تقديم. ليس من السهل إنجاز فيلم في المناخ الفني وبالتراكم الثقافي وانطلاقا من المعتاد والسائد في الإنجاز السينمائي المغربي عموما. نتحدث عن واقع يتميز عموما بالاستسهال وبنوع من غياب الاتقان والتفكير الملائم والعميق، وبغياب الاستعداد المضبوط والحريص على التفاصيل. إضافة إلى ما سبق ليس من السهل أيضا إنجاز شريط سينمائي روائي طويل، يجمع بين درجة حد أدنى من القدرة مقاربة نوع الرعب وتقنية التشويق ووسعة الخيال وملائمة التخييل ونسج مناخ الخوف، إذ لم نعتد في السينما المغربية، ومنذ نشأتها الأولى نهاية الستينيات، إلا على مقاربات إخراجية من قبل الدراما والتاريخ أو الكوميديا أساسا.
لا يتعلق الأمر بمسألة اختيار ينحاز المخرج أو المنتج إليه، بل هي مسألة صعوبة يتطلب تجازوها والنجاح في التفوق والتغلب عليها لتحقيق الإبداع، قدرة حقيقية على الإمساك بتلابيب التقنيات السينمائية، وفي إطار ملائم من جهة، والتمكن من تخييل عميق وخصب من جهة ثانية، وانخراط في عمل جماعي بكل تفان من جهة ثالثة.
من المسرح إلى السينما عبر جسر التلفزيون.
اثبت السينمائي فوزي بنسعيدي بأن الانتقال من المسرح إلى السينما عبور من عالم تعبيري إلى آخر، فالممارسة المسرحية لا تمهد ولا تيسر العمل على الإخراج السينمائي لديه، كما أثبتت المسيرة الغنية للسينمائي المغربي إدريس المريني أن الاشتغال طويلا في التلفزيون، لا يفسد القدرة على الإبداع السينمائي إلا لمن لا موهبة لديه أصلا، إلا أن المخرج إدريس الروخ يجسد مفارقة التنقل بين الثلاثة – مسرح تلفزيون وسينما – فما حصيلة عبور صعب من خلال فيلمه جرادة مالحة؟
مخرج مثابر وعودة لافتة.
ينتمي المخرج إدريس الروخ إلى الجيل الجديد من المخرجين السينمائيين المغاربة، وذلك على الرغم من أنه يكبر ببضع سنوات أبناء الجيل الحالي الذي يراوح عموما الثلاثينيات.
بدأ إدريس الروخ مشواره الإبداعي في المسرح، ثم انتقل إلى التلفزيون ثم السينما لاحقا. وإذا كان إدريس الروخ قد حققتراكما محترما في عمله التلفزيوني كمخرج للمسلسلات الدرامية وللسيتكومات، فقد ظل متمسكا وصابرا في سعيه إلى الإخراج السينمائي، على الرغم من الصعوبات التي صادفها مرارا وهو يقدم مشروعه للجنة دعم المشاريع السينمائية.
يجدر القول بأن للتجربة السينمائية لإدريس الروخ كممثلسينمائي وكمخرج تلفزيوني مارس لسنوات، مكانة من التهيء الجيد في إخراجه لفيلمه السينمائي الأول. يتعلق الأمر بفيلم "جرادة مالحة" أو كما سماه مخرجه بالإنجليزية "Lost".
واجه مشروع فيلم إدريس الروخ هذا رفضا متكررا لسنوات من لجنة دعم الإنتاج السينمائي المغربي، وعندما تعاني رفضا مماثلا متكررا وأنت مهووس بمشروع ومتشبث به، فإن التحدي يكون أكبر وأقوى عندما تتمكن من فرصة الإنجاز، تجد نفسك عندها أمام تحدٍّ جمالي بالمعنى الممتلئ للكلمة، حيث لا بد من تكامل، الشكل والمضمون، السمعي والبصري، الحكي وتدفقه، والصورة ومكوناتها، والأداء وتفاصيل التشخيص، لتكون الحصيلة فيلم عبارة عن بنية تناسق وتناغم ممتع ومشوق و"لذيذ": ذلك هو التحدي الجمالي الذي واجهه السينمائي إدريس الروخ في إنجاز فيله الروائي الطويل الأول "جرادة مالحة".
حصل فيلم "جرادة مالحة" على تسبيق على المداخيل من صندوق دعم الإنتاج السينمائي بالمغرب قدره 4,000,000 درهم (ما يقارب 400,000 دولار). وتم تصوير هذا الفيلم بين مدن الدار البيضاء ومكناس وازرو وبنصميم، وقد شارك في الفيلم جملة من الشباب من بينهم عبد الرحيم المنياري وفاطمة الزهراء بناصرومنية الرميقي وخنساء باطمة إلخ.
"جرادة مالحة" خطوة أولى وتحدٍّ جمالي.
يتميز فيلم إدريس الروخ "جرادة مالحة"، الذي شارك في مهرجانات دولية متعددة، (مهرجان تورنتو بكندا حيث حصل على جائزة أفضل فيلم وأفضل سيناريو، ومهرجان الإسكندرية حيث حاز جائزة أفضل إخراج، بالإضافة إلى مشاركته في مهرجان دربن بجنوب إفريقيا ومهرجان مونريال بكندا أيضا ومهرجان بوفالو بالولايات المتحدة الأمريكية)، يتميز بجرأة في البحث الجمالي حيث راهن على أجواء ومناخات بصرية وموسيقية بجودة عالية، تنهل من صيغة أفلام سلسة الحكي وقوية فيها جاذبية المناخ الذي تضع المتفرج فيه. يتميز "جرادة مالحة" كذلك باختلاف عن تراكم الفيلم المغربي عموما في صيغة البنيةالحكاية الدرامية، كما تراهن المقاربة الإخراجية فيه على تركيبة يتداخل في مضمونها النفسي بالأخلاقي بالتخييلي وبالخيالي، وبتموضعات للكاميرا تقطع مع التلفزيوني في الفيلم المغربي، حيث عمق الحقل ومناخات الإنارة الناضحة بالدلالات والمعاني، تخدم البنية المتعددة للفيلم كحكي تخييلي تمتزج فيه السريالية بالعبثية بالدراما الاجتماعية وبالوهم بشكل لافت.
تحمل بطلة الفيلم المتزوجة هذا المزيج الدرامي في شخصيتها الفيلمية، حيث الشك والليل والحب والخوف والتوجس والمتعة، تنسج مجتمعة ساعتان وخمس دقائق من فرجة جمالية غير معتادة، بالنظر إلى التراكم العام للفيلم السينمائي المغربي.
يشارك فيلم "جرادة مالحة" في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة هذه السنة حيث ستكون المنافسة شديدة بين كل أجيال السينما المغربية.
رفع فيلم "جرادة مالحة" تحديا جماليا مخصبا لتراكم السينما المغربية وهذه بعض الملاحظات في هذا السياق.
1- المقاربة الإخراجية التي قاعدتها جودة الصورة بكل مكوناتها نتيجة التجربة الطويلة للاشتعال التلفزيوني بشكل مميز. أمكنة وضع الكاميرا التي تنم عن حس إبداعي وقدرة على اختراق المألوف لكن عن معرفة وتجربة رصينة، نقول هذا مقارنة بتجارب شابة نسبيا، ركبت حصان اختراق المألوف بشيء من الرعونة وانعدام العمق الفكري، مما جعلها تكرر نفسها بسبب غياب منظور جمالي مُقعَّد فكريا،بطموح نحو تميز وإبداع قوي الأسس بأخلاقيات التواضع والوقوف في وجه استسهال السينما والإخراج أساسا.
2- جودة السيناريو من حيث البنية دراميا والدقة في رسم تفاصيل الأحداث ومآلاتها والشخصيات وخلجاتها،خاصة وأن الحكاية تقوم على غموض وضعية زوجة تعاني من خيانة زوجها والخصومات المتكررة معه، بقدر ما تعاني نفسيا من هوس استقرار مهزوز بل ومفقود، بالنظر إلى أزمة نفسية يتزاوج فيها ما هو تخييلي ووهمي بما هو واقعي ومرعب.
أخيرا.
إن فيلم "جرادة مالحة توقيع جمالي مثير لشهية ترقب الآتي من أعمال المخرج إدريس الروخ، في ظل دينامية السينما المغربية التي مضت عليها الآن ما يقرب من عقد ونصف على الأقل - دون احتساب سنتي ركود الجائحة – حيث مناخ الإبداع يقترب من الملائم، في انتظار استكمال بنية دورة اقتصادية وصناعية لسينما نحتاجها وتحتاجنا الآن وفي عالم هيمنة "سلاح" الصورة.