يَذكر الباحث البريطاني دوج أندروود في عمله "الرواية والصحافة" أن الكاتب دينيل ديفو (1660 – 1731) كان يُعاني من خلط قرّاء عصره بين مقالاته الصحافية، التي تحيل إلى شخصيات حقيقية، وبين كتاباته الروائية التي تظهر فيها شخصيات من وحي خياله. ويرى أن نهاية هذا الخلط شرط من شروط بيئة أدبية مزدهرة، ولم يكن من الممكن ظهور الرواية بمعناها الحديث، في القرن التاسع عشر، قبل تجاوز هذا الخلط والفصل بين الكتابات التخييلية من جهة، والكتابات ذات المرجعيات الواقعية المباشرة، ومنها الصحافة، من جهة أخرى.مؤخراً، حدثت ضجّة في تونس مع إطلاق رواية بعنوان "ظل الحقيقة" للكاتبة التونسية بسمة الدجبي (منشورات دار البشير، القاهرة) بسبب إحالات على أماكن بعينها في تونس في سياق تناول قضية العنف المُسلط على القاصرات، ما أثار موجة من الانتقادات وصلت إلى مطالبة بعضهم وتدخّل وزارة الثقافة لسحب نسخ الرواية التي صدرت عن "دار البشير" في القاهرة، ووصلت إلى تونس بمناسبة معرض الكتاب المقام حالياً.
في حديث إلى "العربي الجديد"، تقول الكاتبة التونسية مفسّرة هذه "العدوانية" تجاه عملها الروائي: "من جهتي لم أتوقع أبدًا هذا الهجوم غير المُبرر بالمرة، على الأقل ليس بهذه الطريقة الفجة، فذكر اسم مكان أو بلدة أو منطقة تونسية حقيقية هو ليس سوى محاولة تشديد على واقعية الأحداث لا أكثر. فأن أكتب رواية بوليسية واقعية الطرح والموضوع يبدو أَنه يغضبُ بعض "الفئاتِ" بدعوى أَن الأَمرَ يمسُ جهتهم رغمَ أَنني أَتناولُ قضية إنسانيةً قدْ قُتلتْ بحثًا وهيَ مُبررة في سياقها الأَدبي والتاريخي".
تضيف: "في افتتاحيةِ روايتي شدّدتُ على "خياليةِ" الأحداثِ والشخصياتِ وما ذكرُ أَماكن حقيقية إِلا للضرورةِ الروائيةِ فقط وذلكَ من أَجلِ منعِ أَيِ سوء فهمٍ لكن يبدو أَن الضجةَ أُثيرتْ حتى قبلَ طرحِ كتابِي فعليًا في السوقِ التونسيةِ وهذا ما يؤكدُ الأَزمةَ التِي يعيشُها الكاتبُ فعلياً، وهنا أَقصدُ الكاتبُ الذي يُحاولُ أَن يُشرّحَ جسدَ مجتمعهِ ويبينَ مواطنَ الخللِ بهِ".
تحيلنا هذه الحادثة إلى الجنس الروائي الذي ينتمي إليه العمل، وهو الأدب البوليسي، والذي ترى الكاتبة التونسية بأنه "يُحتّمُ على الكاتب أَن يحملَ الواقع كما هو بشحمهِ ودمهِ وانحرافاتهِ ويترجمهُ في شكلِ حروفِ وصفحاتٍ". سألناها عن اختيار هذا الشكل الإبداعي، فقالت: "لم يكن أَدبُ الجريمةِ أوّل خياراتي أَبدًا.. سبقَ أَن نشرتُ روايةً أُولى في مصر منَ النوعِ الاجتماعي النفسي وإِن كانت الجريمةُ إحدى فروعها إِلا أَنها لم تكن أَساسها بعنوان "الرَاقدُونَ فوقَ التُراب".. لا أَذكرُ تلكَ اللحظةَ التِي قررتُ فيها كتابةَ الأَدبَ البُوليسِي لكنني وعيتُ أَنه "قالبٌ" مميزٌ يُمكنُ أَن أَعرضَ من خلالهِ قضايَا اجتماعيةِ تخصُنا كتونسيينَ أَو عرب بصفةٍ عامة بدُونِ أَن تكونَ الروايةُ أَدبية بالكاملِ".
ليس من العسير أن نلاحظ أن الأدب البوليسي قليل الحضور في ثقافتنا العربية. تفسّر دجبّي ذلك بالقول: "قلةُ حضور الكتابة البُوليسية في الوسط الأَدبي أَمرٌ ملموس وواضحٌ وربُما تكونُ المُشكلة أَعمق في تونس، بالنسبةِ لي كقارئة وككاتبة الأَسبابُ عديدة ومن الصعبِ حصرها. لكنها تتلخصُ في عدمِ وجود بنية أَساسية لثقافةِ أَدب الجريمةِ عندَ دور النشر والمُتلقي والكاتب وهم أَساس مجال الكتابةِ.. دورُ النشرٍ وحتى النخب المُثقفة تُقابل هذا النوع الأَدبي بنوعٍ من الاحتقارِ باعتباره أَدبًا من الدرجة الثالثة".
تتابع : "وبما أن الأَدبَ عمومًا وأَدبَ الجريمة هو مرآةٌ تعكسُ الواقعَ السياسي والاجتماعي والاقتصادي فمن الصعبِ أَن يتقبلَ الآخرُ إن كانَ من القراءِ أَو السلطةِ كلَ ما يكتبهُ المُختصُ بأَدبِ الجريمةِ من فسادٍ سياسي أَو مالي أَو انحرافات اجتماعيةٍ وهذا يُحيلنا إِلى سببٍ آخر هو أَن من يخوض قلمهُ في مجال الأَدب البوليسي يَكونُ في مواجهةٍ مُباشرة مع أَجهزةِ السلطةِ الأَمنيةِ العربية (وما أَدراكَ ما أَجهزةُ السلطةِ الأمنيةِ) التي تتميزُ في جانبٍ منها بالفسادِ واعتبارها عصا مُسلطة على رقابِ الشعبِ ورُبما الكاتبُ أَيضًا. أَعتقدُ أَن الحالَ قدْ تغيرَ قليلًا بعد الثورات العربية وأَن العلاقة يشوبها نوع من "المُصالحة" خاصةً مع التأكيدِ على حريةِ التعبيرٍ".
سألنا محدّثتنا إن كانت تعتقد، في ظل هذا الوضع، بوجود جمهور خاص بأدب الجريمة. تجيب: "طبعًا.. وإِلا لما وجدت الأَصنافُ الأَدبيةُ ومنها أَدبُ الجريمةِ، الأَمرُ مرتبطٌ باختلافِ الأَذواقِ فكما يكونُ للصنفِ الرومانسي رُوادهُ ولرواياتِ الرعبِ مُتابعوها فبالتأكيدِ هناكَ الكثيرُ من مُحبِي الأَدبِ البُوليسي العربِي والغربي.. أَعتقدُ أَنَ الأَمرُ بيدِ دور النشر العربية والتونسيةِ التِي أَرجو أَن تتجاوزَ نظراتِ الاحتقارِ التِي توجهها لهذا الصنفِ والذِي يُحققُ مبيعاتٍ خياليةٍ في الغرب ويحتفى بهِ في المحافلِ الأَدبية".
بالعودة إلى روايتها، تحدّثنا بسمة دجبّي عن تلقّي عملها بداية من ناشرهِ وصولًا إِلى القراء. تقول: "مع الانتهاءِ من كتابةِ "ظل الحقيقة" تبيّنتُ أَنني في طريقِ إنجاز مشروعٍ أَدبي بوليسي منطلقهُ هذهِ الروايةَ وأَساسهُ سلسلة بوليسية تونسية المنشئ والقضايَا.. تعززَ إدراكي للأَمرِ مع الردِ الإيجابِي الذي شهدتهُ من "دار البشير" التي أَثنت على النصِ الأَدبي على لسانِ مُديرها الأستاذ خالد حسان وقبلتْ نشره. ثم كانت الردودُ إيجابية وربما تكونُ حماسية من بعضِ القراءِ العربِ الذينَ اطلعوا على روايتِي وإِن كنتُ أَنتظرُ على أَحرِ من الجمرِ رأي القارئ التونسي".
انقر هنا لقراءة الخبر