تجريم العلاقات الجنسية والشذوذ: حلّ أم مُشكلة؟ بقلم: عبد الرحيم العلام
دكتوراه في القانون العام
قبل الشروع في مناقشة ما تبقى من بنود مسودة القانون
الجنائي، لابد من توضيح مسألة أثيرت في خضمّ النقاش المحتدم حول الموضوع، إذ يحاول
البعض توصيف الاختلاف الحاصل حول بعض البنود على أنه خلاف بين الذين يدافعون عن
الدين والذين هم ضده، أي أن من ينتقد المسودة هو بالضرورة ضد الدين، حيث يُستغَل
تركيز بعض منتقدي المسودة على المواد المتعلقة بالحريات الفردية، من أجل إشاعة
تهمة "العداء للدين". والحال، أن الأمر يتعلّق بمسودة تتضمن العديد من
الثغرات التي لم تقتصر على الحريات الفردية والمدنية، بل طالت الحريات السياسية،
وشملت رُزمة من القضايا من قبيل: تجريم أشكال من الاضراب،
والتضييق على القضاة والنشطاء السياسيين، وفيها عدمُ تناسبٍ بين العقاب والجريمة
في أكثر من موقع، وقد أشار كاتب السطور لبعض تلك القضايا في المقالات الأربع
السابقة، وأثار غيره قضايا أخرى. فالأمر إذن يتعلق بنقاش عمومي حول مشروع قانون
يمسّ حياة المغاربة وعليهم أن يناقشوه، ولهم أن يعترضوا على بنوده. أما توصيف
الأمر على أنه صراع بين الالحاد والإيمان، فهو لن يخدم العدالة ولن يسهم إلا في
مزيد من التأزم. فقضية الإعدام مثلا، هي محط اختلاف كبير ليس فقط بين الإسلاميين
والعلمانيين، وإنما اختلف ويختلف حولها الكثير من المفكرين والسّاسة، سواء داخل
التيار الاسلامي أو خارجه. فهناك من المفكرين المسلمين من يرفض الإعدام، ويوجد من
العلمانيين من يدافع عنه، وهذا حال المجتمع الامريكي الذي توجد عقوبة الاعدام في
بعض ولاياته، في حين ألغت أغلب الولايات هذه العقوبة.
وما نقوله عن عقوبة الاعدام، نسحبه على باقي القضايا،
لأن الأمر يتعلّق بالترجيح والمفاضلة،
وليس باليقينيات، فتحقيق المصلحة العامة هو المحكّ الحاسم، بصرف النظر عن هوية الحُجج سواء كانت دينية أم مدنية.
وهو المنهج الذي يحكم كاتب هذه السطور سواء في المقالات السابقة أو في هذه المقالة
التي ربما هي الأخيرة في الموضوع، من حيث مناقشة البنود بتفصيل، على أن تعقُبها
مقالات تحليلية لواقع السياسة الجنائية بالمغرب، سيما وأن المسودة مُقبلة على
نقاشات مطولة عندما تحال على البرلمان. وحتى لا نطيل في التقديم، فإن الملاحظات التي
ستكون خاتمة المقالات، ستنصبّ حول واحدة من أهم القضايا التي هي محط نقاش مستمر
ليس في مجتمعنا فحسب، بل في مختلف المجتمعات قديما وحديثا، إضافة من إلى بعض
المقترحات، وبيان ذلك على النحو التالي:
أولا: تُعاقِب المادة 489 بالحبس على
"الشذوذ الجنسي"، وهنا ينبغي التوقّف، ليس عند أصل وجود العقوبة لأن ذلك
سيخلفُ ردود فعل متسرعة، وربما يستدعي الأمر نقاشا مجتمعيا هادئا، لكن ما نود
مناقشته بخصوص هذه المسألة هو ما يتعلق بالمشاكل التي يطرحها تنفيذ العقوبة
الحبسية؛ فإذا كانت إحدى غايات العقوبة تتمثل في التربية ومساعدة
"الجاني" على الاقلاع عن جنوحه، فإن سؤالا يثار حول عقوبة الحبس بالنسبة
للقضايا ذات المنحى الشخصي، فمثلا أين سيقضي المحكوم عليه عقوبته الحبسية؟ هل
يُزجّ به في مؤسسة سجينة تضمّ الرجال أم النساء؟ وما مدى نجاعة عقوبة الحبس في مثل
هذه الحالات؟ أليس معاقبة البعض على هذا التصرف، الذي قد يكون سريا ومحدودا، من شأنه
أن ينتقل إلى المؤسسة السجنية ويذيع بين السجناء وهذا سيسبّب مشاكل كثيرة جدا؟
ثانيا: تعاقِب المادة 490 على أي اتصال
جنسي بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة زوجية، بالحبس بين شهر واحد وثلاثة أشهر
والغرامة. لكن هذا من شأنه التشجيع على العلاقات السرّية غير المنظمة، حيث ستزداد
دُور الدعارة العشوائية وغير المنظمة. وبالتالي كان يمكن الاكتفاء بمعاقبة
الاتّصال الجنسي الذي يقع في الأماكن العمومية أو الشارع العام أو في أماكن مكشوفة
للعموم أو تقع بين شخص بالغ وشخص قاصر أو تتم عن طريق الاكراه. فالعقوبة لا يمكن
أن تَحُدّ من هذه التصرفات، كما لا يمكن التأكد التام من وقوع اتصال جنسي بين
أشخاص يغلقون عليهم أبوابهم، وإلا سيتم التوصّل على ذلك، عبر القرائن التي لا يمكن
أن تعطي دائما أحكاما حقيقية. فضلا على ما يواكبها من عمليات ابتزاز وفساد مالي.
ولذلك فإن الغاية هي منع ظهور العلاقات الجنسية في الأماكن العمومية بهدف إبعادها
عن الرأي العام، أما إذا استترت عن العموم فذلك مجال يتعلق بالحساب الالهي، ولهذا
نص الاسلام على ضرورة درء الحدود بالشبهات، وفي هذا تأتي القصة الشهيرة لعمر ابن
الخطاب حين جلَد ثلاثة شهود أكّدوا على وقوع الزنا ورأوا "المِرود في
المِكحلة" بينما لم يشهد الرابع إلا بمظاهِرِ وقوعها، ومع ذلك جلد الثلاثة
وأطلق سراح الرجل والمرأة المتّهمان بالزنا.
ونفس الشيء يمكن قوله بخصوص الخيانة الزوجية الواردة في المادة 491، فنظرا
لما يُمكن أن يترتّب على سجن أحد الزوجين من تداعيات خاصة إذا كان له أبناء في سن
صغيرة، فإنه يمكن للمشروع أن يكتفي بتخيير الزوج المُشتكِي بين أن يُطلّق الزوج
الخائن دون منحه أية حقوق من قبيل النفقة و الحضانة وبين التنازل على الشكوى
والاستمرار في الحياة الزوجية.
باختصار يمكن القول بخصوص تجريم العلاقات الجنسية، أن
المنع الشامل، وتجريم الاتصال الجنسي بشكل عام، لم يحلّ المشكلة ولن يحلّهاّ بل
سيدفعها لكي تتفاقم، فعندما يُمنَع الناس من ولوج الفنادق (علما بتجدر الاشارة مثلا
إلى أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا هو من ألغى شرط عقد الزواج لولوج
الفنادق بالنسبة لغير المتزوجين)، ويتم اقتحام بيوتهم المحصّنة بالدستور والقانون
والدين، بدعوى ممارسة الزنا، فإن النتيجة هي خروج هذه الممارسات إلى الشارع العام،
وبجانب المدارس والمساجد والحدائق والأزقة الضيقة، وهذا من شأنه أن ينقل ما ينبغي
ستره إلى دائرة الضوء، وآنذاك لن تستطيع سجون المغرب أن تتحمّل التكلفة، ولن يكون
بمقدور أفراد الأمن ملاحقة الجميع.
ثالثا: يمكن أن تقتصر المادة 497
على البغاء الممارس بالقوة على الفتيات من هنّ دون سن الرشد، مع تشديد الإجراءات
القانونية على دور البغاء التي تضم الراشدات، وذلك بإلزامها بمجموعة من المساطر
الضرورية من قبيل: إجراءات السلامة الصحية، التوفر على الرخص، حمل البطائق، تحديد
أماكن لا يمكن الخروج عليها، عدم استدراج المواطنين أو استفزازهم، الاغلاق في
أوقات معينة. وهذا ما يسمى تقنين الدعارة المعمول به في بعض الدول الغربية إضافة
إلى بعض الدول العربية والاسلامية (الدعارة، في تركيا مثلا، قانونية ومنظمة، حيث
ينبغي على النساء العاملات في هذا المجال الحصول على بطاقة خاصة من الحكومة
والخضوع للاشراف الصحي المستمر، كما أن هناك بيوت الدعارة تخضع للاشراف الحكومي، ولا
يمكن أن يسمح بانتشار الدعارة في غير الأماكن المخصصة، فمثلا تم مؤخرا إغلاق 15
دار للدعارة في اسطنبول بتهمة "ترويج ممارسات البغاء لأنفسهن ومناداتِهنّ للزبائن
بشكل غير شرعي، ما أدّى إلى إغلاق أماكن عملهن بشكل مؤقت كعقوبة".. أما
استمرار تغطية الشمس بالغربال، وإنكار الواقع الذي يُظهر أن ممارسة أقدم مهنة في
التاريخ باقية ومستمرة رغم كل العقوبات، فإن ذلك لن يمنع إلا من معالجة الظواهر
المترتّبة عليها، من قبيل اتخاذ الدعارة موردا للاغتناء الفاحش من طرف جهات تملك
رأسمال كبير، دون رقابة مالية من الدولة، إضافة إلى العديد من الأمراض المرتبطة
بالبغاء نظرا لغياب المراقبة الصحية لدور الدعارة وممارِساتها (تُظهر بعض
الاحصائيات أن النسبة الأكبر من الذين يحملون مرض السيدا، ينتمون إلى الفئات
الفقيرة أو غير المتعلّمة، وذلك بسبب انتشار الدعارة الرخيصة، وغير المحمية صحّيا،
وبسبب ضعف التوعية).
لا يعني ما تطرقنا إليه هنا، أن على الدولة تشرّيع
الدعارة، أو تعتبرها أمرا حلالا، بل ينبغي استمرار التوعية بمخاطرها، وعلى المؤسسة
الدينية أن تقوم بدورها في وعظ الناس، وعلى وزارة الصحة أن تقوم بواجبها في
التوعية والمراقبة، وعلى وزارة الداخلية أن تُنفذ القانون وتُضيّق على ممارسة
الدعارة، وتمنعها من الانتشار في مختلف المدن.
أما الرهان على العقاب القانوني، فنظن أنه لم يحقّق أهدافه، ولن يسهم إلا
في مزيد من العشوائية.
رابعا: حتى لا تُستغل المادة 503
المتعلقة بالتحرّش الجنسي، بطريقة غير مرغوب فيها، فإنه من الأفضل حذف الفقرة الثانية
منها، لأن مسألة توجيه الرسائل المكتوبة أو الهاتفية أو الالكترونية أو تسجيلات يُصعّب
التأكّد من الغرض منها؛ هل تدخل في إطار التودّد المشروع أم يراد منها التحرش المرفوض،
كما أنه يسهل تزويرها، أو تحريف مضمونها، فمثلا يمكن أن يَستغِل أحد المتراسلين
رسائل الطرف الآخر التي كان يتبادلها معه عن طيب خاطر، ثم يبتزّه بها من أجل دفعه
إلى تحقيق أهداف معينة، وفي حالة الرفض يمكنه أن يقاضيه بتهمة التحرش الجنسي
بمُوجب الفقرة الثانية من هذه المادة.
مقترحات وأفكار:
خامسا: تُعاقِب المادة 1-232 على أعمال
السخرة وتُعرّفها على أنها جميع الأعمال والخدمات التي تُفرَض قسرا على شخص تحت التهديد
بأي عقاب، والتي لا يكون هذا الشخص قد تطوع لأدائها بمحض اختياره... لكن هذه المادة
لا تتحدّث، مثلا، عن أعمال السخرة التي تَنتُج عن إيهام بعض الموظفين أو الأعوان
بأن القانون يَفرض عليهم خدمة رؤسائهم خارج وظيفتهم الأصلية، وهذا واقع أعمال
السُّخرة التي يقوم بها المتطوّعون في الجيش أو القوات المساعدة وأعوان الادارة
العمومية لصالح رؤسائهم. وهي أعمال تحطّ
من الكرامة، وتجعل الموظف أو المتطوّع في الجيش أو العون يؤدي أعمال السخرة في
بيوت الرؤساء وضيعاتهم وشركاتهم. وبالتالي ينبغي تجريم أي أعمال سخرة تقع خارج
المهام المحددة في القانون (نظرا لضيق المجال، نحيل على مقالنا المنشور بعنوان:
سُخرة المجنّدين).
سادسا: لم تنص المواد التي تنظم
مسألة الرشوة أو استغلال النفوذ، على إلزام المسؤولين الذين يتحصّلون على هدايا
بسبب أداء مهامهم، بإدراج تلك الهدايا ضمن ممتلكات الدولة، لأن الهدية المقدمة قد تُعتبَر
رشوة إذا لم يتم الاعلان عنها، وهذا الأمر يجب أن ينطبق على جميع مسؤولي الدولة، سواء
جاءت الهدايا من جهات داخلية أو خارجية.
سابعا: ينبغي التدقيق في تهمة إهانة موظف عمومي أثناء مزاولة عمله
أو بسبب القيام بها التي تنص عليها المادة 263، حتى لا يتم الخلط بين احتجاج المُرتفِق
على سلوك موظف معين، أو تعبيره عن امتعاضه من تماطله وتباطئه، وبين الاهانة التي
تضرّ بجميع المواطنين سواء كانوا موظّفين عموميين أو غير ذلك. ونفس الأمر ينطبق على
إهانة الهيئات المنظّمة التي تنص عليها المادة 265.
ثامنا: من الأفضل إضافة كلمة "عمدا"
إلى المادة 1-267، كيلا يتم الخلط بين تَعمُّد إهانة العَلَم الوطني وبين حدوث ذلك
عن غير قصد أو عن جهل، كأن يحرق مثلا مواطن يشعر بالبرد عَلَمًا من أجل التدفئة، أو
تَستَعمل امرأة العلم من أجل حمل أغراضها، أو يُستعمَل ثوب العلم الذي لم يعد صالحا
كوسيلة لتنظيف الأرضيات أو السيارات أو ما شبه، ونفس الشيء بالنسبة للنشيد الوطني،
حيث يمكن ألاّ يكون هناك تعمد لإهانته، كأن يتغنى به الشباب بطرق معينة، أو يتم
تحوير كلماته من أجل التعبير عن شيء ما، دون أن يرتبط ذلك بالاهانة، بل قد يكون
الدافع عكس ذلك تماما.
تاسعا: رغم النقاش الذي واكب الاعلان
عن منع بطائق ما يسمى "الشرفاء" التي تُميز بين المواطنين، وتدعو إلى
العناية بحاملي بطاقة "الشرفاء"، إلا أن المشروع خال من أي عقوبة في هذا
المجال، فالمواد التي تتحدث عن التمييز والكراهية لم تشر إلى هذا الموضوع.
عاشرا: ينبغي في إطار الحفاظ على
سلامة الناشئة من الامتهان، إحداث مادة تعاقب على إنجاب الأطفال بغاية بيعهم أو
التكسّب بهم عن طريق التسوّل أو المتاجرة بهم في سوق الدعارة أو البيدوفيليا، وذلك
إذا ما ثبت مثلا بأن القدرات المادية للزوجين لا تسمح بإنجاب عدد كبير من الأطفال.
فترك الحرية للإنجاب من شأنه أن يساهم في تكثير أطفال الشوارع والمتخلى عنهم. كما
يُستحسن النص على عقوبة الاخصاء القانوني بالنسبة للذين ثبتت عنهم حالات العود
بخصوص جرائم الاغتصاب وهتك العرض أو أثبت الطب أنهم يشكلون خطرا على المجتمع إذا
ما تُركوا على حالتهم المرضية.
على سبيل الختم، وبما أن العنوان قد تَضمّن السؤال
حول ما إذا كان تجريم بعض الأعمال حلاُّ أم مشكلة، فإن استحضار بعد التجارب
المقارنة قد يفيد في
التذكير بأن هذه القضايا ليست خاصّية إسلامية أو أنها حكر على المجتمعات العربية
والاسلامية، وإنما يمكن القول بأنها حالة عاشتها ولازالت تعيشها العديد من المجتمعات
القديمة والمعاصرة سواء كانت متدينة أو غير متدينة. لقد تصارعت الطوائف الدينية
المسيحية كثيرا حول هذه القضايا، وانقسمت المجتمعات على نفسها بين المدافعين عن
التدخل والمناهضين له، كما أن العديد من القضايا التي كانت تبدو، إلى وقت قريب،
على أنها انتهاك لحرمة المجتمع أضحت اليوم محط احترام وتَسامح، سواء حصل ذلك عبر
التنصيص القانوني أو من خلال تطور المستوى المعرفي للمجتمعات ودرجة انتفاخها أو
تسامحها. إذ يتعلق الأمر بإشكالية التوفيق
بين تطبيق النصوص القانونية التي تُعنى ببعض القضايا الأخلاقية، وبين احترام حقوق
الانسان، أي كيف يمكن للتشريعات أن تَجمع بين مبدأ عدم التدخّل وبين واجب حماية
المجتمع من بعض الآفات أو بعض ما هو غير سائد، من قبيل منع شرب الخمر، أو المعاقبة
على المثلية الجنسية أو منع العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، أو مكافحة القمار
والمخدرات، أو قضايا الاجهاض والموت الرحيم...إلخ.
نستعين، من أجل فهم هذه القضية،
بقراءة أحد أهم دراسي القانون وعلاقة بالأخلاق والدين، إذ يرى دينيس لويد صاحب
كتاب "فكرة القانون"، أنه في ما يخص العلاقة
المفترضة بين القانون والأخلاق، فإن الأمر يتضمن العديد من المفارقات على الرغم من
انطلاقهما من مبدأ متشابه، فمثلا قد يعاقِب القانون على الفساد الجنسي في بعض الأحيان،
لكنه يَمتنِع عن المساس بالنتائج الشرعية لبعض أشكال الفساد الخلقي كالبغاء. وفي
المقابل فإن ما تفرضه الأخلاق قد لا يُرتّب جزاءات قانونية بالضرورة (رعاية الأب
لأطفاله مثلا)، أما أسباب هذا التعارض فهي متعددة ومختلفة بنظر لويد، ففي حالات كثيرة
لا يكون السلوك الخلقي الأسمى متجسدا بما فيه الكفاية في الشعور العام بحيث يُنتِج
عملا شرعيا يتّفق ويتلاءم معه. وقد يعكس القانون قواعد أخلاقية عامة وإن كان يتم إخضاع
هذه الأخيرة ببطء لأسلوب أكثر صفاء وإنسانية. من الأمثلة الذي يَسُوقها الكاتب
لمناقشة كيف أن القانون يمتنع أحيانا عن التدخل في بعض الأمور الأخلاقية تحسبا من
أن ينجم عن هذا التدخل نتائج أخطر من تلك التي جاء القانون لمعالجتها؛ مسألة تجريم
السُّكر في بعض ولايات الاتحاد الأمريكي التي منعت شُرب الخمر لكن النتائج كانت
عكسية (كان هذا المنع موجودا في زمن الكاتب لكنه اليوم لم يعد واردا، كما أن تجريم
المثلية الجنسية في الولايات المتحدة الأمريكية لم يعد موجودا منذ سنة 1957، بعد أن
برهنت لجنة "ولفندن" على أن نَصّ التجريم يصعبُ تطبيقه، وإذا ما تم تطبيقه
فإن من المحتمل أن يَضرّ أكثر ممّا ينفع، إذ قد يٌشجّع على شرور أخرى كالابتزاز).
في
هذا المضمار نقرأ لجون راولز وهو الذي نشأ في بيئة غربية ليبرالية عَرفت منذ عقود
نقاشات حول العديد من المسائل الأخلاقية؛ هذا النص الذي يُبين السّبل التي ساعدت
المجتمع الغربي على تحقيق قدر من الانسجام والتسامح، يقول: عندما نبحث ما إذا كنا
نعتبر العلاقات الجنسية المثلية بين المواطنين جريمة يعاقب عليها القانون، ليس
المسألة ما يذهب إليه فكر فلسفي غير ديني بأن خير الانسانية يستدعي تحريم تلك
العلاقات، وليس ما إذا كان أصحاب الايمان الديني يعتبرون تلك العلاقات خطيئة، ولكن
المسألة في المقام الأول هي ما إذا كانت القوانين التشريعية التي تحرم تلك
العلاقات تنتهك الحقوق المدنية لمواطنين ديمقراطيين ومتساويين وأحرار. هذه المسألة
تتطلب تصورا سياسيا معقولا عن العدالة يحدد تلك الحقوق المدنية، وهذه أساسا مسألة
دستورية". الواضح هنا، أن المسألة مرتبطة بشكل وثيق بالتطور السياسي الذي
حققته المجتمعات، سواء كان تطورا انسيابيا نتج عن حركة وعي متواصلة، أو نتج عن حل
إجرائي فرضته ظروف الاحتراب والاختلاف، ورام من خلاله المختلفون تبني فكرة التسامح
على مضض في أفق تمكّن أحد الأطراف من الحصول على القوة التي تحقق له فرض تصوراته.
لكن الرابح من هذا التحول كان هو المجتمع الذي استطاع أني يُوقِف حروبه، ويجنح
للأساليب السلمية التي توصل إليها العقل الانساني، في ظل الاحترام المتبادل وسيادة
مبدأ التفاهم، والرغبة في العيش المشترك.
يمكن الخٌلوص إلى أنه على القانون ألاّ يتدخل
في الأمور المتعلقة بالسلوك الأخلاقي الخاص أكثر ممّا هو لازم للحفاظ على النظام العام،
بعبارة أخرى: هناك منطقة أخلاقية من الأفضل أن تُترَك لضمير الفرد، وعلى القانون أن يعتني بالسلوك الخارجي
لا بالحالة الداخلية للتطور الروحي للمواطن الذي يخضع للقانون، فإذا
كان المجتمع يحتاج للدين من أجل تربية روحه والارتقاء بها خُلقيا وقيميا، فإن
القانون ينبغي أن ينصبّ على البناء الخارجي للإنسان، أي فيما له صلة بالعلاقات
الأفقية بين الانسان والانسان، وليس لِما له صلة بالعلاقة العمودية بين الإنسان
والله. فلو أراد الله معاقة الناس دُنيويًّا لما أجّل العقاب الأخروي، ولمَا أرسل
الأنبياء مبشرين ومنذرين، ولما احتاج للإنسان كي ينوب عنه في إنزال العقاب بالناس،
فلوا أراد العقاب المباشر الفوري لما كانت هناك حاجة للتوبة، [ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة]، كما جاء في القرآن.