-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

بيكي ... وشم البدايات : ذ . رشيد سكري


 عادة ما يكون التفكير ، الخاضع لمنطق الحجة والبرهان ، مبنيا على عقد أواصر تجسر بين الماضي والحاضر . وعلى هذا الأساس ، تكون سبل البحث عن أسباب النجاح أو الإخفاق ، أمرا ملحا وفي غاية الأهمية أيضا . بل ، تصبح سموت التفكير الحقيقي و الجاد في الأسباب و المسببات هاجسا مرضيا ، خصوصا إذا كانت الحجج والبراهين مقنعة ، وخاضعة لمنطق علمي يقبله العقل والمنطق .

  إن المقارنة بين ما عشناه بالأمس وما نعيشه اليوم ، على مستوى البيداغوجي التربوي  والديداكتيكي ، في مدارسنا العمومية ، نجد فرقا شاسعا على مستوى النتائج والأهداف ، التي يطمح إليها المجتمع ، علاوة عن الحنين إلى الماضي بالرغم من مساوئه و تجاوزاته وتعثراته . فحقل التربية هو المجال الأنسب لصناعة أجيال الغد ، فكل خلل في البناء والتركيب ، تكون عواقبه وخيمة على مآل صناعة الإنسان بعامة .

  بالموازاة مع ذلك ، فالاهتمام بالتربية هو اهتمام بالمستقبل ككل ، الذي يحدد مصائر البلاد والعباد ؛ لذلك يعتبر منعطفا خطيرا لرصد مدى قابلية وجاهزية السير نحو النهل الغزير من منابع الحضارة والتطور ومواكبة العصرنة ، التي تخترق البناء العالمي اليوم . كما أن خنق المبادرات داخل المؤسسات التعليمية بمجموعة من المذكرات جهوية و إقليمية ؛ لهو مثبط حقيقي يجعل من المؤسسة التعليمية ، بكل أطرها ، في حَيْص بَيْص .

                                              ـ 2 ـ

   فسياق هذا التقديم ، البسيط ، جاء عن طريق استقدام ، نهاية السبعينيات من القرن الماضي ، عهدي الأول بالمدرسة . كان الفقيه الديني ، خصوصا في السنوات الأولى من الابتدائي ، عندما لا تتوفر النيابة التعليمية على الأطر الكافية لتغطية الطلب المتزايد على التعليم العصري ، هو من يتولى تربية الناشئة داخل المدرسة الحكومية . فحسرتنا كانت كبيرة ، ونحن نرمق فقيهنا داخل الحجرة لا يغادر البتة مقعده إلا لماما ، بيْد أن المعلم ، في حجرات أخري ، يمر كالطيف بين الصفوف ؛ ليراقب عن كثب عمل المتعلمين .

   فبالرغم من هذا النقص الحاصل في الأطر التربوية ، إلا أنه ثمة إجماع على أن بناء المستقبل لا يتم إلا عبر توفير العدد الكافي من الأطر التربوية . فنشاط الفقيه في المدرسة العصرية ، بزيه التقليدي ؛ الجلباب و العمامة ، مركز على تلقيننا مبادئ العقيدة والعبادات ، لدى فدروس المواد العصرية ؛ رياضيات و علوم أخرى ، تبقى مؤجلة للسنوات القادمة .

   إن هذه الفجوة المعرفية تزداد اتساعا، لتتحول إلى تدمر ذاتي أتى على الأخضر واليابس ، خصوصا عندما يحصل التلاميذ الآخرون عن كتب مجانية ، تكون زاهية بتخطيطات لحياة برية ، متمثلة في سلاسلها الغذائية المعروفة .  ناهيك عن رسومات وصور لحيوانات مفترسة ، ولفكوكها الضخمة  وطواقم أسنانها المتعددة الأشكال والأحجام ، وهي معزولة في إطاراتها البهية ، يفخرها المتعلمون بالتلوين والتزيين والقص ، لتنتهي بها الرحلة ، وهي معلقة على مجلتهم الحائطية . عبر تلك النوافذ البلاستيكية الضخمة للفصل ، كنا نطل على عالم بهي ومترام ، وكنت أحس به أنه ليلٌ لا صبح له ، أو بحرٌ لا ساحل له . لتقتحمني دون استئذان صورة الفقيه ، في جلبابه الصوفي ، وهو يستفيض في شرح مكون العبادات ، من خلال صواعد وهوابط يديه الضخمتين .

                                            ـ 3 ـ   

   ما ترسخ بذهني ، وأصبح موشوما في الذاكرة وإلى الأبد ، معلم الفصل الثاني ، الملقب ب" بيكي " . ظاهرة تحمل هواجس الماضي والحاضر ، والمدموغة بأيديولوجية غزت العالم نهاية السبعينيات و بداية الثمانينيات من القرن الماضي . البوهيمية أو الهبيزم تيار فكري اجتاح أمريكا و أوروبا ليصل إلى العالم العربي ، فتأثر به العديد من الشبان من المحيط إلى الخليج . فكان المعلم " بيكي " من بين أولئك الذين تأثروا إلى درجة الهيام  والخبول بهذه الموجة ، التي انتشرت كالنار في الهشيم . كنا نحس به غريبا ، من خلال مظهره وشعره وطريقة لباسه ، فباتت أظافر أصابعه العَجْراء الطويلة تخيفنا كثيرا ، خصوصا عندما يمر بين الصفوف من أجل مراقبة منجزاتنا المنزلية . شعره اللولبي والهدلولي يسيح في الفوضى إلى حدود كتفيه المهزوزين  ، بينما ملابسه دائما تكون في ألوان الطبيعة ، وفي لون قوس قزح . أما وشكل السراويل ، التي يعشقها والمتيم بها ، فهي في نمط واحد ؛ مفتوحة بعُرى واسعة من الأسفل ، وتضيق كلما انتصف جسده الهازل .

   بكل هذه الحمولة الفكرية والأيديولوجية الثقيلة كان يغزو وينتشر في أذهاننا الصغيرة كالموج الإشعاعي ، وبهذه الصورة البوهيمية كان يدرسنا اللغة العربية ، ويتفنن في إلقائها ، منتقلا بين مكوناتها برشاقة الأيول  . فلا الإدارة التربوية قادرة أن تناقشه في قناعاته ومواقفه ، ولا الجمعيات باستطاعتها أن تغير من مساره الأيديولوجي ، الذي حفره بإزميله في الصخرة الصلداء ؛ فكان " بيكي " أرخبيلا عائما ، متروكا على سجيته وغنجه ودلاله .

   لازلت أتذكر الموسيقى ، التي كان يعزفها " بيكي" لحنا طروبا داخل الفصل بقيثارته الحمراء الأرجوانية  ، وكانت أظافره الطويلة تنتقل برشاقة بين أوتارها الرنانة  ؛ فصار شبيها بعازف الليل . أغاني الإخوان مكري ، وهي فرقة الروك ، اشتهرت في المغرب أواخر الستينيات و أوائل السبعينيات ، رددناها بحماسة وتأثر بالغين داخل الفصل ، والمعلم " بيكي " يعزف ألحانها أطوارا بقيثارته . تعرفنا على الإخوة ميكري ؛ حسن ومحمود ويونس  وجليلة من خلال أصواتهم ، التي ترددت كثيرا على مسامعنا الصغيرة . وبهذا عشنا ، لأول مرة ، عوالم الكورال و الموسيقى عن الحب  والحياة و الإنسان والطبيعة  ، بما هي القضايا التي كان التيار البوهيمي يدافع عنها في مختلف المحافل الدولية . ويأتي بوب ديلان ودجيمي هاندركس على قائمة المؤثرين في شباب العالم نهاية الستينيات ، وبداية السبعينيات من خلال الروك أند رول والجاز والبلوز وموسيقى الطبيعة ، وغيرها من الألوان الموسيقية الأخرى .

   عندما نضع مقارنة حال التعليم بين الأمس واليوم  ، سنجد فرقا شاسعا ، خصوصا على مستوى المبادرات ، التي تخدم الجانب الترفيهي عند المتعلمين . فالمعلم قديما كانت له الشجاعة والصلاحية الكاملة ليختار الأنشطة ، التي تتناسب والمناخ العام ، الذي يسبح فيه التلميذ ؛ سواء داخل البيت أو في الشارع أو حتى ما تبثه وسائل الإعلام . لذا ، فمن الواجب أن تكون للمعلم تلك الصورةٌ المثالية في المتخيل الجماعي ؛ لأنه كان حقيقة صاحب المبادرات الشجاعة  والقناعات الكافية ، التي افتقدناها اليوم ، بفعل صرامة المذكرات ، التي تنهال على قطاع التربية دون انقطاع ، وتحد نسبيا من فعالية الأطر التربوية .      

   

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا