مع الاحتفاء بالطبيعة، تتحدث رواية «سيمفونية الجنوب» للتشادي طاهر نور عن إنسان ما بعد حرب 2 فبراير/شباط 2008 وترصد تحديات أزمة الهوية والمجاعة والهجرة، وتخلخل البنية المجتمعية في تشاد في تلك الفترة العصيبة. وعلى الرغم من هدوء اللغة الحوارية التي تحكم علاقة الشخصيات ببعضها بعضا، إلا أن هناك ضجيجاً داخلياً في ما بينها، يعبر عن صراعات وتباينات عميقة، ما بين الجنوب، حيث الإنسان المتصالح مع ذاته وواقعه، وعلى العكس منه ابن الشمال وبيئته المضطربة سريعة التحول والعطب. ويتكئ الكاتب في ثنائياته السردية على تعابير مستقاة من القرآن الكريم، وهذا ما يدل على تجذر الثقافة العربية، وقوة حضورها في بلد يمتاز بغناه الثقافي وتنوعه العرقي.
عن الرواية وعالمها كان هذا الحوار:
■ بعض النقاد يرون أنك بالغت في الوصف واستخدام الأساليب البلاغية بكثرة في روايتك، في حين أن البعض منهم أنصفك، كونك كتبت بلسان عربي باذخ في المعاني، وتصوير دقائق التفاصيل، ما رأيك؟
□ يهمني ما يقوله النقاد عن الرواية سلباً وإيجاباً، هذا عملهم ومجالهم، وليس من مهامي أن أرد عليهم أو أفنّد أقوالهم، ولكن على العموم هذا أسلوبي في السرد، وفي إيصال بعض الأشياء التي لن أستطيع شرحها بطريقة أخرى. لكل امرئ طريقته في السرد كما تعلم، وطريقتي هي أن أقرّب المعاني المتباعدة عن بعضها بالوصف الخلاّق، ربما يبدو الأمر غريباً لبعض النقّاد أو القرّاء أو حتى أنا نفسي، إذ أجد في كثير من الأحيان بعض الغرابة في الوصف، ولكن في النهاية إنها كلماتي، وهي في نهاية المطاف مرة أخرى تنتمي إليّ. وأنا في الحقيقة استمتع للغاية في التعامل مع الأمر على هذا النحو، لأنني أحب اللغة، واعتقد أن فيها وعاء كبيرا، يمكنني أن اغترف منه ما أشاء من كلمات، دون أن ينفد معينه. الأمر مثل اللعبة، تستمتع بها كلما ذهبت بعيداً في مستوياتها المتعددة.
■ في حوار سابق قلت إنك تأثرت كثيرا بالأدب الروسي وإبراهيم الكوني، هل ظهر هذا التأثير في نصوصك؟
□ ظهر هذا التأثير في باكورة أعمالي «رماد الجذور» الصادرة عام 2019 ولكنني حاولت إزالة هذا التأثير في كتاباتي التالية، بدليل أن «سيمفونية الجنوب» جاءت مختلفة تماما عن اختها الأولى، وأسست لأسلوب سردي ذي طابع خاص، تميّز كما قال بعض النقاد، بلغة تنمو ولا تهرم، لا تتلوّى ولا تبدي نفوراً، وبالوصف المختلف والغريب أيضاً.
■ من خلال الحوار بين البطلة مريام وزوجة أبيها مانديلا، نجد تركيزاً كبيراً على الطبيعة، لماذا؟
□ نص «سيمفونية الجنوب» يرتكز على الطبيعية أساساً، ولعل الفكرة كلها تدور حول هذا الأمر، وكأن الطبيعة هي الضامن الوحيد لمفردات الطمأنينة والتعايش السلمي بين الجنوبي والشمالي من جهة، والمسلم والمسيحي من جهة أخرى. وبالتالي يمكن للقارئ ملاحظة مثل هذا الحوار على طول الرواية، دون أن يخرج من السياق الحقيقي للفلاش باك، أو العلاقة القائمة بين الشخصيات والطبيعة ذاتها.
■ تذكرنا البطولة لشخصية الطفلة «مريام» بشخصية الطفل «مصطفى سعيد» في «موسم الهجرة إلى الشمال» فلماذا الارتكاز على المكان ووفق تقسيم جغرافي متباعد ومتناقض شمال ـ جنوب، يحمل كل منهما تنميطاً على الصعد كافة، ولماذا الزمان يتحكم فيه المسار الطبيعي ـ العمري لهاتين الشخصيتين؟
□ دائماً هناك جنوب وشمال وراءهما قصة، كما في الرواية، ولكنه تقسيم يمثّل أساسا اللامساواة واللاعدالة في التنمية. وحتى في نطاق أوسع، يعتبر الغرب المتقدم شمالا والشرق المتأخر جنوبا. الشخصيات الروائية التي تنتمي إلى المكانين معا هي شخصيات معطوبة، وغالبا ما تكون مدفوعة للحياة في أحد الاتجاهين، حيث تكون قد عانت كثيرا في مكان آخر، وبالتالي تذهب إلى المكان الثاني بحثا عن حياة أفضل. كما حدث للبطلة مريام ولوالدها حامد. المفارقة هنا هي أن مصطفى سعيد في موسم الهجرة إلى الشمال، في هجرته الخارجية ذهب بحثا عن التعليم وعن حياة أفضل في بريطانيا، ومن ثم عاد بعد سنوات طويلة، مفضلا العيش في قرية صغيرة من قرى النيل، وفي المقابل ذهب حامد في «سيمفونية الجنوب» إلى الجنوب، لأنه ما عاد يتحمل البقاء في الشمال، الخارج توا من أتون الحرب، لكنه رغم ذلك يعود إليه مجددا، بحثا عن عائلته، ويموت في النهاية بسبب الكوليرا، لكن هل عادت البطلة المحورية مريام كما فعل والدها؟ وكما فعل مصطفى سعيد؟ بالطبع لا، فقد قررت البقاء في الجنوب، مع أناس غير مسلمين، وغير شماليين، ولا يشبهونها في شيء. فقط هناك شيء واحد حفزها على البقاء، هي الطبيعة الجميلة، والأطفال الذين ألفتهم خلال نصف عقد من الزمان.
■ المثقفون في بعض الدول الافريقية، ممن ينتمون للثقافة الأفروعربية، نراهم دوماً يقرعون طبول الخوف على الهوية، يا ترى كيف يتبلور هذا الصراع ثقافياً؟ وما هي جذوره؟
□ يبدو أن جذور هذا الصراع تعود إلى ما بعد سنة 1900 إثر سقوط الممالك والسلطنات في أيدي الاستعمار الفرنسي. ما سمح للكونيالية الفرنسية (التي بدأت بالتوازي مع ازدهار الرأسمالية التي برزت كقوة عملاقة صاعدة في العالم الغربي) بإعادة صياغة الحياة الثقافية واللغوية للمجتمعات الافريقية، وجعل الفرنسية لغة يتخذها الاستعمار دائماً وسيلة من وسائل هدم الثقافات والحضارات والهويات الأصيلة. وقدّر المستعمر الفرنسي أن اللغة العربية والدين الإسلامي من أهم العقبات التي تعيق المشروع الاستعماري والتنصير المسيحي، فعمِل على محاربتهما دون هوادة، وحاول طمس العربية لتفريغ الحضارة وممالك تشاد الإسلامية من محتواها. اعتقد أنه صراع طبيعي، في عالم لا يؤمن إلا بالقوة، والهوية فيه تتحدد حسب القوة، أياً كان نوعها. وما تلك المخاوف التي أشرتَ إليها، إلا نتيجة لهذا الصراع الذي يحاول فيه مثقفو العربية كطرف أضعف الخروج من مأزق الفرنكفونية التي قسّمت البلد الواحد والشعب الواحد إلى ثقافتين تتنكّر إحداهما للأخرى.
■ وما هي المكانة التي تتبوأها الثقافة العربية؟ وما مدى حضورها قياساً بباقي الثقافات في تشاد؟
□ من الناحية الشعبية تحتل اللغة العربية في تشاد المرحلة الأولى، كونها لغة الممالك القديمة «كانِم، ودّاي، باقِرْمي» وكونها لغة الشارع، والوسيلة الوحيدة التي يتواصل عبرها أفراد الشعب، الذين ينتمون إلى عشرات الإثنيات المختلفة في لهجاتها وثقافاتها وتقاليدها، كما أنها لغة دستورية، إلى جانب الفرنسية، بيد أن وجودها يضعف في أروقة السياسة والإدارة والمؤسسات الكبرى غير التعليمية. ولعل المنظمات نجحت إلى حدٍ كبير في إبعاد العربية عن الدوائر الرسمية الحكومية، وفي التأثير على الإثنيات الجنوبية المسيحية، التي ظلت تبعث أبناءها إلى المدارس الفرنسية، دون سواها. وعلى العموم، فإن الثقافة العربية متجذرة في تشاد، وتعود إلى العقود القديمة، حينما كانت العلاقة بين الممالك الإسلامية والعالم العربي تمر بفترة ازدهار، قبل أن تضمحل مع اضمحلال السلطات نفسها.
■ لماذا لا تهتم النخب العربية من المثقفين، وحتى القارئ العادي بآداب وثقافات الشعوب الأخرى المحيطة بهم، على الرغم من كل المشتركات، ولماذا جل اهتمامهم بالغرب أدباً وثقافة ولغة؟
■ يقول ابن خلدون في مقدمته «إن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده». فالغالب القوي دائماً يكون قدوة في السيّئ والحسن للمغلوب الضعيف، سواء تعلق الأمر بظاهرة الحكم في الداخل أو موازين القوة بين الأمم، أو حتى علاقة التحكم داخل الأسرة الواحدة. إذن فالثقافة العربية تحب الأخذ عن الغرب في الكثير من المظاهر المرتبطة به، وعدم الالتفات إلى الآداب المجاورة، سواء افريقية أو فارسية أو أمازيغية، على الرغم من أن هذه الشعوب تزخر بالكثير من السرديات المختلفة في طرحها وفي طبيعتها، ومن غير أن تتيح لها السانحة للاطلاع على الذاكرة الثقافية التي تحتويها، ومعرفة آلية الزمن العجيبة التي تكوّنت خلالها. وكأن الشعوب العربية تتضافر هي الأخرى، لكي لا تعوض هذه الثقافات على نفسها، عن الصراع المديد الذي تشنّه عليها الأنظمة الإمبريالية التي صبغت وجودها بألوان الذكرى وألوان الأمس القاسي، وازداد وجودها هشاشة على هشاشة، لعلك إن قرأت روايات وول سوينكا وتشينو أشيبي، وتشيمامندا، ونور الدين فارح، وعثمان سمبين، ونجوجو واثينجو وغيرهم، لبدا لك أنك تقرا نصوصاً لا يمكنك أن تقرأ مثلها في أي مكان من العالم، وهكذا يمكننا قياس ذلك في آداب أخرى مجاورة أو غير مجاورة.
■ ربما البعض يرى في طرحك هذا أنك تقرأ العلاقة السياسية ما بين العالم العربي والغرب في الوقت الراهن، من خلال الأدب، وربما آخر يرى أنك أجحفت حق الحضارة العربية ومدى حضورها وتأثيرها في الغرب؟ ما رأيك؟
□ تأثير الحضارة العربية في تشاد مثلا أقوى أثراً مما هي في أوروبا، بدءاَ من اللهجة العربية التشادية ذاتها، والموسيقى والأفلام العربية التي نسمعها مثلما هو الحال في البلدان العربية، وانتهاء بكل ما يُكتب ويُطبع ويُنشر في المكتبات، وليس من المدهش أن يتكلم التشادي اللهجة الخليجية أو الشامية أو المصرية أو المغاربية، ويفهم الكلام العامي دونما صعوبة. ولعلنا إذا عدنا إلى الوثائق التاريخية لوجدنا المراسلات بالعربية بين ممالك افريقيا وممالك تشاد، وبينها وبين الخلافة العثمانية، ودولة الموحدين في المغرب، ومملكة تومبكتو، وسوكوتو والأزهر الشريف وغيرها من الكيانات القائمة آنذاك، لوجدنا ما يدحض أي قول بمحدودية العربية وتأثيرها في الجوار، أو مع شعوب العمق الافريقي، تلك التي تقطن أدنى الصحراء الكبرى، وحتى ثقافياً لدينا شعراء بالعربية يعود تاريخهم إلى القرون الأولى، ولا تزال آثارهم موجودة. ما أقصده هو التأثير الحالي في مجال الأدب واللغة، خذ مثلا المؤسسات الفرنكفونية، كالمنظمة الدولية للناطقين بالفرنسية «تأسست في السبعينات من القرن الماضي» التي تضم 80 بلدا وحكومة و57 عضواً و23 مراقباً، وهي تُعنى بشؤون اللغة الفرنسية الرسمية والمنتشرة على نطاق محدود في بعض البلدان، ولها اجتماعات دورية خاصة بها، تعيد النظر في وضعية اللغة الفرنسية وفي السياقات العامة في البلدان الناطقة بها، جزئياً أو كلياً. ما أود الوصول إليه هو، أن عالمنا اليوم تجاوز العصبية القبلية أو اللغوية، وسَما بنفسه إلى العالمية، في اللغة، وفي المواطنة، وصولاً إلى المعتقد، وبالتالي يتحتّم على العالم العربي أن يتجاوز الكثير من القيود الوهمية التي يضعها أمام لغة لا يليق بها الانكماش، أو التعامل معها كما لو أنها مشلولة أو ميّتة، أو محاولة حجزها في إطار هوية معينة.
■ ماذا تصنف نفسك، كاتبا افريقيا على غرار وول سوينكا وتشينو اشيبي، أم كاتبا عروبيا افريقيا؟
□ أنا كاتب دون أي تصنيف آخر، لكن إن أردت التصنيف، فأنا كاتب افروعربي. هنا نحن نكون أحياناً أمام خيارات صعبة، وتكون إجاباتنا مربكة وغير قابلة للتأويل، بسبب الهوية المشتركة، وبسبب النظرة المختلفة التي تلقى عليك لمجرد كونك مختلفاً، ومن ثم فإن الخوف الذي تحدثت عنه لا يرتبط بالخوف من المستقبل الذي قد يكون غير رحيم بهم، وإنما يكون بسبب هذه الهويات المتشظية، لاسيما إذا كانت الهوية التي تنازعها هوياتهم المعلّقة على خيوط واهية مثل الأشياء الخفيفة، هي هوية تقف خلفها دول ومنظمات كبرى.