-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

أمي عائشة ... وورقة من الأرياف : ذ. رشيد سكري

 


من وراء الأحجار الطينية الملساء ، كانت عائشة تنظر إلى الساقية تسيل ماءا زلالا ... اقتربت من مجراها ... فأخذت تعبث بعصا ، ترسم دوائر تضيق على الطين المبلل.

 ينعش خرير ماء عين " بوتلمسيردين " نفسها المتضايق ... دلفت بحذر شديد ، تحت أشجار الدفلى المتشابكة الأغصان والأوراق تجر رجلها المعقوفة إلى الوراء ... وأخذت مكانها بالقرب من مجرى المياه ... رشفت منها رشفة عميقة ... استلذت برودة المكان ، وروائح التربة المبللة .  ذبال متساقط من أشجار الكلبتوس ، زاد من عطونتها ... مدت رجلها اليسرى كابسة على ركبتها لتطرد منها الإعياء .

اقتحمها صوت ، تعرف رنين أوتاره...

ـ إلى أين أنت ذاهبة ، أمي عائشة؟

ودون أن ترفع بصرها  ، أجابت إلى المقبرة ...

ـ ذلك سيتطلب منك ...جهدا جهيدا، وأنت مهيضة. 

فأجابته ، وهي تشد على رأسها المشتعل شيبا بحزام من الصوف المفتول.

ـ بقيت وحيدة كما ولدت أول مرة ... زيارتي للمقبرة تذكرني بالفتوة المتوارية مع السنون.

مدت يدها اليسرى؛ ليستقيم عودها في الوقوف ... لكن احدوداب الظهر منعها من ذلك .

 

  بعض الفتيان يحملون القنينات الفارغة على ظهور الدواب ، يملؤنها ماءا ذهابا وجيئة، ويتركون وراءهم لغطا و غبارا يتطاير نقعه ... تتبعهم أمي عائشة بالصياح ؛ لأن أهل المكان يتضايقون من شدة وقع الحوافر على الأديم . قطعت الممر الضيق وسط أشواك الصبار صاعدة إلى  الربوة المترامية ، تنتهي بشريط أشجار الزيتون الأخضر ، فبدت المقبرة خلفها تبتلع مصائر العباد . كومة من التراب الأبيض ، المبلل بماء " بوتلمسيردين " ، تكفي لأتربة جثمان جديد ... جاهدت أمي عائشة الإعياء الذي شلها و كلها ؛ لتحضر مراسيم الدفن الجديدة ...

اقتربت ...

اقتربت ...

و غبش يعلو الرموش ... دامعة كما كانت ، هي العيون ، حتى احمرت الجفون . بفم أدرد مشقوق ، رفع الفقيه حميدان عقيرته بسورة الزلزلة ؛ فاقشعرت الأبدان... " إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها ..."  وصوته تحس به يشق عنان الربوة .  

 آه! آه!  تلك أيام خوال !

عندما حفرت أمي عائشة نصف الربوة لأناس عبروا من هذا المكان ... تحمل الأحجار الطينية على الأتان الشهباء ... وتسافر بها من أجل أن يحلو المقام الجديد ... تفرغ ماء عين بوتلمسيردين فتمزجه بالطين الأحمر والتبن المهشم الأصفر ؛ لتغلف به وحشية البيت القشيب .

دنت من الحشد لتقف على جلية الخبر، وصوت الفقيه يأتيها ، الآن ، صافيا ... وعذبا ...

سألت خيالا و ظلا يحجب عنها أشعة الشمس الصاهدة .

ـ من يكون الوافد الجديد؟

فأجابها :

ـ غريب الدوار ...

ـ سلام ، إذن ...

هل حلت كنزة من بلاد برا ؟

ـ لا أعرفها أمي عائشة ؟ فأسلمت لرياح شرقية مالحة ، سكنت خياشيمها.

 

  

 المقبرة بناء من أحجار امتزجت فيها اتربة بيضاء بأتربة حمراء أرجوانية، مشكلة لوحة زيتية . في وسطها شجرة كليبتوس فارعة ، تمنح الظل و الفيء للعابرين والراقدين على السواء. على مسافة معشوشبة بمختلف الأزهار ، التي اختلطت ألوانها ، وقفت أمي عائشة على حافة الغبش الذي يلف عيونها ، تنظر إلى القبور ، وقد تهشمت حوافيها ، تتلمس سمتا إلى شواهد قبور محفورة على الأحجار الكلسية... علها تعثر على بقايا قبر حدوم.

 

حدوم المرأة التي أسطرت الوجود النسائي بالقرية... عندما وقفت في وجه القائد بوخنزيرة الغاصب رافضة أن تمنحه قوتا ، تعبت من أجله أياما و ليال...

صفعة واحدة على خدها الأيسر ، كانت كافية أن تشعل فتيل نار لم يهدأ أوارها ، فانتفضت القرية على صفيح ساخن  ، ضد هذا الاستغلال... و الحيف...

في المساء ، لفظت القرية من وجعها تجمعا غفيرا عند الحجرة الملساء ؛ مجلس ينشط كلما ضاقت القرية ضائقة.  ومن كل حدب و صوب... نساء  ورجال وشيوخ وأطفال تركوا المسيد ، و هم يحملون ألواحهم المصموغة بالكلام الرباني ... رافعين بأوداجهم الصغيرة،

اللطيف...

اللطيف...

كانت أمي عائشة تتذكر ذلك ، كأنه حدث بالأمس. وسط الحشد تمرغت حدوم معفرة وجهها بروث البهائم و بقايا حليب شاة وحيدة القرن ... انتفضت كدجاجة مذبوحة... فتسارعت النساء لإيقاف نزيف هذا المشهد الدرامي الكئيب ... بللوها بالماء ... فتخشبت وتصلبت أطرافها ؛ فكانت شهيدة الحجرة الملساء.

 تتذكر أمي عائشة ، وقد استطابت الريح الشرقية المالحة في مناخيرها ، مبللة بها ريقها المتيبس، وهي تنظر إلى الحشد يذوب فرادى وزرافات بين الشعاب والممرات الضيقة.

 

         في المساء ، عادت أمي عائشة أدراجها ، ورجلها المعقوفة إلى الوراء تلامس وجع تراب مسحوق ، وقد وجدت الديكة الملونة الريش ملأت صحن الدار ، كما تملأ عليها حياتها الرتيبة .  

عن الكاتب

ABDOUHAKKI
  1. أمي عائشة، قصة قصيرة، بلغة راقية ،وأنيقة، و فصيحة، تذوب معها في كأس الحياة البدوية بطباع أهلها، حيث السجايا لا تعكر صفاء المكان، و انسياب الزمان الهادئ المتراخي، الذي يقف حينا، و ينهمر حينا آخر، على جنبات عالم فريد من نوعه، عبر شخصياته بلغة صاحبها الواصفة ليخيل اليك انك معها، لتتراقص مخيلتك دون أن تشعر بقلم الكاتب المميز رشيد سكري

    ردحذف




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا