تقصر اللغة عن وصف ما حدث ويحدث، وتفسير ما وقع ويقع،
فالواقع العربي أصبح أغرب من الخيال، ومن ثم أخرسها وأطبق عليها في
"خناقة" قطعت أنفاسها، وَحَشتْ روحها، ذلك أن صورة الدم غطت على صورة
اللغة وما تمنحه من إمكانات العرض والبسط والتوصيف والتحليل والتشريح. لا شيء سوى
الدم وزرع الخراب والدمار، دمار في أنفس الإرهابيين المجرمين الذين قطعوا مع
الآدمية بصفة نهائية، ينتقل إلى الواقع المعيش المحسوس الملموس المعاين إنسانا
وعمرانا فيُرْدِيه قتيلا، مشتتا، ممزقا، أشلاء في كل مكان.
المعاول جاهزة، ووسائط الموت التكنولوجية عالية
"الجودة" والأداء، كامنة ومترصدة تحاور الموت والغدر والقتل العمد.
صُورٌ لاَتَنِي تتناسل وتتوالد وتتعمم : التكنولوجيا
رافعة وسند، والحقد المسعور يتقاطر قطرانا وغِسْلينا وقيحا وسوادا.
كيف يتحدث هؤلاء المجرمون عن دولة، ويسمون خرابهم
"تنظيم الدولة" والحال أن التنظيم ابن التناسق والتناسب والجمال.. فكيف
يحب الجمال من يحب الموت ويسعى إليه في عينيه شرر، وفي يده ساطور وَمُدْيَة، وفي
سجله دماء مغدورين، ورؤوس أبرياء ذنبهم أن "القدر" جعلهم على مرمى من
زحف المجرمين "المقدس"، وأن الصدفة "الفاجرة" جعلت منهم أناسا
مختلفين لغة وسلالة ودينا ومذهبا.
الدم يغرد آناء الليل وأطراف النهار من أجل ماذا؟ من أجل
دولة موهومة لن تعرف الوجود والانوجاد أبدا. والمفارقة أن "الداخلين" في
الإسلام الداعشي من أوروبيين وأمريكيين وأسيويين، هم من يرفع عماد
"الدولة" الموهومة على نواتج العقل الإلكتروني الجبار، ونواتج الاجتهاد
العلمي الرقمي الإنساني. ما يعني أننا نتوسط لمجهول بمعلوم نبت في الديار
الأجنبية، في ديار "الكفار" بتعبير الدواعش، والاستئصاليين، والأصوليين
المتحجرين.
وهو ما يجعل أسس الدولة المزعومة أسسا من رمل وسراب،
ووهم وماء، إذ لا يمكن بتاتا أن يتأسس فكر غيبي والغ في التقتيل والتحريق
والانتشاء بالدم المغدور، وتوسيد الجماجم والرؤوس المقطوعة، على مشروعية منتفاة،
وغير واردة لا ماضيا ولا حاضرا ولامستقبلا، أي على رمال متحركة، وتخوم مفتوحة على
الجحيم. ليس بالتكنولوجيا المجلوبة التي تصور "بطولات" هؤلاء المجرمين،
و"فتوحاتهم" التترية البربرية، تكون الدول، وتقوم الأوطان، بل بالمقومات
البانية التي شيدها عقل وفكر ووجدان وتعاقد اجتماعي وتناغم، وأصول ومرجعيات ومظان،
ومتون، تكون بالمحبة والتسامح والحوار والتعايش، والتوادد، والتجاور المنتج،
والتحاور الخلاق، والتفاعل الحي، والاختلاف الإنساني الغني الخصيب.
تكون بالمهادات التي لا تخرج عن التعليم المنفتح،
والتربية القويمة، واللغة الطيعة المطواعة التي تتطور وتتغير وتتحول، وتلين للعلوم
المختلفة، والفلسفات، والتجاذب والتقاطب، تكون بالترجمة والتثاقف، والأخذ والعطاء،
والتجاذب والتقاطب، والبناء. تكون إسلامية أو مسيحية أو يهودية أو بوذية أو كونفيشوسية،
أو وثنية بالانخراط في العصر، بطرح سؤال الكينونة والوجود، سؤال : ماذا قدمت؟
وماذا أخرت؟ ولم أنا في المقدمة أو في آخر الترتيب؟، وما التنمية المنشودة،
والتقدم المبتغى؟، ما سر وجودي، ما حاضري؟ ما أفقي؟ ما غاياتي القريبة والبعيدة؟ .
أسئلة لا معدى عنها، ولابد منها لأنها تذكرنا بنقصاننا
وبقصورنا، وبوجوب تكاملنا واكتمالنا في البحث عن الشبيبه، وهذا الشبيه وجهان : وجه
يشاركني سمائي ولغتي ومحتدي وديني وثقافتي، ووجه بعيد عني لكنه حاضر معي، يجاورني،
ويقاسمني سكن الكون، والإقامة على الأرض
نفسها، والكوكب نفسه، يختلف عني لغة ودينا ومحتدا ومنحدرا وتاريخا، وسلالة، وثقافة،
وتقاليد وعادات، لكنه ضروري لي، كما أنا ضروري له، تكبر حاجتي إليه يوما على صدر
يوم، وتكبر حاجته إلي ليلة إثر ليلة.
بهذا النوع من الأسئلة وغيرها، يستطيع الإنسان أن يتنفس
الصعداء، ويستشعر الأمان والطمأنينة النفسية والروحية الموصلتين –حتما – إلى
البناء والتشييد، وإقامة الدولة الإنسانية الكبرى، الوطن الكوني الذي هو رهان كل
فكر حر، وكل ثقافة سيدة، وكل طموح عقل معافى، ووجدان جميل متبصر.
نعرف جيدا أن منظومة التعليم والتربية في طول العالم
العربي وعرضه، فشلت في صنع الإنسان السموح، المتعدد، الغني، المنفتح، والمتفتح،
على الجهات، واللغات، والديانات، والثقافات الأخرى.
ليس من فضل ولا فضيلة للأديان السابقة على الديانة
الإسلامية، هذا ما تقوله برامج ومقررات التربية الإسلامية طُرًا. بل إن باقي الديانات
وثنية متعصبة، منحرفة، حادت عن الجادة منذ ولادتها. لم يستمر الوحي بها إلا برهة
قصيرة من الزمن سرعان ما تبخر ليستقر مكانه المغالطة والتحريف، والدس الإنساني،
واليد الآثمة. بينما يبرأ الإسلام من كل ذلك، ولا يجوز التشكك مطلقا في الذكر
الحكيم الذي حفظه الله من كل سوء، ومن كل عبث ودس، وسوء نية وطوية. والحال أن
الذكر الحكيم لا يختص به القرآن وحده، بل كل الأوحاء السماوية الإبراهيمية في
الأقل. تصوير الآخر منحرفا وبذيئا من خلال دينه، هو أول جدار وضعناه بيننا وبين
العصر، والتشكيك، بل القذف المجاني الذي لا يقوم على دليل، في الحضارة الغربية
والأمريكية بوصفها حضارة منحلة متحللة، سائبة جنسانية تعبد المادة، وتؤله الفجور
والدعارة والتهتك العام، هو الجدار الثاني الذي أقمناه عاليا بيننا وبين ما ينبغي
النهل منه، وتخصيب حضارتنا به لتنخرط في معمان العصر، وتندرج ضمن الحضارات الحية
التي أعطت زمنا، ولا تزال تعطي. فضمورنا الحضاري، وتوقف بندول ساعتنا العربية-
الإسلامية منذ زمن طال واستطال، وتعطل عجلة تاريخنا التي تراوح المكان منذ قرون،
جاء من شكل ومحتوى ومضمون وتوجهات ما نُلْقِمُ به أبناءنا وبناتنا، وما ألْقِمْناهُ
بدورنا، ونُلْقِمُهُ للآتين، حجر يلقم حجرا، ينزف من جرائه الفكان، وليس الفكان
غير الماضي الميت والحاضر البئيس.. الذي يرهص لمستقبل ميت، وآت يرتسم منذ الآن
مغبرا، شائها، وبدون ملامح .
أما الطامة التي فشت فينا، وجعلت من الصعب التنبؤ بفجر
قريب، هو "مزبلة" الفتاوى التي أطلقها ويطلقها من لا عير له ولا نفير في
الفكر الديني، والاجتهاد الفقهي، وألفبائية الثقافة المعاصرة.
إن المحطات التلفزيونية التي تمولها العرب العاربة،
والعرب المستعرية في أكثر من مكان من العالم العربي المشطوب، مسؤولة إلى حد بعيد
عن تفشي الأمية الدينية، والاستعداد لقتل، وتجريم المثقفين الليبيراليين
التنويريين، واليساريين الاشتراكيين، والمفكرين الأحرار بوجه عام.
وما "القاعدة" و"داعش"، وقبلهما "الهجرة
والتكفير" المنبثقة عن تجمع الإخوان المسلمين، وغيرها من تسميات الجهل والسوء
والكراهية والتخلف، سوى نتاج المنظومة التعليمية العربية الإسلامية المحنطة
والنمطية والتي تنطوي في خطوطها العريضة على تمجيد الذات، وتبشيع الأغيار، وعلى
مديح "الرجل الفحل"، والحط من قدر المرأة على كافة الأصعدة، بالاتكاء
على أحاديث "نبوية" مخدومة، ومصنوعة، هي حصيلة "اجتهاد" فقهي
انحطاطي، وحصيلة ما انتهى إلينا من "علماء السلاطين" و"علماء"
السوء الذين استخدمتهم البلاطات لإضفاء المشروعية عليها .
وفضلا عن صنيع التعليم الخَرِب الأحادي الغارق في
التمجيد المرضي للذات العربية المتورمة والمترهلة، تحضر المحطات التلفزيونية –كما
أسلفت- بكل صفاقتها و"تعالمها" وخرافاتها، التي تخرج من
"أبواق" صدئة، وأفواه تنز دما، وتقذف قيحا إذ الضحية المفترضة بل
الواقعية تلوح ل: " الفقيه" الذي ذهبت بعقله رائحة الدولار
و"اليورو"، وأخرجته عن طوره القناطر المقنطرة من الذهب والفضة ، والريع
الدفاق .
ماذا نقول مرة أخرى، والمجرمون اقتحموا "تدمر"
المدينة السورية التاريخية، اقتحموها وأسنانهم تنهش ظلال الموتى، وقبور المدنيين
الذين أقاموا حضارة في العالمين. دخلوها عن بكرة أبيهم – يالرعبهم ! ويا لإرهابهم، ويا لحقدهم الأسود ! وزحفهم المجنون على بلدة عاشت هادئة منذ الملكة
"زنوبيا" إلى اليوم، قرون مرت
تحمل قرون الحضارة ترفل في الحضارة، والجمال الأيقوني، والبهاء المجسم في تماثيل..
وألواح ومشخصات، يرقص في غلالات الأزمنة الزرقاء اللازوردية التي مرت على المكان
حالا على حال، حاملة عرق الإنسان الباني، وجلجلة النواقيس والأذان، وتغاريد
الطبيعة والقيان، ومطر الروح الهيمي التي رفرفت على المكان دهورا وأزمانا، وفجأة
وصل الجراد الجائح، وحل الطاعون والوباء الإرهابي الإجرامي، ليسكت الجمال الضاج،
والحضارة الناطقة، والموتى الذين ما أغلقوا أعينهم أبدا حتى جاء البرابرة الجدد
فأغلقوها، وأهالوا رُدُمًا من الحقد والكراهية والتراب عليها.
ختاما أقول : لا مخرج ..لاحل لهذه الكارثة الداعشية،
وللإجرام "الإسلاموي" الذي يترى ويتواتر، ولا دحر لهذا العدوان العبثي
الذي شرع مجددا يهلك الحرث والنسل، ويتمدد على مساحات وجغرافيات شاسعة من بلاد
الشام والعراق (ها هو يحتل في تقرير أممي جديد 50% من أرض سوريا)، هذا العدوان
العبثي الواهم الموهوم الذي يتآكل تلقائيا، على رغم غطرسته، ويتغذى من دمه على دمه
حتى وإن توهم أنه يتغذى على "الكفار" و"المشركين" . لا مخرج
له ولا دحر إلا بإرادة سياسية عربية قوامها إعداد جيش نظامي مدرب ومؤطر، جيش يكون
من جماع الدول العربية، تسنده سياسة محكمة واحدة موحدة، لها ميقاتها في الزمان
والمكان واستراتيجيتها في الحال والمآل . بغير هذا، ستظل طائرات الحلفاء تقصف
الرمل، والجراد يزحف، وتستمرالاجتماعات، واللقاءات، والندوات، والخرائط الورقية،
وداعش الإرهابية تمزق تلك الخرائط على الأرض.. أي ب "السيف"
و"النطع" نكاية في القلم والكتابة والولائم، تصديقا –هذه المرة- لأبي
تمام :
السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد
بين الجد واللعب