تنتمي قصيدة "أين أنا"[1] للأديبة د. مهى جرجور، وتلحين الموسيقار كاروزو لوجين، الى القصيدة الرقمية وذلك لوجود عناصر القصيدة الرقمية (الصورة، الصوت، الحركة، النّص)، وتنسجم هذه العناصر وتتضافر مع بعضها البعض من أجل تحقيق رؤية العمل.
تحاكي هذه القصيدة الواقع السيكولوجي، الاجتماعيّ، الثقافيّ... المنقسم في العالم الداخلي للطفل/المراهق، نشأ هذا الجيل مع الثورة التكنولوجيّة والرقمية، وفي أوّج انتشارها، ونظرًا لأهمية الألعاب في حياة الطفل/المراهق، فكانت الألعاب الالكترونية المكان الافتراضي الّذي يلجأ الطفل إليه للتسلية والهروب من واقع يعيش فيه بصراع نظرًا لاختلاف التطلعات والهواجس ودرجة الوعي.
يُظهر العنوان "أين أنا" السؤال عن مكان الأنا، إلى أي عالم
تنتمي، وأي عالم سيحقق فيه الطفل ذاته، وأي عالم سيدخله في المتاهة، وأي مكان
سيحقق فيه الأمان والاستقرار والسلام الداخلي وأي مكان سيوهمه بالسعادة. هذا
الانقسام المكاني لحدثين وتجربتين مختلفتين، ونوعية زمنين مختلفين، يظهران في القصيدة
ويأخذ كلّ مكان وزمان وحدث مساحة مختلفة، فالعالم الافتراضي أخذ الحيز والمساحة
الأكبر وهذا يدل على نقل هذا الحدث بتفاصيله نظرًا لأهميته وجدّته وكذلك لارسال
شعور من التفهم والتقبل والأمان للمتلقي أي الطفل/المراهق، ونلاحظ أن الأسطر
الأخيرة تبرز العودة الى الواقع الّذي ينتظر هذا الطفل ليحتضنه ويساعده، ونقطة
التحول هنا بين العالمين تبرزها القصيدة بأنها تبدأ وتنتهي من داخل الطفل.
الحدث الأول في القصيدة ينتمي الى العالم الافتراضي(المكان)، عالم الألعاب
الالكترونية، ويبدأ عند "حدث يومًا أنّي حتّى لا أحد يشاركني همي"، يأخذ
هذا المقطع المساحة الأكبر في القصيدة، حيث يصف الحدث بتفاصيله، ويظهر بهيئة حديث
داخلي (مونولوج)، يتحدث فيها الطفل /المراهق عن
تفاصيل اندهاشه/وخيبة أمله بهذا العالم السحري، الّذي عاش فيه لوحده إزاء
متاهة (قالب الجبن) ويحيلنا قالب الجبن الى كتاب " مَن الّذي حرك قطعة الجبن
الخاصة بي؟"، ويدخل في هذا العالم الّذي انجذب إليه، بداعي الفضول، والملل،
والشكوى، والبحث عن اليقين، وما يقين الطفل/المراهق سوى السعادة والتسلية والفرح
والتهرب من مسؤولية الدراسة والتعلم، وبعد دخوله المتاهة نستشعر الضياع والتوتر من
خلال انهمار الأسئلة (أين أنا؟، ماذا أفعل؟، أأكلم أصحابي؟، أأكلم أحبابي؟..)
نلاحظ هنا في خضم الضياع والتوتر لجأ الطفل في سؤال نفسه عن إيجاد الحل، باختيار
أصحابه أولاً وهذه نقطة مهمة أي أن الطفل يطلب النصيحة من أصحابه أيّ مَن هم من
عمره ولم يذكر هنا بأنه سيأخذ النّصح من أهله وهذا ان دلّ على شيء فإنه يدل على
برودة علاقته بأهله وهذا البعد عنهم في طريقة التفكير لا البعد المكانيّ، وهذا يطرح
اشكالية كبرى حول تفعيل دور الأهل في حياة الطفل/المراهق، وإضافة الى ذلك ذكر
عبارة (سلوليري ليس معي) مما يؤكد أن الطفل/المراهق سيستخدم وسيلة اتصال فيها بُعد
مكاني لطلب المساعدة.
ويتكرر السؤال (ماذا أفعل؟ /وحدي في عالم الغيم(game)) وهذا السؤال المشروع عندما يقع أحدهم في
مشكلة يسأل عن الطريقة للوصول الى الحلّ، ونلاحظ أن العبارة التالية الّتي تشير
الى أنه وحده يواجه هذه المشكلة في عالم الغيم، واذا كتبنا كلمة game الانجليزية أو لفظناها باللغة العربية
(تعريب) وهنا نلاحظ بأن وضع هذه الكلمة لم تكن صدفة، إنما اذا لفظناها عربيًا
ستشير الى الغيم، ويمكن أن يؤدي اللهو في عالم الغيم إلى العبثية وخسارة الوقت دون
فائدة، وفي تأويل آخر عن الغيم هو ضباب يحجب الرؤية عن الصورة، واذا عدنا الى معجم
المعاني فالضباب الضوئيّ هو عيب في الصورة ناشئ عن تسرّب الضوء إلى المواد
الفوتوغرافيّة بطريق الخطأ، وعرّفنا الضباب الضوئي لارتباطه بعالم لgame، ويترافق في الفيديو مع هذا المقطع طفل يضع
نظارات للألعاب ثلاثية الأبعاد تشبه الواقع، وهنا اشارة فيها إلى توعية للأهل
والطفل على السواء.
ويستمر السؤال (أين أنا؟) حيث إن السؤال هو جزء من الشك وطريق نحو البحث عن
اليقين، وبعد هذا السؤال الموّجه الى الداخل ببحث عن فائدة هذه الألعاب الّتي تعزز
بداخله قيم جديدة وتسيطر عليه ليل نهار، أي أنها تستهلك وقته وطاقته، وبعد ذلك
يظهر الحقل المعجمي لمصطلحات تُستخدم في الألعاب الالكترونية وخاصة القتالية منها
أي تنتمي الى الألعاب الّتي تعزز العنف والقتل والالغاء.... ومن هذه المصطلحات: أهرب،
أظهر، أختفي، أجمع، أربح، أخسر، وإضافة الى تلك المصطلحات يبرزهذا المقطع الحالات
الشعورية المتقلبة والمتغيرة الّتي يعيشها الطفل/المراهق وهي: أفرح، أحزن، أغضب،
وهذه الحالات الشعورية يعيشها مع صديقه الوهمي، فبذلك يتعمق شعوره بالوحدة
والانعزال عن محيطه الحقيقي، وكلما اكتشف أن قطعة الجبن مفقودة يعود إلى البداية
والبحث من جديد من خلال طرح السؤال أين أنا؟، وبعدها يجيب الطفل/المراهق بأنه يقطن
في ركنه أي أنه جالس في مكانه على كل المستويات، فهو لم يحقق شيئًا من بحثه،
ويعترف بعدها بالهزيمة والفشل والشعور بالانكسار في عبارة "ما فائدة أنّي
أغرق في حلمي"، ولكن بعد هذا الفشل يأتي الاعتراف بالاسباب أو نكران مسؤوليته
تجاه ذاته، حيث وردت عبارة " لا أحد يسمع مني/ لا أحد يشاركني همي"
ويمكن لهذا التصريح أن يكون رسالة للأهل لإعطاء الأطفال المساحة والوقت للتعبير عن
أنفسهم وعن تطلعاتهم، ومساحة من الامان ليشاركونهم همومهم ومشاكلهم. هذا الحدث
الأول من ناحية النّص، ولكن هناك عناصر أخرى
ترافق النص ومنها الصوت وهنا نجد الموسيقى ايقاعية راقصة ترافق القصيدة حتى
النهاية، كأنها أخذت من النحل رقصة كوسيلة للتواصل والتفاعل، رغم أنه في القصيدة
وردت عبارة "أركض خلف النحل" ولكن في نهاية المقطع كان حلمًا، إلا أن
رقصة النحل بارتباطها مع الموسيقى أخذت أبعادًا جمالية وخيالية أخرى.
أما الصور الّتي رافقت هذا المقطع كانت متحركة، بدأت بأشكال ملونة تنسجم
حركتها مع الموسيقى وخلف الألوان الفضاء ليلاً، وأيضًا صورة الطفل الّذي يضع نظارة
الألعاب ثلاثية الأبعاد، ويظهر انسجامه التام معها، وصورة متحركة أخرى تعبر عن
المتاهة في مكان افتراضي وكل أشكاله مثلثات كقطع الجبن، ولدينا صورة أخرى لكرة البلياردو
السوداء يبدأ فيها العد العكسي قبل البدء باللعبة بأرقام بيضاء، وبعدها صورة
متحركة أخرى لرائد فضاء يجول بين المباني الشاهقة وقت الغروب، وبعدها صورة متحركة
لطفل يلعب على جهاز مثل البليستيشن، وتاليًا صورة لمراهق يجلس ازاء حاسوبه ويشير
شكل الطاولة بأنها مخصصة للدراسة.
ننتقل الآن الى الحدث الثاني في القصيدة، وينتمي الى العالم الواقع
(المكان)، ويأخذ المساحة الأقل في القصيدة، لم يتمدد الوقت هنا بل انكمش، ليعبر عن
الحدث بوضوح، ففي هذا المقطع تتكرر عبارة "وحدث يومًا أنّي" لتشير الى
الحدث الثاني، ولكن هذا الحدث بدأ بالاستيقاظ من الحلم أي النوم أي الغفلة، وكلمة
الاستيقاظ انما تدل على يوم جديد، وفجر جديد، ومرحلة جديدة، والصورة المتحركة
الّتي رافقت هذه النقلة هي صورة لكرات القدم، وترتبط هذه الصورة مع صورة البلياردو
الّتي ظهرت سابقًا الكرة السوداء وعليها أرقام تبدأ بعدّ تنازلي لبدء اللعبة
الالكترونية، والرابط بينهما هي دعوة للطفل/المراهق من أجل الخروج من ركنه والتحرك
فلعبة كرة القدم تحتاج الى الحركة، لذا رمزية الحركة هنا هي الخروج من العالم
الافتراضي وخاصة الألعاب لأنها لا تأتي بفائدة، الى عالم الواقع حيث برزت تلك
الدعوة في الأسطر الأخيرة(فعدت إلى نصح أبي /إلى كتبي إلى ذاتي /إلى تحقيق أمنيتي
/ إلى يقيني في وطني / إلى قربي من أمي / هذا أنا)، ان استخدام فاء الاستئناف مع
الفعل "عدتُ" انما لمتابعة الكلام ولكن من منطلق جديد، وقبول النصح بعد
المرور بالتجربة الأولى الّتي لم تأتي بالفائدة، فالعودة الى تنفيذ كلام الأهل
والاقتناع به، حيث إن تحقيق الذات والأمنيات يبدأ من الكتب والتعلم، والعيش في كنف
العائلة هو اللبنة الأولى لتحقيق الاستقرار والسلام الداخلي. وبالعودة الى العبارة
الأخيرة "هذا أنا" وهي بمثابة اجابة عن السؤال الأول في القصيدة
"أين أنا؟، وقربها مكانيًا في القصيدة من المقطع الأخير تشير الى أن المصالحة
الداخلية والخارجية مع الأنا جعلت هذا الطفل/المراهق يتقبل ذاته ويجد نفسه بين
النحن، ويحدد هويته. أما الصورة المتحركة الّتي رافقت هذا المقطع هي صورة طفل مع
أمه، وهنا اشارة للعودة الى الأم بكل رمزيتها ودلالاتها.
خلاصة القول، تسلط هذه القصيدة الضوء على أهمية احتواء الطفل/المراهق من
قبل العائلة وأهمية التعامل معهم في ظل التحديات المحيطة بهم، ودور الأهل في بناء
جسور آمنة لأطفالهم لعبور هذه المرحلة دون صراعات خارجية تضاف إلى صراعاتهم
الداخلية.



