-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

رواية «الملف 42» بين السرد التجريبي وبُؤرية الأطروحة - إبراهيم الحجري


 تعددت قضايا النص الروائي «الملف 42» للروائي المغربي عبد المجيد سباطة، وتوزعت بين الفني والدلالي، غير أن الموضوع الرئيسي أقحم روائيا، بين ثنايا عدد كبير من الثيمات الأخرى الشبيهة، التي لها صلة مباشرة بالأطروحة المركزية، وتسهم في تعضيدها وإبرازها، وكأن الرواية تبحث في الأسباب الإنسانية المفضية إلى قلب الكارثة، وما رافقها من تعتيم، وحس إجرامي فظيع، واستهتار بالوجع الإنساني، والتفنن في التنكيل بالبشر، والتلذذ السادي بتعذيب الآخرين مقابل إرضاء شره مادي سخيف.


مع أن الرواية استلهمت مادة تاريخية معروفة، إلا أنها غلفتها بالعديد من القضايا الأخرى، ساعية إلى تحيينها، وتقريبها زمنيا مما نعيشه من أحداث، فالرواية لا تروم إعادة كتابة تاريخ المرحلة (نهاية الخمسينيات، وبداية الستينيات من القرن الماضي) وإنما تبحث «في طياته عن العبر المتناظرة، والتمثلات الرمزية، والتأملات والمصائر، والتواترات، والتجارب والانهيارات القيمية، والتطلعات الكبرى، فكل هذه المسارات الكبرى في (التخيل التاريخي) تنقل الكتابة السردية من موقع جرى تثبيت حدوده بصرامة، إلى تخوم رحبة للكتابة المفتوحة على الماضي والحاضر بالدرجة نفسها من الحرية والاهتمام».
بذل الروائي جهدا فنيا كبيرا في تطريز النسيج العام للرواية، بوضعها ضمن قالب بوليسي تجريبي، استنادا إلى لعبتي الإظهار والإضمار بوصفهما نهجا سرديا له وجاهته في تشييد العوالم التخييلية، حتى يتهيأ له إبراز كل الأبعاد الاقتصادية والإنسانية والنفسية والفيسيولوجية، وكشف آثارها الوخيمة على الطبقات المسحوقة من شعب لم يتعافَ بعد، من تبعات استعمار وحشي دمر الهوية، وسطا على الخيرات والأغلال، وأزهق الأرواح، ومهما توفرت المادة التاريخية وأسنادها، ازدادت مسؤولية الروائي، وتعقدت مهمته الفنية، لأن «ابتكار حبكة للمادة التاريخية هو الذي يحيلها إلى مادة سردية، وهذا يعني إعادة إنتاج التاريخ بالسرد، وما الحبكة إلا استنباط للأحداث المتناثرة في إطار سردي محدد المعالم».

سرد تجريبي ونظرة باختينية

رغم ثراء الموضوعات، وهيمنة أطروحة واضحة على المتن الروائي، إلا أن الرواية تقدم نفسها للمتلقي في قالب فني مختلف، اجتهد سباطة لجعله تجريبيا، إلى درجة أنه يصعب على قارئ تقليدي التفاعل معه، وإدراك خيوط النسيج المحبوك للخدع السردية المتلاحقة، على الرغم من عناصر التشويق المبثوثة بين فواصل المحكي، لكونها انتصرت للشكل الحداثي في البناء، وتمردت على أعراف الكتابة السردية التقليدية، فاعتمدت التشظي، وتفتيت الحكاية، ونوعت من المداخل، كما تناولت بدل قضية واحدة، حكايات متعددة ومتداخلة، واستعارت قوالب أنواع سردية قريبة أو بعيدة، وفتحت أفقها رحبا لاستضمار فنون قول مختلفة ما دامت تثري المقول السردي.
تعددت أصوات الحكي، وتنوعت باختلاف الفصول، وانتقال السرد من حكاية إلى أخرى، ومن شخصية إلى شخصية، ومن زمن إلى آخر، ومن فضاء إلى فضاء، معتمدا سردا تناوبيا، تتعاقب فيه الشخصيات على مقود السرد، لإضاءة أبعاد جوانب العالم الروائي، إذ يتعاقب على السرد كل من بلقاسم زهير، وكريستين ماكميلان، ورشيد بناصر، وراوي رواة غير مشارك في الأحداث، بما يطور مسارات الأحداث ويغنيها، ويعقد حبكتها، وينشط العلاقات بين الشخصيات الفاعلة، ويخلق نوعا من الصراع المطلوب في السرد، لتشكيل رؤى متضاربة حول العالم، هذا النوع من الصراع والسجال هو أيضا «تعبير عن تصارع أنماط الوعي، والرؤى للعالم».
اقتضى تنويع أصوات المتكلمين في الرواية، وتعدد ثقافات الشخصيات المؤثثة لعالمها التخييلي، توفر عنصر آخر شديد الارتباط، وهو تعدد اللغات، إذ نصادف العربية الفصحى، والعامية المغربية، والروسية، والإنكليزية والفرنسية، ليضفي الانسجام المطلوب على عناصر البناء السردي كافة، ويحفظ التوازن المحبذ في وضعية المماثلة والتمثيل، ضمانا لفعالية الخطة الحجاجية المعتمدة نصيا للإيقاع بالمتلقي في شرك تصديق واقعية الأحداث، ومتابعتها بالتشويق الاحتيالي المصمم سلفا، مثل فخ مدفون، ليتحقق التواؤم المُستجدى من العملية الإبداعية، حيث عمد الروائي في كثير من الأحيان، تبعا للحاجة الفنية والبلاغية، إلى إيراد المقاطع السردية بلغتها الأجنبية التي لن يفهمها أغلب القراء، ثم يقوم بتعريبها حتى يحصل التواصل المستحب والمعرفة الضرورية بمتغيرات المحكي، وحبكاته وأحداثه وتحولات مسارات شخصياته، وفق الغاية المقصودة، والأطروحة المُؤسسة سلفا.
تنم هندسة النص عن طبيعة الوعي السردي الذي يتشبع به الروائي، فهو يمعن في تفتيت البنية السردية إلى أقصى حد، مراهنا على ذكاء المتلقي في إعادة بناء العالم، وتعديل تراتبية وقائعه، كما أن الحكاية تقدم نفسها عبر أبواب متعددة، يفضي كل منها إلى متاهة سردية تنفرد بشخصية معينة وفضاء محدد، لكن المتلقي لن يستطيع تتبع المسارات مفردة كلا على حدة، إذ لا بد له من استقبالها مجتمعية في لحظة سردية يتحكم فيها الرواة، فيضطر للخروج من متاهة قبل الدخول في أخرى، وتلتف الحيرة حول عاتقه؛ بحثا عن صلة وصل بين المسارب، أو خيط يشد لحمتها، ما يجعل القارئ مشاركا في تصميم العوالم، وترتيبها، وملء بياضاتها، والعثور على الضميمات الناظمة للأجزاء المتفرقة، علما أن الرواية وظفت مبدأ «التقطير السردي» بوضعها روابط واصلة بين الفينة والأخرى، لكنها مبهمة، وتتطلب انتباها شديدا:
• الرابط الأول: اهتمام كل من زهير بلقاسم، شخصية المتاهة السردية الأولى، وكريستين ماكميلان شخصية المتاهة الثانية، بعوالم رواية «بطل من زماننا» لميخائيل ليرمنتوف، التي ترميها الأقدار في طريقهما بوصفها إشارة لوقائع محتملة، ومصائر ملغومة ستجتازها الشخصيات في مساراتها الوعرة، وكأن هذه الرواية تمثل خلفية النص الملتبسة.
• الرابط الثاني: التقاء الروائية كريستين ماكليمان بشخصية المتاهة الثالثة، طالب الدكتوراه المغربي رشيد بناصر، إبان نزولها في فندق في الرباط، لمطاردة سيرة والدها الغامضة، لما كان عسكريا في المغرب.
• الرابط الثالث: وجود اسم ستيف ماكليمان، والد كريستين، في مذكرة شخصية من شخصيات رواية «أحجية مغربية».
• الرابط الرابع: ظهور خبر عاجل بُث على قناة إخبارية عربية، احتجاز مواطنين روس في مسرح من قبل متطرفين شيشانيين ناقمين.
• الرابط الخامس: لقاء كريستين وبناصر وخالد رفيقي، هنا تلتم المتاهات الثلاث.
• الرابط السادس: اللقاء بين زهير بلقاسم وعبد المجيد سبطة، وتمكن الأخير من استعادة مخطوط روايته الذي يصير واحدا من شخصياتها، وتعود الحكاية إلى نقطة البداية (التوازن المفقود) حيث تقدم حلول الألغاز والحبكات السردية التي تظل ملتبسة إلى آخر فقرة من المتن.

تعالج رواية «الملف 42» قضايا متشعبة تخص الشأن الإنساني عامة، طارحة مسألة جدوى الكتابة في خلق التغيير الممكن، وعلى الأخص النوع الروائي، لكنها تشدد على وجع الإنسان المغربي على امتداد أكثر من سبعين سنة، أي منذ حصول البلد على استقلاله، مشخصة الأسئلة الغامضة التي تنبثق عنها المأساة، فبعضها خارجي يرجع إلى التكالب الدولي، وتدخل المصالح الأجنبية، وكثير منها يتصل بطبيعة الإنسان المتحمل لمسؤولية، وتدبير الشأن العام، حيث تنعدم الضمائر، ويسود التراخي في أداء المهام الموكولة إليه، وتطغى المصالح الشخصية التي قد تصل إلى حد المقامرة بأرواح شعب بأسره، ودفعه نحو المجهول، مع أنه يبرز طيبة الشعب وكرمه، وتعامله الراقي مع الأجنبي وتقديره، مقدرا أن ما جناه من ظلم وعسف من قبل الإدارة، ومن قبل المسيرين لا يرقى أبدا، لمستوى سماحته واجتهاده وكفاحه، يقول الراوي على لسان شخصية من شخصيات الرواية موضحا مأساة الإنسان المغربي: «المغربي أسوأ حظا من سيزيف، يفني عمره دافعا صخرة قهره إلى القمة، ثم ينتهي به المطاف مسحوقا تحتها».
يسلط المحكي الضوء على الإشكالات التالية:
انتشار البطالة، وهيمنة المحسوبية في تدبير ملفات الشغل وإسناد المناصب؛ الشيء الذي يدفع بالرأسمال البشري المحلي لأن يغادر البلد، بحثا عن أفق آخر لتفجير طاقاته المقموعة، يقول السارد على لسان إحدى الشخصيات: «ويا له من ظلم، أن يجبر وطن أبناءه على كراهيته والبحث عن ربع فرصة لتركه…».
الشطط في استعمال السلطة، وقمع المتظاهرين السلميين، والاعتداء عليهم جسديا؛ يقول السارد مصورا مظاهر الاحتقان الشعبي: «ظلت الساحة المقابلة للبرلمان كما هي، الملجأ الوحيد لمن تحولت أحلامهم المستقبلية المشرقة إلى كوابيس واقعية مظلمة، مظلمة، في بلد مواطنوه هم أرخص ما فيه…».
سيادة الجهل والفقر والشعوذة والتفكير السطحي؛ ضعف التأطير الجامعي، وقمع الباحثين بدل تشجيعهم؛ ضعف بنيات النشر والتوزيع، وصعوبة وصول المنتوج الأدبي المغربي إلى القارئ العربي والعالمي؛ طمس الملفات الوازنة، وإقبار حقوق الناس، مقابل التراخي في معاقبة الجناة، ومضيعي المكتسبات، والمجرمين الكبار الذين يخلطون السلطة بالمال العام بمناصب المسؤولية؛ متسترين بحصانة تضمنها لهم المساطر؛ يقول السارد الشخصية مشخصا الوضع: «ولأنني مغربي، فأنا أول من يستبعد احتمال تفكير موظف مغربي في ترك مقعده الوثير، ومكتبه الدافئ في موسكو، وقطع سبعة آلاف كيلومتر فقط للتأكد من هويتي هنا في كراسنوكامنسك».
يؤول وضع أغلب الشخصيات إلى نهايات مزرية: (السجن، المستشفى، أمراض مزمنة، الوفاة بطرق مأساوية…).
شكلت الكتابة المتنفس الوحيد الذي أنصف الشخصيات المكلومة، وكأن كل منها كتب روايته التي هي في نهاية المطاف رواية البشر عامة: (زهير، وكريستين، ولبنى العفوي، ورشيد بناصر، وعبد المجيد سباطة، سيرجي كرياتشكوف). ولا بد من الإشارة هنا، إلا أن اختيار طبيعة الشخصيات، وانتقائها من فئة الكتاب والمناضلين والباحثين والناشرين، توافق نظرة الرواية للعالم، وتدعم أطروحتها في تشخيص وضع المثقف في سياق دولي أنهكته العولمة، وقزمت قيمه الإنسانية مظاهر التهافت على الماديات، والرساميل، والربح السريع، والتقنية المتطورة، فرواية «الملف «42، تقدم لنا «صورا واقعية وتاريخية عن «المثقف» العربي الحديث، وهو يعيش التمزق الداخلي بين عالـمين متناقضين: عالم قيـم مترسبة في أعماقه، ويحاول التمرد عليه بوعيه بها، وعالم يتمسك بهذه القيـم ويحاربه بها، وينتج عن هذا التناقض القائم: الإحساس بالاغتراب والرفض المؤديين إلى المعاناة».
تقارب الرواية بعمق قضية الإنسان المغربي المعاصر، وهو يكابد خيباته المتلاحقة، على مستويات شتى، كأنها لعنة مقيمة تطارده حيثما حل وارتحل، مكرسة مساحة كبيرة لتشخيص مسوغات هذا الوضع، وأسئلته، ومتاهاته التي تشتد عتمة، كلما توغلنا في الزمن، دون أن يومض شعاع أمل من ثنايا المتن، أو في تعبيرات الشخصيات والرواة، أو في إيحاء منطوقهم بشتى اللغات والإشارات، تلتف الأقدار حولها، وتدور لتعود إلى نقطة البداية، دون أن تكشف أسرارها، إنها «الأحجية المغربية» الملتبسة، يقول الراوي على لسان إحدى شخصياته، مختصرا الأزمة: «قولي إنه لا يستحق البقاء أصلا في بلد لا يحتاج مسؤولوه إلى الرصاص أو إلى المخدرات للإجهاز على خيرة شبابه، ما دامت لعبة القهر البطيء وحدها كفيلة بذلك».

ناقد وروائي مغربي


عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا