القضية الفلسطينية قضية الوجدان العربي بالنسبة الى العالم العربي، وقضية وجود إنساني بالنسبة الى الفلسطينيين، ومحمود درويش الّذي ولد عام 1941 في بلدة البروة بجانب الجليل، وهو فلسطين الهوية والهوى، حمل شعلة تحرير فلسطين وجال بها العالم والكلمات ليعبر عن حق هذا الشعب في الحياة الّذي يوازي الحق في الحرّيّة.
نسج قصائده مع القضية والقضية تغلغلت في كلماته، وعند تتبع القارئ لنتاج محمود درويش سيلاحظ حضور فلسطين في كل قصائده ودواوينه من مرحلته الكتابية الأولى حتى ذروة تجذر هذه القضية في عمقه الانساني والوجودي. أما قصيدة "تنسى كأنك لم تكن" من ديوان "لا تعتذر عما فعلت"، نجد أن القراء الّذين قاموا بتحليل هذه القصيدة، أتت نتائجهم على أنها قصيدة تطرح اشكالية القصيدة الحرّة والابداع لدى الجيل اللاحق، ولكن القصيدة أوسع من هذه القراءة أو غيرها، إذ انها تحقق ثلاث مستويات من التحرّر والحرّيّة وهي: حرّيّة فلسطين الأرض والشعب/ حرّيّة القصيدة من القافية والشكل العمودي/ حرّيّة تعبيره واختياراته، برزت هذه المستويات بالتزامن مع تكثيف الرموز الّتي تحيلنا إلى قصة حياة النبي موسى ومسيرته لايصال شعبه الى الحرّيّة، وتحريره من العبودية باعتبارها مهمة النبي/ المخلص، وكذلك الشاعر يستوي مع النبي في تحرير القصيدة من قالب الى آخر أو من شكل إلى شكل ليشرق على المعاني فجرًا جديدًا، اضف الى ذلك، ارتباط رمزية الوصايا العشر على الالتزام بالقوانيين الّتي تنظم الحياة البشرية وحياة القصيدة. لنجد أن هذا الارتباط العميق بين حياة النبي موسى والأثر الّذي تركه وهو الوصايا العشر وحياة محمود درويش وقصيدة "تنسى كأنك لم تكن" رغم التباعد الزمكاني، انما يلتقيان في الخلود والتخليد. تفتح عودة درويش الى حقبة النبي موسى أفق المعاني والتأويل على الوجود الانساني الأشمل فالوصايا (باعتبارها كلام الله) تطبق على البشر في كل مكان وزمان، وامتداد القصة والوصايا في القصيدة انما هي انعكاس لما يرغب به درويش وهو التحرّر والتحرير والحرّيّة، ولكن بقوانين محددة حتى لا تتحول هذه الحرّيّة الى فوضى.
سأدرس في هذه القصيدة الرموز الّتي تحيلنا دلالاتها الى ارتباط القصيدة
بقصة النبي موسى، لابراز النقاط الّتي شبك فيها درويش قصته وحياته مع قصة وحياة
النبي، والتحول الّذي طرأ على بعض دلالات تلك الرموز.
أدى التكرار دورًا بارزًا في هذه القصيدة، ووظيفة التكرار في اللّغة هو
التأكيد، والكلمة المكررة في القصيدة هي "تنسى" وأتت بصيغة الماضي
"نسي" والمضارع "أنسى"، وتكررت الكلمة عشر مرات تطابق في ذلك
الوصايا العشر الّتي تعتبر كلام الله آن ذاك، وهذه الوصايا بمثابة قوانين لصون
الحياة وصقل الحرّيّة، بعد نيل قوم اسرائيل حرّيتهم، يجعل هذا التطابق من شخصية
درويش نبيًا يسعى الى تحرير قومه أي الشعب الفلسطيني من العبودية والاحتلال، وتكرار
كلمة تنسى وتطابق عددها مع الوصايا العشر هذا يحيلنا الى ضرورة التذكر لا النسيان،
وفي هذا السياق يكون درويش قد قصد ضد كلمة النسيان أي التذكر. اضف الى ذلك، فالوصايا العشر قوانين تنطبق على
كل فرد وعمل وسلوك لذا استخدمها درويش في عدة مواضع في القصيدة ستتكشف لاحقًا.
برز النفي(لم/لا) والنهي(لا) بشكل مكثف في كل القصيدة، فلم هي أداة نفي
وجزم وقلب لأنها تقلب معنى الفعل المضارع الدال على المستقبل الى الماضي، واستخدم
درويش النفي ب لم حين قال: "تنسى كأنك لم تكن"، وهذا النفي الّذي يعيدنا
الى الماضي أي كنت، فالوجود على عدة مستويات مستوى فلسطين الأرض والشعب ومستوى
القصيدة الحرّة، وهو شخصيًا كشاعر فلسطيني، كل المستويات لها جذور في الماضي، وهذا
التعدد في المستويات لا ينفي أو يتعارض مع فكرة الاله الواحد، لان النفي في عبارة
"تنسى كأنك لم تكن" والتي وردت ثلاث مرات، وبالمقارنة مع الوصايا العشر
بحسب الترتيب العددي، فهي تبرز ثلاث وصايا وهي: 1- أنا الرب إلهك لا يكن لك اله
غيري/ 5- لا تقتل/ 8- لا تشهد بالزور (ملاحظة: قمت بترقيم كلمة تنسى بحسب تسلسلها
في القصيدة وقارنت أرقامها مع تسلسل أرقام الوصايا العشر)، هذا الوصايا الثلاث
تنهي لذا استخدم الشاعر النفي ب لم لكي يوصلنا الى النهي ب لا (لا الناهية
الجازمة) من خلال كلام الله، ففي هذه الحركة أدى دور النبي والمعلم والمرشد. أما لا
النافية الّتي وردت في القصيدة: "تنسى كأنّك لم تكن شخصًا ولا نصًا وتنسى /
تنسى كأنّك لم تكن خبرًا ولا أثرًا وتنسى"، هنا يستخدم النفي عن النسيان
فتصبح تذكر، ويحلنا الى دلالة النهي الذي استمدها من الوصايا، أما حين قال: "أنا
ملك الصدى، لا عرش لي إلاّ الهوامش" ف لا هنا هي لا النفي تنفي امتلاكه العرش
كنبي ولكن ضمنًا هو ملك الصدى و في قصة النبي موسى الّذي كان ينطق بكلام الله كان
يسمع صوت الله بداخله، وهو ملك الصدى أي انه امتدادًا لصوت الله، والاستثناء هنا
بقوله "الهوامش" إنما هي تحيلنا الى صفة الأنبياء وهي التواضع.
برز أيضا الاستئناف في عدة مواضع في القصيدة وكان له وقعًا مهمًا في السياق
والدلالة، حين قال"فالمفردات تقودني وأقودها، أنا شكلها وهي التجلي الحرّ/
فالطريق هو الطريقة/ فأشهد أنني حرّ وحي حين أنسى"، يحيلنا الاستئناف الاول
الى اعتراف درويش بأن علاقته مع المفردات عميقة فهو شكلها أي القالب الّذي يؤطر
القصيدة وأيضا هو يلتزم بالحرّيّة المسؤولة أي تحت لواء القوانين المحددة(اشارة
منه الى القصيدة الحرّة)، وهي أي المفردات التجلي الحرّ في التأويل، وبالعودة الى
الوصايا كان النبي مهمته ايصال كلام الله الى شعبه والسعي الى العمل به وتطبيقه،
أما قصيدة درويش ضمنا يريد القدسية من النّصّ
الديني أي الوصايا، والتأويل المتعدد في قصيدته، ويحيلنا الاستئناف الثاني
الى أن الطريق أي الحياة الّتي وهب نفسه لأجلها، هي الطريقة أي أن طريقة التعبير
والتجلي، فبالنسبة اليه مثلا يعبر عن القضية الفلسطينية بقلمه وقصائده، ويعبر عن
حرّيّة آرائه بالتمرد على شكل القصيدة العمودية والقافية الموحدة من خلال اختيار
القصيدة الحرّة، ويعبر أيضا عن حرّيّة استخدام أي مفردة أو تعبير استخدم في الماضي
وهذا لا يقتل الابداع انما يجدد في طريقة استخدام المفردة داخل السياق، وفي
الاستئناف الثالث حيث يحيلنا الى الديانة الاسلامية حيث تعتبر الشهادتان أساسيتان
في دخول الاسلام، وهنا الشهادة كانت بنطق أنه حر وحي وهذا ما شدد عليه في كل القصيدة، يريد أن يكون
حرًا ليشعر أنه على قيد الحياة، فالعبودية على المستويات كافة هي شكل من أشكال
الموت، وهذا المشهد الأخير الجامع بين الديانة المسيحية والاسلامية، ليخرج بموقف انساني
اشمل، وهذا ليس بعيدًا عن درويش الّذي ولد في فلسطين وفيها كنيسة المهد والمسجد
الأقصى، هذه الحرّيّة وهذا الانفتاح نحو الانسانية، يؤكدان سعيه الى تحرير فلسطين
الأرض والشعب، والقصيدة الشكل والمعنى.
خلاصة القول، عبّرت هذه القصيدة عن موقف درويش من الحرّيّة الّتي ترافقها
المسؤولية، والاّ تحولت الى فوضى، سواءً كانت حرية أرض أو شعب أو قصيدة أو فرد.
