قبل بضعة شهور من موته، كتب فرانز كافكا واحدةً من أجمل حكاياته وأكثرها حزنًا. في قصة "الجُحْر"، يكرّس مخلوقٌ منعزل شبيه بالخلد حياتَه لبناء منزل مُجهزٍ بعناية تحت الأرض من أجل أن يحمي نفسه من الدخلاء. "لقد أتممتُ بناء جُحري ويبدو الأمر ناجحًا"، يقول بطل القصة في بدايتها. غير أن ثقة ذلك الكائن سرعان ما تبدأ بالتلاشي: كيف يعرف إن كانت دفاعاته تعمل؟ كيف يكون متيقنًا؟
لا يرضى بطل قصة كافكا بأقلَّ من الأمان الكامل، بحيث لا يبقى شيء خارج حساباته. ففي العالم الصغير لجُحره، كل تفصيل يغدو هامًا؛ "دلالةً" محتملة على اعتداء يلوح في الأفق. ثم، مع الوقت، يبدأ الكائن بسماع ضجة يعتقد أنها صادرة عن معتدٍ. وتكون الضجة عالية على حد سواء كلما صادف أن يكون واقفًا. لكن، سيظهر، لاحقًا، أن الضجة تنشأ داخل جسد الكائن: الصوت، ربما، هو صوت دقات قلبه، صوت تنفسه الهائج؛ تجري الحياة وتتلاشى، بينما الكائن قلق إزاء شيء آخر تمامًا.
يبدو إذًا أن "الجُحْر" هي بمثابة تعليق استرجاعيّ على حياة كافكا ذاته. ففي الوقت الذي شُخِّص فيه بالسل في عمر الرابعة والثلاثين، كان كافكا أساسًا قد أمضى عقدين قلقًا في شأن المرض. فقد قضى عطله في منتجعات للنقاهة، ولم تزد رسائله للأصدقاء والأحبة عن كونها قوائم بالأعراض المرضية. وعزا كافكا كلّ هذا إلى ما دعاه مرارًا "وسواسه"، وهي حالةٌ أدت، حسب رأيه، إلى إيداعه في الحياة الرهبانية للكتّاب.
ورث كافكا الفكرة الرائجة منذ العصر الرومانسي، والقائلة بأن سقمًا معينًا يلائم شخصية الكاتب. وهي فكرة ترجع أصولها إلى روبرت بيرتون، الذي شرح في كتابه الموجز (وغير المكتمل قط) "تشريح الكآبة" (1621) أن "الكآبة العنيفة الوسواسية" كانت مرض الطلاب والباحثين. "أنا صموتٌ، انطوائي، متجهم، أناني، موسوَس، وفي حالة صحية سيئة بالفعل"، كتب كافكا عام 1913 إلى كارل باور، والد خطيبته، فيليسه. والأكثر من ذلك، أضاف كافكا، "أنا لا أستهجن أيًّا من هذا".