غرفة النوم الشئ الوحيد الذي يجمعنا، وسريرها بالنسبة لي اشبه بنسيج العنكبوت، كان هو يعتبر العلاقة الجنسية، حق شرعي مقدس، لا يتنازل عنه، وعدا ذلك لم يقم له وزناً، او يعر له أي إهتمام يذكر، وعندما ابديت له رغبتي بالدراسة، راح يسخر مني، ولا غرابة في ذلك، فهورجل تقليدي، يؤدي واجبه كأي زوج، على الوجه المطلوب إجتماعيا، قد لا يرضي ذلك كل امرأة، وأن كان البعض منهن يعتبرنه زوجاً مقبولا، على كل حال، لم اكن انا من هذا الصنف، كنت افهم ان زمن العلاقة الحقيقية المتكافئة، والمشتركة بين الزوجين، لم يحن وقته بعد، ولكنه سيأتي آجلا ام عاجلا، ومع ذلك كنت زوجة قانعة، لا انتظر منه شئيا افضل مما هو عليه، كنت اريد ان احقق ذاتي في شيء آخر احبه، يرضي طموحي، ينتشلني من حياتي السطحية التافهة، التي بدأت تذوي يوماً بعد يوم، خاصة عندما انتقلت من بلدي، لأعيش معه، حيث يقيم ويعمل، حرمني من ابسط حق، انجبت له الطفل الأول في السنة الأولى، وجاء الثاني بعد سنتين، وبينما كان الولدان يكبران، ويتقدمان في مراحل الدراسة، كانت علاقتنا تذوي مع مرور الزمن، وتزداد بروداً وابتعاداً، حتى أصبحت اشبه بالميتة سريرياً.
في المقابل كونا نحن الأعضاء الأربعة (الولدان، يسترداي، وأنا) أسرة بدون أب، انا الأم الشابه، في أوائل الثلاثينات، امرأة جميلة وناضجة، امتزجت حياتنا ببعض، فكان عيد ميلاد يسترداي؛ هو يوم عثرت عليه في الثالث من يوليو/ تموز، عام الف وتسعمائة وست وثمانون، كانت مناسبة هامة، لا تقل أهمية، عن عيدي ميلادي الولدين، نحتفي بها كل عام، وفِي هذا العام أطفأ يسترداي اربع شمعات، موزعة حول كعكة على شكل قطة، وقد بدأت عليه علامات شيخوخة مبكرة.
كان يسترداي او القط أسعد هو التجربة الجديدة في حياتي، بعد ان كبر الولدان، وصارا يعتمدان على نفسيهما، ولكن زوجي لم يرق له ذلك، وكنت كلما أمعن في إيذاءه، ازداد تعلقا به، حتى ان زوجي المسكين من شدة غيرته، اعتقد انني سأتخلى عنه قريباً، من أجل القط.
عندما اكمل يسترداي نصف السنة الأولى من عمره، دخل مرحلة البلوغ، راح ينثر رذاذ بوله في زوايا صالة الإستقبال، لجذب الإناث، انتبهت للرائحة النفاذة، فنظفت المكان وعطرته، وتفاديا لأي مشكلة يثيرها زوجي الذي يكرهه أصلا، رحت اتركه في ساحة العمارة، عندما أكون خارج البيت، كان زوجي يريد اخذه للطبيب البيطري لإخصاءه، لكنني اعرف نواياه العدائية تجاهه، فهو في الحقيقة كان يريد التخلص منه نهائياً، فلم أثق به، لذا عارضته، لإحباط خطته، لم تنته المشكلة بإنتهاء موسم التزاوج، بل ازدادت كل يوم، بسبب اصراري على الإحتفاظ به، حتى وصل به الشك، بإتهامي انني امارس الجنس معه، فيقول مستهزئا، دعي عشيقك يسترداي يشبع غريزتك الجائعة للجنس..
تقاعد زوجي وحصل على مكافأة مالية، عن نهاية خدمته الطويلة، وفِي تلك السنة، تفجر نزاع عنيف بين البلدين، بلدي الأصلي والبلد الذي نقيم فيه، لم يكن يهمني قط، ايهما على حق، لو لم تتطور الأمور، وتنته الى غزو وإحتلال، غير مجرى حياتي الى الأبد، كان ذلك في أواخر العطلة الصيفية للمدارس.
لم أهتم بشيءٍ، عدا مستقبل الولدين الدراسي، كما انني لم أشعر بأي ميزة خاصة، نتيجة احتلال وطني الأم، للبلد الذي أقيم فيه منذ اكثرمن عقد ونصف، بالعكس، فقدت الإحساس بالأمان، رأيت الناس لأول مرة على حقيقتهم، ينقلبون على انفسهم، ولَم تعد الحياة في ظل غياب الدولة، كما كانت من قبل، قائمة على إحترام القانون، انتشرت السرقات على نطاق واسع، وتطاول خدم المنازل على مخدوميهم، البعض منهم فروا، بعد ان سرقوا أشياء ثمينة، وبدا من المألوف رؤيتهم يتسكعون في الشوارع، يتجاهرون بالسكر، يرفعون قنان البيرة، ويطوقون خصور صديقاتهم..
اسمحوا لي ان اقاطع السيدة سين، وأضيف على ما ذكرت، فأنا نفسي كنت شاهداً على الأحداث، رأيت زوجها مرة وبالصدفة، يعانق خادمة اسيوية، وسط مجموعة من السكارى، خدم المنازل، لم أجرأ على إنتقاد سلوكه، فقد جاهر بتأييده للغزو والإحتلال، كما انه انضم للجيش الشعبي، وارتدى بزتهم الزيتونية اللون، وحمل رشاشا، وتمنطق بمسدس يلتصق بخاصرته، كنت اتجنب ان اخوض معه نقاشاً عن شرعية الاحتلال، او الضم القسري، الذي اعتبره هو شرعيا، كما كانت تروج له آنذاك وسائل اعلام النظام، بعودة الفرع الى للأصل.
ما شاهدته من تحول جذري مفاجئ، جعلني افكر ان الفوضى شيء مرادف للكفر، وأن النظام قرين للإيمان، هذا ما خطر لي عندما كنت اتجول وارى مظاهر الإنفلات في الشارع، وعند محطات الوقود، وفي الأسواق المركزية، كل شيء انقلب رأسا على عقب.. لنعد بعد هذه المداخلة الى السيدة سين.
تعاون زوجي مع المحتل، واستفادوا من معرفته الطويلة بالبلد، اما علاقته معي فإزدادت تدهورا، وتضاعف إضطهاده ليسترداي، وبعد محاولته الفاشلة لتسميمه، والتي نجا منها، لأنه لم يكن يأكل من يد أحد غيري، صرت يقضة، فكنت أثناء غيابي أودعه عند صديقتي، التي تسكن في نفس العمارة، ريثما اعود الى البيت، ولولا حذري لكان من الممكن ان يقتله بطريقة او بآخرى.
يسترداي ذكي جدا، خصصت له المرحاض الشرقي، وعلمته كيف يستعمله كالآدمي، وكنّا نحن نستعمل الآخر الغربي، وبذلك استغنى في وقت مبكر، عن طبق الرمل الذي كان يتبرز او يبول فيه، علمته ان يطفئ مفاتيح الأضوية التي ننساها مضاءة، تعلم أشياء كثيرة، علمته كيف يلاعب أطفال الضيوف، ويصف الأحذية خارج الشقة، على قطعة المسح.
كنت اكافؤه بأكسوارات جميلة، تزين رقبته، وأعرضه على البيطري إذا الم به مغص، وعامة كأي قط كان يمتنع عن الطعام ليوم او يومين، حتى يستعيد عافيته، ساءت علاقتي بزوجي؛ بسبب محاولاته العديدة الفاشلة لخطفه، أدت أخيراً الى إنفصالنا، وظل الحال كما هو، حتى أختفى زوجي فجأة قبل التحرير، فإرتحت وشعرت بالأمان.
في نهاية تلك السنة، كان الإستعداد يجري على قدم وساق، لتحرير المدينة، بدأت العمليات العسكرية تقترب، كنّا نسمع دوي القصف الجوي، فكرت بالهرب، ليس خوفاً من جريمة أقترفتها، ولكنني ان بقيت، سأعاقب بجريرة زوجي الذي تعاون مع المحتل، كنت أؤجل السفر كل يوم، فقد اعتدت العيش في هذا البلد، اين سأذهب، انا امرأة لا أملك ما يكفي من النقود، لأعيش بدون عمل، مع ولدين في سن المراهقة، وقط بدأ يشيخ وتبطئ حركته، اخيراً قررت المغادرة، وضبت الحقائب، وأخذت ما نحتاج لرحلة محفوفة بالخطر.
تركت شقتي بما فيها من أثاث، واتجهنا بعد الظهيرة شمالا، على الطريق الصحرواي الذي سيعرف فيما بعد بطريق الموت، قطعنا مسافة قصيرة فبدأ دوي الطائرات يٌسمع من بعيد، ادركت ان توقيت السفر كان خاطئا، توقفت على جانب الطريق، سمعت صوتا يناديني، يصرخ انزلوا قبل ان تقترب الطائرات، كان ذلك صوت ضابط عراقي، يختبئ في حفرة كبيرة، مع جنديين آخرين، وعندما رأوني مع الولدين، اخلى الجنديان مكانهما، واختفيا في حفرة آخرى، نزل الولدان للحفرة مع الضابط، صرخت يا للغباء تركته في السيارة، حاول الضابط ان يمنعني، ويقوم هو بالذهاب، لكنني اسرعت راكضة، رأيت يسترداي ينظر للطريق، من وراء الزجاج المغلق، حملته وعدت مسرعة، فسقطت حقيبتي عن كتفي في عرض الطريق، تبسم الضابط حينما رآنا، شكرته، قلت في نفسي ليحميك الله، انت رجل طيب، لا ادري بماذا كان يفكر، هل فكر قبل ان يراني عائدة مع القط، بأنني لشدة إرتباكي تركت طفلا في السيارة، على أي حال، يستحق حتى الحيوان ان نفكر به، نحافظ على حياته، وليس هناك حياة أثمن من آخرى، هذا ما كنت احب ان يفكر به الضابط، اذا كان يفكر بغير ذلك، وفِي النهاية كلنا سنموت، انفلت القط من بين يدي، ركض بسرعة نحو الحقيبة، التقطها بين اسنانه، وعاد بها، سمعت الجنديان يهتفان ويصفقان له، ضحكنا كثيرا تلك اللحظة، التي ستبقى خالدة الى الأبد، لأنها بددت الخوف الذي كان يخيم علينا.
بتنا تلك الليلة في الحفرة، وعندما طلع الفجر، وانكشف الظلام قليلا، طلب مني الضابط ان ارحل سريعاً، تركنا الحفرة، وإتجهنا للسيارة، جلس الولدان في المقعد الخلفي وبينهما يسترداي، فتحت الصندوق واخرجت بعض المعلبات وقناني المياه، ومواد غذائية، وركضت بما حملت الى الحفرة، شكرت الضابط، أعطيته هذه الأشياء، ودعته متمنية لهم السلامة، وعدت للسيارة، انطلقت على طريق، لا اعلم الى اين يقودني، الى طرق محفوفة بالرعب والموت.
انتهى سرد السيدة سين كما قرأته مكتوبا على الأوراق، كل ما حدث لها وليسترداي.
اتفقت مع زوجتي ان نزورها، لأعيد لها الأوراق، وأقرأ لها القصة التي كتبتها، لم أتوقع ان تكون للقصة نهاية آخرى غير التي انتهت بها، استقبلتنا بثوب اسود، لم نجرأ ان نسألها، خوفاً ان يكون قد حصل شيء مكروه لولديها المغتربين، جلسنا صامتين، انفجرت باكية، قالت:
"رحل عني يسترداي أخيراً وتركني وحيدة"
اعتقدت ربما أنه خرج وتاه، لكنها قالت بحزن مات، رفعت يدي متألما، وقلت ليرحمه الله، كما نفعل عادة طالبين الرحمة للأموات، نظرت لي زوجتي فأنزلت كفيَّ، وقلت لترقد روحه بسلام الى الأبد.
مذكرات في الحب والحرب والسلام.
منطقة تيسين المشمسة/ أوتيتشينو، كانتون في سويسرا، يتكلم قاطنوه الإيطالية بالدرجة الأولى.