-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

جرح في عضو رجل والتناص التخييلي مع النص البيكيتي بقلم كريم الفحل الشرقاوي

 


إن النص كمنتوج ابداعي ليس ماهية أو أصل او نسق متفرد وإنما هو "ما سلف" بتعبير رولان بارت . إنه تمازج لفسيفساء من النصوص والشذرات والمفردات السالفة . إن التناص هو صيرورة النص الذي يحتفل بالتكرار والاختلاف بما يتقاطع مع مفهوم العود الأبدي النتشوي الذي يشير الى كون المعنى يعود كاختلاف وليس كتطابق وهوية . "فلا يوجد نص أصلي . انما النص هو تلاق بين نصوص . وكل نص هو امتصاص لنص آخر . وإحالة نص على نص . وبناء نص من نص آخر"(1).

المتن التخييلي المضاد
إن النص السردي "جرح في عضو رجل" لأحمد أمل كتناص تفاعلي مع نص "في انتظار غودو" لصمويل بيكيت . لا يستكين لآليات التناص l’intertextualité فقط وإنما
أيضا لدينامية الحوارية dialogisme . كما ينهل من مفهوم النص المتفرع hypertextualité ويغترف من مفهوم إعادة الكتابة réécriture . وهي مفاهيم تتقاطع فيما بينها و تتوالج وتتشابك وتتصادم لتصل الى مفهوم التعالق النصي الذي يستدعي من خلاله النص اللاحق النص السابق لينتهكه ويفجره و يفككه ويعيد كتابته بمنظور التخييل الذاتي حيث يقحم الكاتب شخصيته ضمن أحداث النص .
إن الكاتب لا يلعب دور السارد الغائب المتواري أو السارد المتعدد وإنما دور السارد المشارك الذي تحضر شخصيته بالفعل وبالقوة داخل النص المسرود بحيث يعمل على حياكة خيوط السرد في احتكاكه بالشخصيات والأحداث مع التحكم الواضح في المتخيل السردي . لكن الملاحظ هو أن الكاتب لا يطمئن لتجنيس محدد لنصه لذلك سيلقي به في معمعان "التخييل" كما هو مؤشر عليه في غلاف الكتاب . والتخييل حسب "فولفغانغ إيزر" يتجاوز المفهوم الشائع الذي يضع التخييلي مقابل الواقعي وذلك بالإستعاضة عن هذه الثنائية التقليدية بثلاثية التخييلي والواقعي والخيالي التي تشكل مضغة النص وخلطته السرية ومعادلته الصميمية . فعملية التخييل تمتص الواقعي لتحوله إلى علامات تحيل إلى دلالات متغايرة عن منبتها الأصلي باعتبار "الفعل التخييلي هو تجاوز للحدود . وهو أيضا فعل انتهاكي . وهذه الوظيفة الانتهاكية للفعل التخييلي هي ما تربط هذا الأخير بالخيالي"(2) . إلا أن أوجه الاختلاف بين التخييلي والخيالي هو أن هذا الأخير يبدو مشتتا ومتشظيا لهذا تصبح مهمة التخييلي هو لملمة شتاته ليصبح فعلا منظما وموجها نحو الواقعي . إذن فعملية التخييل تقوم بدورين مختلفين أولا : إعادة إنتاج الواقعي وتحويله إلى "واقع يتجاوز ذاته . بينما يحفز الخيالي لاتخاذ شكل من الأشكال . وفي كلتا الحالتين يكون هناك تجاوز للحدود . أي أن تحديد الواقع يتم تجاوزه وفي نفس الوقت ينظم شتات الخيالي . فيصاغ في شكل ما . وبالتالي يندمج الواقع الخارج نصي داخل الخيالي ويندمج الخيالي في الواقع"(3).
لكن ما يجب التنصيص عليه هنا هو أن أحمد أمل سيتوسل بتناص تخييلي يشتبك ويتداخل ويتعارض مع نص "في انتظار غودو" أي أنه ينتج نصا تخييليا يحاور نصا تخييليا آخر . وهو ما يطلق عليه جيرار جنيت GERARD GENETTE بالتعالق النصي hypertextualité و "يعرف هذا النوع عند النقاد والباحثين العرب بعدة تسميات منها، النص اللاحق والملابسة النصية والتعلق النصي . وهو يدل على علاقة نص لاحق Hypertexte بنص سابق Hypotexte، وتقوم هذه العلاقة على إعادة إنتاج الثاني للأول بطريقة جديدة . ويرى جينيت أن التعالق النصي له ثلاثة أشكال هي: التحويل، والمحاكاة، والمعارضة الساخرة"(4) . كما يعتبر الدكتور حميد الحمداني بأن المتعاليات النصية التي نحتها جرار جنيت "تشير بالفعل إلى نوع من التماهي الحاصل بين نصين، إما بواسطة تحويل وتغيير نص سابق عبر نص بديل أو الاكتفاء بتقليد نص لنص سابق . وتنتمي لهذا الصنف كل أنواع المعارضات والمحاكاة الساخرة(5). وكل قارئ لنص "جرح في عضو رجل" سيلمس بجلاء هذا التعالق النصي مع التخييل البيكيتي من خلال سرد لا يتوسل بالاستعارات البلاغية لشعرية اللغة السردية بقدر ما يركن للغة مبتسرة ومقتضبة أشبه بثرثرة صاخبة رعناء تضج بالمعارضات المتخيلة والمحاكاة الساخرة لنص "في انتظار غودو". هذا النص الشهير الذي يرصد - كما هو معلوم - شخصين "متسكعين هما فلاديمير واستراغون . ينتظران بجوار شجرة جرداء شخصا يدعى "غودو" . لكن غودو لا يأتي .. ولا هما يبارحان مكانهما . هذا الوضع العبثي هو ما يعبر عنه استراغون بقوله : لا شيء يحدث لا أحد يأتي لا أحد يذهب هذا فظيع"(6) .
إن مسرح العبث الذي يعتبر صمويل بيكيت أحد رواده الكبار سيرصد تمزق الإنسان المعاصر وغربته واغترابه و تصدعه وعزلته في ظل "إفلاس جميع نظم الفكر المغلقة وما تزعمه من تقديم تفسير كلي للواقع . وهو ما يرتبط صميميا بتأملات كامي وسارتر وبالفلاسفة الوجوديين عامة : كيركجارد وهوسرل وهيدغر الذين اشتغلوا على مفاهيم العزلة والقلق والاستلاب والعدم والفشل والغثيان"(7) كرد فعل على إخفاقات الحداثة الغربية التي أنتجت حربين عالميتين مدمرتين .. وإفلاس كل الإيديولوجيات والعقائد الشمولية التي أنتجت منظومات حداثية متوحشة كالليبرالية الإمبريالية والاشتراكية الستالينية .
"غودو" من عبث الانتظار إلى لاوعي الخطيئة
سيقوم "فلاديمير" و"استراغون" الشخصيتان المركزيتان في مسرحية بيكيت (في انتظار غودو) بزيارة ليلية مفاجأة لبيت الكاتب (أحمد أمل) ليخبرانه بأن السيد بكيت يحتضر ويرغب في مقابلته على عجل . لكن المثير في الأمر هو أن السيد بكيت العابث بأقدار شخوصه يريد التشطيب على كل ما كتبه بما في ذلك شخصيته اللغز "غودو" . وهو الأمر الذي أثار حفيظة وقلق فلاديمير واستراغون ودفعهما للإستنجاد بالكاتب لمساعدتهما على إقناع السيد بكيت بالتراجع عن تغيير خط الفعل الدرامي لنص "في انتظار غودو" لكونهما يصران إصرارا عاتيا على ممارسة فعل الانتظار الذي يشكل هويتهما الوجودية .
" فلاديمير : بيكيت وصل به الخرف إلى حالة مقلقة . يريد التراجع عن كل ما كتبه . ويريد أن يثبت بعد كل هذا العمر الطويل بأننا كنا ننتظروهما ولا وجود لغودو .
علقت كأني أستوعب المعنى . ربما يريد فك أسركما ؟
نط استراغون من مكانه بشكل هستيري :
نرفض تدخله فينا . لسنا خرافا حتى يفك أسرنا . كنا ننتظر . وسنظل ننتظر . وسنبقى ننتظر"(😎.
هكذا يتداخل النفس السردي مع النفس الحواري منتحلا تناصا اشتباكيا ترتحل فيه الشخوص البيكيتية من فضائها العبثي المجفف والمتيبس إلى واقعية فضاء صالون الكاتب .. ومن عوالم بيكيت حيث الحدث يستمد مادته من اللاحدث .. إلى عوالم أحمد أمل وتمفصلاته التخييلية التي ترنو لإعادة تفكيك النص البيكيتي وإعادة كتابته من داخل بنيته الصلبة وهو ما يعتبره جرار جنيت استقطابا ماكرا للسرديات التي يختزنها النص السابق حيث يمعن النص اللاحق في تمويهها وتفتيتها وإعادة تركيبها داخل سياقات متغايرة وأسئلة متجددة .
" - أخبراني هل انتما أحرار ؟
أخذ فلاديمير يحرك رأسه ذات اليمين وذات الشمال معبرا بهذه الحركة بكلمة لا .
استغربت . واقتربت من فلاديمير وفقلت له :
- أنت الآن لست حرا ؟
- أنت تتوهم يا أحمد . نحن لسنا أحرارا . مقيدان في انتظار غودو . إن غودو يسكننا أينما حللنا وارتحلنا . كما تسكنكم أنتم عقائد لا تنفصل عنكم .
- ما تعرفه عنا قليل . يظهرون إيمانهم ويخفون الكفر .
- يا أحمد . مهما حاولت أن تبرر تحرركم من العقائد فأنت مخطىء .. أنتم مقيدون بالكتب المقدسة . وبما جاء فيها . تحفظونها عن ظهر قلب .
- فكرت فيما قاله . ووجدت أنه بلا شك على صواب . الإنسان مقيد بالتعاليم المقدسة . مهما كفر الإنسان بهذه القيم"(9).
إن مفهوم الحرية في مسرح بيكيت يتقاطع مع العديد من الفلسفات الوجودية التي تناولت مفهوم التمزق الوجودي واغتراب الإنسان المعاصر إلا أن "ما يميز مسرح العبث في علاقته (مثلا) مع وجودية سارتر وعبث كامي هو أنه في تقاطعه معهما يقصي المنافذ الإيجابية في فلسفتهما . نعني بذلك الحرية والالتزام السياسي عند سارتر . والتمرد العبثي عند كامي ونزعته الانسانية "(10). فمسرح العبث لا يؤمن بالحرية والإرادة والتمرد والإتزام العقائدي أوالسياسي . كما يعتبر أن الأديان و المعتقدات تصادر حرية الإنسان وترهن كينونته .. وهذا ما حاول فلاديمير تمريره للكاتب (أحمد أمل) الذي سيمعن من خلال سجالانه الحوارية مع شخوص بكيت في استقراء واستبطان الخلفيات المتافيزيقية للنص البيكيتي مستحضرا تلك الأسئلة القديمة التي ما تزال ترفرف فوق الرؤوس . من هو غودو؟ هل هو إشارة مبطنة إلى الإله ؟ هل هو ترميز للمخلص / المسيح المنتظر وعودته المبشر بها في آخر الزمان لينشر العدل والوئام ويبسط السلم والسلام ؟ هل الشجرة الجرداء التي تؤثت الفضاء القاحل للنص البكيتي ترمز لشجرة المعرفة أو لشجرة الحياة التي أثمرت الخطيئة الأولى كما هو مذكور في الكتاب المقدس؟
إن قراءة أحمد أمل الإبداعية ستؤشر على أن نص "في انتظار غودو" كتب انطلاقا من مكبوت ديني مسيحي كامن في لاشعور صمويل بيكيت الذي ينتمي لأسرة إرلندية بروتستانتية محافظة حيث عانى في طفولته من التربية الدينية المتزمتة لوالدته التي كانت تحبه حبا متوحشا حسب تعبيره . وهذا يذكرنا بقراءة سيغموند فرويد التحليلنفسية لشخصية ليوناردو دافينشي وارتباطه الشديد في طفولته بوالدته المحافظة . الأمر الذي ولد لديه كبتا جنسيا مثليا لم يستطع بفعل الحاجز الديني المسيحي تصريفه وتفريغه سوى في بعض لوحاته التي مزج فيها بين الملامح الذكورية والأنثوية . بل إن الكاتب سيذهب أكثر من ذلك عندما سيؤكد في ص 67 بأن " جميع الابداع الغربي كتب ضدا عن الدين أو ردا على الكتاب المقدس"(11). وهو ما سيتبدى أيضا في سجالاته مع تيريزياس العراف حول شطط الآلهة الإغريقية وتدخلها السافر في أقدار البشر .
ولتأكيد الخلفية الماورائية للنص البيكيتي سيؤشر الكاتب بشكل واضح وصريح في ص 44 بكون صمويل بيكيت " تربى في عائلة مسيحية متزمتة . وتشبع بدينها في صباه . الى الحد الذي انقلب كارها له في كبره . وبقي يصارع الى أن انسلخ عنه فما استطاع فسجله في رواية ممسرحة . أعاد ما في الكتاب المقدس. شجرة ممنوعة من الأكل منها. اتنان بلا عمل ينتظران . الذي لايأتي . ألم تنتبها للخديعة . ونسي أن يجعل منكما جنسين مختلفين ذكر وأنثى"(12) في إشارة واضحة لقصة آدم وحواء .
في الأنفاس الاخيرة من هذا التخييل الغروتسكي ستقتحم بيت الكاتب امرأة فاتنة لتمارس غوايتها الإبليسية على الحاضرين . إنها المرأة / الحية التي تحمل معها ثمار شجرة الحياة التي بسببها تم جرح كل رجل في عضوه عقابا له على أكلها .
"تيرزياس مخاطبا فلاديمير واستراغون :
- إنها الحية التي أغرت الرجل بأكل الثمرة .
- فلاديمير قفز من مكانه قائلا :
لقد سمعت عنها من رهبان الكنيسة إنها من أغوت الرجل الأول وأخرجته من فردوسه"(13) .
هكذا سيأكل الجميع من ثمار شجرة الحياة التي حرم غودو على شخوصه الأكل من ثمارها . ليتحرروا بالخطيئة من اللاذات واللاجدوى وعبث انتظار الذي لا يأتي .. هكذا ستصبح الخطيئة عنوان الحرية والإرادة والتمرد ... فلا يمكن القطف من شجرة الحياة بدون اقتراف زلات وسقطات الخطيئة .. إنها صيرورة الوجود الانساني .
هامش :
1 - بدر الدين مصطفى - دروب ما بعد الحداثة - ص 106
2 - فولفغانغ إيزر - التخييلي والخيالي من منظور الأنطروبولوجية الأدبية – ص 9
3 - نفس المرجع - ص 9
4 - بوطاهر بوسدر -مقالة "المتعاليات النصية" - موقع الألوكة الأدبية واللغوية
5 - نفس المرجع
6 - كمال فهمي - الفلسفة والمسرح - ص 141
7 - نفس المرجع - ص 138
8 - أحمد أمل - جرح في عضو رجل - ص – 18
9 - أحمد أمل - جرح في عضو رجل - ص – 21
10 - كمال فهمي - الفلسفة والمسرح - ص 139
11 - أحمد أمل - جرح في عضو رجل - ص 67
12 - أحمد أمل - جرح في عضو رجل - ص 44
13 - أحمد أمل - جرح في عضو رجل - ص 66

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا