ثورة كبيرة أحدثتها الإنترنت بتنا نلمسها في المستويات المتعددة، تخترق حياة الفرد اليومية عبر التطبيقات والأنظمة المستحدثة والتدوينات الصوتية والمرئية وعلى مواقع التواصل مثل يوتيوب وفيسبوك وتويتر وغوغل وغيرها. فقد غزت هذه التطبيقات والمواقع كل تفاصيل حياتنا اليومية، وصرنا غير قادرين على الابتعاد عنها، بل إننا نبدأ يومنا وننهيه فيها، مشكّلة بذلك تفكيرنا وطرق عيشنا.
ويقول الباحث ريمي ريفيل في كتابه الشهير “الثورة الرقمية.. ثورة ثقافية؟” (2018) عن هذه التطبيقات “بدأت بالفعل تغيّر مثلا عادة تسوّقنا (البيع عن بعد وتبادل الممتلكات) وعلاقاتنا بالإعلام (المواقع الإخبارية الإلكترونية)، وتؤثر في معرفتنا (الموسوعات والقواميس والمقالات لتوعية الآخرين، والتي يمكن الاطلاع عليها بشكل مباشر) وفي الصحة (الاطلاع على المواقع المتخصصة). كما أنها تغير حياتنا المهنية (التنظيم الجديد للعمل وغيره) وطرق الترفيه (تحميل الموسيقى والأفلام والفيديوهات، وتتبع البث المباشر…)”.
لقد غزت إذن هذه الثورة عالمنا، بل باتت هي عالمنا، لهذا ليس من الصدفة أن تغزو عالم الأدب وتغير طرق تفكيرنا داخله وفيه. فقد خلخل الرقمي طرق الكتابة والقراءة والأشكال الإبداعية، ما يستدعي إعادة النظر في معارفنا ومفاهيمنا الثقافية والأدبية والفنية وحتى تفكيرنا.
الأدب الرقمي أو ما يسمى أيضا بالأدب الإلكتروني أو الأدب المعلوماتي يتمثل في أشكال أدبية معاصرة مرتبطة بالتكنولوجيا والثقافة الرقميتين. إنه الأدب الذي يتم إنتاجه عبر الكمبيوتر وعلى المستوى المعلوماتي، وأيضا هو أدبٌ يتم إنتاجه على صفحات الويب، ما يجعلنا نصطلح عليه بالأدب السيبرنطيقي، وأيضا يتم إنتاجه ونشره على صفحات التطبيقات الرقمية المحمّلة على الهواتف والألواح الذكية، وبالتالي فهو الأدب الذي يتم تداوله عبر مختلف أشكال الوسائل الرقمية.
ويحدث كل هذا التغيير بالتوازي مع الثورة الرقمية بشكل واسع، إذ ما أن ولج العالم إلى العصر الرقمي حتى غيّرت جلّ الأساليب والأدوات التواصلية جلدها وأشكالها لتتماشى مع متطلبات العصر الجديد. إلا أن هذه الثورة الأدبية الرقمية لا تتعلق فقط بالكتب والنصوص التي تم إنتاجها رقميا، بل إن الكتب الورقية يتم إدراجها ضِمْن هذا الأدب عبر رقمنتها أو تصويرها ضوئيا، ما يجعل العالم الرقمي عالما يستوعب كل الأشكال الأدبية باختلافها.
اليوم لا يمكننا أن نستثني الأدب الرقمي من مجال العلوم الإنسانية والأبحاث الأكاديمية، فهذا الأدب هو ثمرة كل التغيرات التي أحدثتها الثقافة الرقمية على الأدب؛ حيث إنها جعلت عالم الأدب أكثر تشعّبا وأكثر تداخلا، وصارت الوصول إلى النصوص أسرع وأكثر سهولة، بل إن النصوص لا تفتأ تفتح نوافذ على نصوص أخرى متعلقة بها في تَشَعُّبٍ لانهائي، ومعه أصبح المجال الأدبي أكثر انفتاحا على مختلف الأجناس، ما جعل الحدود تختفي وتنهار كل الأسوار التي تحدها.
وقد أتاح هذا الأدب الهجين والجديد إنتاج أعمال تختلط فيها الموسيقى بالكتابة وبالفيديو وبالفن البصري. وهذا ما لم يكن ممكنا تخيله قبل عقود قليلة. كما جعل الأدب الإلكتروني الأدباء والقراء يغيرون نظرتهم إلى مفهوم النص الذي لم يعد متعلقا بالمكتوب فحسب، ومعه تغيير رؤيتهم تجاه عملية الإنتاج الأدبي والتلقي، وهذا الأخير صار تفاعليا أكثر؛ ذلك أن النص الأدبي الرقمي لا يتوقف عند ذاته فهو متفرع ومركب ومفتوح. فحسب الباحث سيرج بوشاردون يجمع الأدب الرقمي “مختلف الإبداعات التي تثير أدبية وخصوصية السند الرقمي”، وبالتالي فهذا النوع الجديد من الأدب له خصوصيته التي تجعله مختلفا كليّا عن سابقيه.
إذنْ نحن أمام ظاهرة أدبية جديدة تتماشى مع ما يعرفه العالم من تغيرات على جل الأصعدة، بل إننا على عتبات عصر الإنسان المفارق (المتجاوز)، نحو ما بعد الإنسان؛ هذا الإنسان الذي بات أكثر ارتباطا بكل ما هو سيبرنطيقي ورقمي، ما يستلزم معه أن يُغيّر حتى الأدب جلده وشكله وأسندته من أجل مواكبة كل هذا التطور المتسارع.
وكما يخبرنا الباحث الإيطالي فيتالي روسالتي مارسيلو فإن العصر الرقمي “يغير -بشكل عميق- ممارساتنا ومعانيها”، وهو ما يقودنا إلى ثقافة رقمية خالصة، ويضيف في كتابه “هل من وجود للأدب الرقمي؟” (2015) أن الكتب بمختلف أشكالها باتت منتمية إلى المجتمع المعاصر: المجتمع الرقمي.
ونجد أنفسنا اليوم إزاء رهانات متنوعة؛ إذ صار الأدب في العصر الرقمي موضع أسئلة كثيرة، أسئلة مرتبطة بالعلاقة بين المتخيّل والواقعي والافتراضي، ومرتبطة أيضا بالحدود بين الأدب والواقع، وبين الأديب وتعدد الأساليب والأسناد المتاحة له وتداخلها، والعلاقة التي تربط بين صاحب النص والمتلقي الذي بات طرفا وفاعلا داخل عملية الإبداع. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن شخصية ووضع المؤلف في ظل كل هذا التغير؛ المؤلف الذي لم يعد هو عينه كما كان متعارفا عليه، وما يقودنا أيضا إلى التساؤل عما هو النص في ظل كل هذا التغير؟ وعن معنى القراءة في العصر الرقمي؟
يخبرنا المفكر فيليب بوطز في مؤلفه (الرقمي) الشهير “ما هو الأدب الرقمي؟”، بأن الأدب الرقمي وُلِد في فلك السيبرنطيقا، وأثار عددا من الأحكام المسبقة تنبع من المتخيل التكنولوجي المتشائم من المستقبل لدى البعض، وتنحدر لدى البعض الآخر من تفسير بعبقرية التغيرات العميقة التي يُلحقها هذا الأدب بالكتابة والقراءة والنص، وهذا الأخير بات أكثر تفاعلا وترابطا.
نتحدث اليوم عن نص مترابط ونص تفاعلي، نص يتضمن نصوصا أخرى ووسائط أدبية أخرى بشكل أكثر تفرعا وتعقدا، نص لا يتوقف عند الهوامش المرفقة به، بل يحيلنا ويأخذنا إلى وسائط مكتوبة ومسموعة ومرئية، لم يكن من السهل بلوغها مع “الأدب الورقي”، وذلك عبر الروابط التي يخلقها النص المتشعب ويتضمنها.
وبالتالي تَغيّر مفهوما التلقي والقراءة، خاصة أننا بتنا نتحدث عن مفهوم “الفيدباك” (الاسترجاع) على مستوى التلقي؛ إذ يمكن للقارئ أن يعود إلى النص مرات ومرات من أجل التغذية الراجعة، أو ما يسمى كذلك بالفيدباك، أو من أجل المعالجة والتصحيح والتقويم والتتبع بغية الإضافة أو التنقيح أو التفاعل.
وكما يخبرنا فيليب بوطز “إذا ما أتاحت التفاعلية للقراء أن يتواصلوا فيما بينهم عبر عمل أدبي، فإنهم يقومون بذلك بحيث كلما تدخل أحدهم إلا وعدّل نسق العلامات التي يقرأها الآخرون، ومن ثمة تحصل عودة (تغذية راجعة) لنشاط القراء على العمل؛ قراءة شخص واحد تعدل العمل الذي سيتلقاه القراء الموالون”. إذن لم يعد البرنامج نظاما يندرج فيه هذا القارئ بل صار أداة يستخدمها القارئ نفسه في بناء المعنى بواسطة القراءة.
إعادة التفكير
منذ بداية العقد الأخير من القرن الماضي بتنا نتحدث بشكل موسع عن الأدب الرقمي، هذا الأدب الذي ارتبط بشاشات الكمبيوترات حال غزوها البيوت، فكان من النعوت التي أطلقت على هذا الأدب “أدب الكمبيوتر”. لكن سرعان ما سيتشعب هذا الأدب ويغدو أكثر تعقيدا ويصبح جزءا من خطوط الأنساب المعرفية، ومعه تولّد نقد جيد موسوم بالرقمي، استدعى ضرورة مراجعة جل المفاهيم النقدية السابقة وتطوير آليات البحث والنقد تماشيا مع سرعة تفرع هذا الأدب “التكنولوجي” الذي ارتبطت به مسميات أدبية معاصرة، من شذرية وتوافقية وتفاعلية وصوتية ومرئية.
لقد بات النص متشعبا، وغدت القصائد متحركة متداخلة مع فنون بصرية من برفورمانس وفن فيديو وغيرهما. أو كما يقول ريمي ريفيل “النص الرقمي يغطي أولا قيمة كبرى لإعادة إنشاء النص: أصبحت الكثير من المعلومات ممكنة، مثل الكتابة والتحويل والقطع والحذف، ويمكن كذلك في أي وقت استكمال النص، وليس فقط خلال مرحلة الإعداد. فليس له في الحقيقة حجم أو كتلة، ولا يمكن لمسه فعلا. لا يتضمن أي أثر مادي للشخص الذي كتبه”.
وبالمقابل صارت الإنترنت الوسيلة الأكثر نجاعة لتداول النصوص وانتشارها، ما دفع القارئ إلى تغيير وجهته من المكتبات الكلاسيكية إلى المكتبات الرقمية على شبكة الإنترنت، لما تتيحه من إمكانية الولوج السريع والوصول بكبسة زر إلى كتب كان من الصعب العثور عليها. ومع الإنترنت تولد لدينا نوع جديد من الكتاب، يسمون أنفسهم بـ”المدونين”، وذلك ارتباطا بمتطلبات القارئ الجديد، هذا الأخير أمسى أكثر طلبا للسرعة في التلقي والقراءة والوصول إلى المعلومة، وذلك في ظل ثقافة الوجبات السريعة كما يسميها بيير بورديو، ما يستوجب إذن إعادة التفكير في بعض المفاهيم مثل المؤلف والنص (شعر، سرد…) والشكل والأهمية المادية.