عادة ما يكون التفكير ، الخاضع لمنطق الحجة والبرهان ، مبنيا على عقد أواصر تجسر بين الماضي والحاضر . وعلى هذا الأساس ، تكون سبل البحث عن أسباب النجاح أو الإخفاق ، أمرا ملحا وفي غاية الأهمية أيضا . بل ، تصبح سموت التفكير الحقيقي و الجاد في الأسباب و المسببات هاجسا مرضيا ، خصوصا إذا كانت الحجج والبراهين مقنعة ، وخاضعة لمنطق علمي يقبله العقل والمنطق .
إن
المقارنة بين ما عشناه بالأمس وما نعيشه اليوم ، على مستوى البيداغوجي التربوي والديداكتيكي ، في مدارسنا العمومية ، نجد فرقا
شاسعا على مستوى النتائج والأهداف ، التي يطمح إليها المجتمع ، علاوة عن الحنين
إلى الماضي بالرغم من مساوئه و تجاوزاته وتعثراته . فحقل التربية هو المجال الأنسب
لصناعة أجيال الغد ، فكل خلل في البناء والتركيب ، تكون عواقبه وخيمة على مآل صناعة
الإنسان بعامة .
بالموازاة مع ذلك ، فالاهتمام بالتربية هو اهتمام بالمستقبل ككل ، الذي يحدد مصائر البلاد والعباد ؛ لذلك يعتبر منعطفا خطيرا لرصد مدى قابلية وجاهزية السير نحو النهل الغزير من منابع الحضارة والتطور ومواكبة العصرنة ، التي تخترق البناء العالمي اليوم . كما أن خنق المبادرات داخل المؤسسات التعليمية بمجموعة من المذكرات جهوية و إقليمية ؛ لهو مثبط حقيقي يجعل من المؤسسة التعليمية ، بكل أطرها ، في حَيْص بَيْص .
ـ 2 ـ
فسياق هذا التقديم ، البسيط ، جاء
عن طريق استقدام ، نهاية السبعينيات من القرن الماضي ، عهدي الأول بالمدرسة . كان
الفقيه الديني ، خصوصا في السنوات الأولى من الابتدائي ، عندما لا تتوفر النيابة
التعليمية على الأطر الكافية لتغطية الطلب المتزايد على التعليم العصري ، هو من
يتولى تربية الناشئة داخل المدرسة الحكومية . فحسرتنا كانت كبيرة ، ونحن نرمق فقيهنا
داخل الحجرة لا يغادر البتة مقعده إلا لماما ، بيْد أن المعلم ، في حجرات أخري ،
يمر كالطيف بين الصفوف ؛ ليراقب عن كثب عمل المتعلمين .
فبالرغم
من هذا النقص الحاصل في الأطر التربوية ، إلا أنه ثمة إجماع على أن بناء المستقبل لا
يتم إلا عبر توفير العدد الكافي من الأطر التربوية . فنشاط الفقيه في المدرسة
العصرية ، بزيه التقليدي ؛ الجلباب و العمامة ، مركز على تلقيننا مبادئ العقيدة
والعبادات ، لدى فدروس المواد العصرية ؛ رياضيات و علوم أخرى ، تبقى مؤجلة للسنوات
القادمة .
إن هذه الفجوة المعرفية تزداد اتساعا، لتتحول إلى تدمر ذاتي أتى على الأخضر واليابس ، خصوصا عندما يحصل التلاميذ الآخرون عن كتب مجانية ، تكون زاهية بتخطيطات لحياة برية ، متمثلة في سلاسلها الغذائية المعروفة . ناهيك عن رسومات وصور لحيوانات مفترسة ، ولفكوكها الضخمة وطواقم أسنانها المتعددة الأشكال والأحجام ، وهي معزولة في إطاراتها البهية ، يفخرها المتعلمون بالتلوين والتزيين والقص ، لتنتهي بها الرحلة ، وهي معلقة على مجلتهم الحائطية . عبر تلك النوافذ البلاستيكية الضخمة للفصل ، كنا نطل على عالم بهي ومترام ، وكنت أحس به أنه ليلٌ لا صبح له ، أو بحرٌ لا ساحل له . لتقتحمني دون استئذان صورة الفقيه ، في جلبابه الصوفي ، وهو يستفيض في شرح مكون العبادات ، من خلال صواعد وهوابط يديه الضخمتين .
ـ 3 ـ
ما
ترسخ بذهني ، وأصبح موشوما في الذاكرة وإلى الأبد ، معلم الفصل الثاني ، الملقب
ب" بيكي " . ظاهرة تحمل هواجس الماضي والحاضر ، والمدموغة بأيديولوجية
غزت العالم نهاية السبعينيات و بداية الثمانينيات من القرن الماضي . البوهيمية أو
الهبيزم تيار فكري اجتاح أمريكا و أوروبا ليصل إلى العالم العربي ، فتأثر به
العديد من الشبان من المحيط إلى الخليج . فكان المعلم " بيكي " من بين
أولئك الذين تأثروا إلى درجة الهيام
والخبول بهذه الموجة ، التي انتشرت كالنار في الهشيم . كنا نحس به غريبا ،
من خلال مظهره وشعره وطريقة لباسه ، فباتت أظافر أصابعه العَجْراء الطويلة تخيفنا
كثيرا ، خصوصا عندما يمر بين الصفوف من أجل مراقبة منجزاتنا المنزلية . شعره
اللولبي والهدلولي يسيح في الفوضى إلى حدود كتفيه المهزوزين ، بينما ملابسه دائما تكون في ألوان الطبيعة ، وفي
لون قوس قزح . أما وشكل السراويل ، التي يعشقها والمتيم بها ، فهي في نمط واحد ؛
مفتوحة بعُرى واسعة من الأسفل ، وتضيق كلما انتصف جسده الهازل .
بكل هذه الحمولة الفكرية والأيديولوجية الثقيلة كان يغزو وينتشر في أذهاننا
الصغيرة كالموج الإشعاعي ، وبهذه الصورة البوهيمية كان يدرسنا اللغة العربية ، ويتفنن
في إلقائها ، منتقلا بين مكوناتها برشاقة الأيول
. فلا الإدارة التربوية قادرة أن تناقشه في قناعاته ومواقفه ، ولا الجمعيات
باستطاعتها أن تغير من مساره الأيديولوجي ، الذي حفره بإزميله في الصخرة الصلداء ؛
فكان " بيكي " أرخبيلا عائما ، متروكا على سجيته وغنجه ودلاله .
لازلت
أتذكر الموسيقى ، التي كان يعزفها " بيكي" لحنا طروبا داخل الفصل
بقيثارته الحمراء الأرجوانية ، وكانت
أظافره الطويلة تنتقل برشاقة بين أوتارها الرنانة ؛ فصار شبيها بعازف الليل . أغاني الإخوان مكري
، وهي فرقة الروك ، اشتهرت في المغرب أواخر الستينيات و أوائل السبعينيات ، رددناها
بحماسة وتأثر بالغين داخل الفصل ، والمعلم " بيكي " يعزف ألحانها أطوارا
بقيثارته . تعرفنا على الإخوة ميكري ؛ حسن ومحمود ويونس وجليلة من خلال أصواتهم ، التي ترددت كثيرا على
مسامعنا الصغيرة . وبهذا عشنا ، لأول مرة ، عوالم الكورال و الموسيقى عن الحب والحياة و الإنسان والطبيعة ، بما هي القضايا التي كان التيار البوهيمي
يدافع عنها في مختلف المحافل الدولية . ويأتي بوب ديلان ودجيمي هاندركس على قائمة
المؤثرين في شباب العالم نهاية الستينيات ، وبداية السبعينيات من خلال الروك أند
رول والجاز والبلوز وموسيقى الطبيعة ، وغيرها من الألوان الموسيقية الأخرى .
عندما نضع مقارنة حال التعليم بين الأمس
واليوم ، سنجد فرقا شاسعا ، خصوصا على
مستوى المبادرات ، التي تخدم الجانب الترفيهي عند المتعلمين . فالمعلم قديما كانت له
الشجاعة والصلاحية الكاملة ليختار الأنشطة ، التي تتناسب والمناخ العام ، الذي
يسبح فيه التلميذ ؛ سواء داخل البيت أو في الشارع أو حتى ما تبثه وسائل الإعلام . لذا
، فمن الواجب أن تكون للمعلم تلك الصورةٌ المثالية في المتخيل الجماعي ؛ لأنه كان حقيقة
صاحب المبادرات الشجاعة والقناعات الكافية
، التي افتقدناها اليوم ، بفعل صرامة المذكرات ، التي تنهال على قطاع التربية دون
انقطاع ، وتحد نسبيا من فعالية الأطر التربوية .