حوار مع الشاعر والناقد التشكيلي المغربي بـوجمعة
العـوفـي
حاورته : جميلة حماموش
1 ــ قبل الانتقال إلى قضايا وإشكالات النقد
الفني في المغرب، وأسباب نُدرته أو شبه غيابه في مواكبة الممارسة التشكيلية المغربية،
لنمهد لذلك بسؤال الهوية لهذه الممارسة الإبداعية : ما ذا يمكن القول عن هاته الهوية
؟
سؤال الهوية ــ سواء في الفن أو في غيره ــ هو سؤال فكري صرف، نسقي،
" إيديولوجي " بهذا المعنى أو ذاك، وأفق الهوية، أيضا في التجربة التشكيلية
المغربية، بأسئلته المتراوحة بين التأصيل وبين التحديث، بين الإبقاء على " مجموع
السمات النفسية والثقافية والاجتماعية والحضارية " للمجتمع المغربي وبين إلغائها،
أو تبديلها بسمات أخرى ( حداثة الغرب وأدواته وأساليبه الفنية ) ــ على سبيل المثال
ــ قد أصبح من دون مَخرج. ومن ثَم، يكون لكل حديث عن الهوية أن يختار منهجه ومرجعيته
المفهوماتية التي منها سينطلق، وذلك لإخضاع الممارسة الفنية إلى المساءلة والتفكيك.
وخصوصا ضمن مواجهة سؤال الهوية بقلق الحداثة، هي التي أصبحت سمة طاغية للعصر في الفكر
والأدب والفن، وواقعا مكتسحا لكل التصورات والإنجازات.
إن المسلك الذي ببدو متاحا هنا، لمناوشة هذا الموضوع، راهنا، على الأقل،
هو المنحى التركيبي الذي يقرأ إشكالية الهوية والاختلاف في التشكيل المغربي، ضمن أفق
تركيبي محض، بأسئلة من كل الحقول المعرفية والمقاربات، لنكون قد حاولنا الاقتراب ــ
على الأقل ــ من جسد الفن التشكيلي المغربي، هو الجسد الذي يمُور بشتى أنواع الجمالات
والثقوب والبياضات والغيابات كذلك، ثم بالألوان التي نضجتْ أو يُنتظر أن تنضُج أكثر
في ظل الممارسة والتصورات، هي المشمولة أيضا بالقليل من أشكال التواصل والتجاور، والكثير
من القطائع التي لا حد لها بين : سواء بين الفنانين أنفسهم، أو بين تجربة الإبداع وتجربة
القراءة والنقد.
أما خطاب الهوية والخصوصية في الفن، كما يبدو، هو خطاب شائك، متبرم وفضفاض،
قد ينطوي على العديد من المنزلقات والأصوليات كذلك، قد لا يمكِن تقعيده أو تجديده إلا
من داخل التجربة الفنية نفسِها، وضمن الخصوصيات العميقة وظروف الإنتاج لهذا الفن ولمسألة
الانتماء، سواء كان هذا الانتماء عقائديا أو إثنيا أو جغرافيا أو جماليا، يستمد رؤاه
الإبداعية وأدوات الممارسة ولغة المرسوم من ثقافة هاته المرجعيات وأفكارها وجذورها
البعيدة. لذلك، قد يبدو هذا الحديث عن هوية التشكيل المغربي كذلك تأصيليا، بَلْ موغلا
في الثنائيات والعموميات والارتهانات التي تظل دائما قائمة في وعي المبدعين وأعمالهم،
أو حتى في لاوعيهم أيضا. إن الإبداع الفني في الوطن العربي وفي المغرب خصوصا يبقى مرهونا
في تشكله كما في قراءته بسطوة هاته التجاذبات ؟ بثنائية التقليد والتجديد ؟ بتقنية
الترسيخ أو المحو ؟ من هنا، تبرز هذه القَدَرية الجارحة التي تَنبُت دائما من غبش المرجعيات
أو من غروبها " المُحتمَل ".
ثم إن أي حديث عن الهوية والإبداع، في هذا المضمار، قد يسعى بالضرورة
إلى تحديد المنشأ وشكل الممارسة ومنظورها الجمالي والفكري، لابد وأن يحدد أولا بعض
أبعاد هذه الهوية وسِماتها، هل هي هوية قومية ( عربية )، قارية ( إفريقية )، وطنية
( مغربية ) بالأساس ؟ أم كونية، تستوعب وتنخرط
في مختلف التحولات الجمالية والمعرفية التي يشهدها العالم الآن ؟ وبالتالي، هل تعني الهوية في الفن ــ بالضرورة ــ
تأصيل التجربة التشكيلية المغربية وتخليصها من إرثها الخاص ؟ من مؤثراتها الخارجية
( الغربية على الخصوص ؟ ) ماذا تعني مسألة الانتماء في الفن ؟ ثم إلى أي حد يمكن الحديث
عن نجاح أو فشل محاولات التحديث أو التأصيل التي قادها، وما زال يدعو إليها العديد
من الفنانين التشكيليين المغاربة ؟ كيف يمكن أن ندعو إلى الاختلاف والمغايرة في نفس
الوقت ؟ إلى تجذير خطاب الهوية في ممارسة فنية بأدوات ليست لها، خارجة عن سياقها أو
نسقها الثقافي والمعرفي ؟ هل تخالف الهوية
منطلق الاختلاف ؟ هل تمت الإجابة فعلا، عبر الممارسة التشكيلية الوطنية وتفاعلاتها
اللونية والنظرية، على هذا السؤال وغيره من الأسئلة المعلقة ؟ هل تُناقِض هويتُنا الاختلاف
؟ وهل يوصلنا هذا الاختلاف حتما، إذا ما تملكنا وجهه المتعدد، إلى حداثة فاعلة ؟ تحرس
في نفس الوقت أشباهنا على طرف الذاكرة الخاصة، وتُوَكِّدُنا في ذاكرة الغير ؟ تضمن
ــ بالأحرى ــ عبورَنا إلى هوية الآخر وثقافته ؟..
هذه ــ في نظرنا المتواضع ــ هي بعض الأسئلة الكبرى لهوية ومسار التشكيل
المغربي. والتبادلات حاصلة بالفعل في عمق هاته
التجربة، وعلى أكثر من مستوى : الثقافي والإثني بالخصوص. ونحن ــ في المغرب ــ لا نستطيع
الآن ضبط محددات خالصة لهوية تجربتنا التشكيلية، بل لهوياتها، دون الاصطدام بعناصر
خارجة عن ثقافتنا، عن تركيبتها الإثنية وأشكال إنتاجها الثقافي والإنساني. تتمازج في
جوفها عناصر عدة، منها : العربي والإسلامي والإفريقي والأمازيغي وغيره من باقي الثقافات..
نحن موجودون إذا في كل مكان، لكن هل بخصائصنا الخالصة أم باختلاف صاغه الغرب فقط بطريقته
أو أدمجه بوعي منه ضمن ثقافته ليحمي جزءا من تاريخه المهدد بفعل التلاقحات ؟ تلك أمور
متداخلة بالفعل، وخصوصا أسئلة الاختلاف في هوية التشكيل المغربي : فهي شائكة وملحة،
في الإبداع كما في النقد : تبدأ من تحديد المفهوم أساسا : أي اختلاف
تنشده التجارب القائمة والقادمة ؟ اختلاف مع من ؟ اختلاف في ماذا ؟ بماذا ؟ مع ماذا
؟ مع ثقافة المرجع والأصل وخصائص الانتماء أم في الرؤية والخطاب والأساليب والأدوات
؟ اختلاف مع الذات المهدَّدة في جوهرها، في ثقافتها الذوقية وفي الرصيد الحضاري الذي
ما فتئتْ تراكمه على مدى قرون من الزمن، أم اختلاف مع الآخر ( المستهلِك أيضا ) والذي
ليس بالضرورة هو الأجنبي، ويمكن أن يكون " نحن" ؟
وحتى صيغ " التمازج الثقافي
" أو " الاستقطاب الثقافي " التي انشغلتْ بها أو اشتغلتْ عليها العديد
من التجارب والنماذج التشكيلية المغربية الواعية
: ( " الشرقاوي "، " المليحي "، " القاسمي "
..) على سبيل المثال لا الحصر، وإن استطاعت بشكل أو بآخر أن تتمثل حداثتها بشكل مثير،
ولم تقع في " مصيدة نموذج الشمولية المطلقة " أو الحداثة السطحية : هل استطاعت
هذه الصيغ من خلال نماذجها أن تجسد كل الأسئلة التي فرضَتْها وراكمَتْها الحداثة وما
بعدها أيضا ؟ مع أن هذه النماذج أتت محكومة في الغالب بسؤال الإشارية والتجريد، الذي
ليس هو، قطعا، غواية وتذوق الجمهور المغربي العريض.
مع كل ذلك، ينبغي الإقرار بأن التشكيليين المغاربة ليسوا كلهم على مقربة
كافية من كل هاته الأسئلة، ولو أن كل نشاط إنساني كيف ما كان نوعه ودرجة الوعي الــثاوية
فيه، تحـكمه أسئلة ظاهرة ومضْمَرة، بما في ذلك لحظة الحياة البسيطة نفسها، لكن القليل
من يسأل دائما ــ سواء كانوا فنانين أو غير فنانين ـــ: هل الحاضر مختلف بالفعل ؟
2 ــ تتميز حركة الفن التشكيلي بالمغرب بالغزارة، إلا أنها تفتقد إلى المتابعة
النقدية. أين يكمن سبب هذا الفتور النقدي وشح المتابعة النقدية في نظركم ؟
ليس ثمة من شك في أن التشكيل المغربي، والمقصود هنا تحديدا : شقه الصباغي،
ممارسة قائمة، متواجدة في الزمان وفي المكان، في التاريخ الذي يحتوي تأسيسها، ملامحها
الأولى وروادها الأساسيين وحاضرها الذي يربط بشكل أو بآخر، ضمن ثنائية الانعكاس والمغايرة،
مع مُنجَزها السابق، هو الذي يشكل في نفس الآن، مستقبلها المفتوح على المزيد من الإنجازات.
ولقد حققت التجربة التشكيلية المغربية تراكمات أساسية على مستوى الحضور في المكان كذلك،
سواء داخل الجغرافيات التي أنتجتْها أو خارجها، بالرغم من المساحات الضيقة المخصصة
لهذا الفن، في الداخل بالأساس، سواء في ما يتعلق بعلاقة الجمهور الواسع بالعمل الفني
أو بأروقة العرض، تضمن وصوله إلى مستهلكه بالزخم المطلوب، بالظروف اللائقة والضامنة
لكرامته ولأبعاده الجمالية والتعبيرية.
أما فيما يخص المتابعة النقدية لهاته التجربة الفنية، فيمكن بالفعل الوصول
ــ مع الأسف ــ إلى هذه الخلاصة أو هذا الاستنتاج : عدم مسايرة النقد الفني في المغرب
كميا ونوعيا للتراكم الذي حققته التجربة التشكيلية المغربية في الممارسة والإبداع. ويأخذ هذا الاستنتاج أهميته القصوى ــ في نظرنا
على الأقل ــ من حيث أن النقاش المصاحب للممارسة
التشكيلية بالمغرب ما زال في بدايته، ولم ينفتح بَعدُ بالعمق الضروري على كل
مكونات وظروف وغايات ومرجعيات هذه الممارسة، لم يتأسس النقاش الضروري بَعدُ على المستوى
النظري بالتنوع والزخم اللذين يعرفهما الإنتاج التشكيلي على امتداد خرائط الإبداع وبؤرها
السرية التي لم تُكتَشَفْ بَعدُ ولم تنَلْ حظها المعقول من الظهور والانتشار، إلا إذا
استثنينا بعض الكتابات التاريخية أو التقعيدية القليلة المرتبطة بمنحى القراءة والنقد،
ومنها ما هو جاد ومفيد فعلا. وقد لا يتسع المجال هنا لسرد نماذج من هاته الكتابات،
ثم إن هاته الكتابات التاريخية أو النقدية غالبا ما كانت تثير على نفسها بعض المآخذ
الجزئية، إما بسبب صعوبة المهمة أو بسبب اشتغالها على تجارب تشكيلية مكرسة دون أخرى،
لضرورة يفرضها الحضور القوي لهاته التجارب في السوق أو بسبب قناعة فنية معينة لدى المؤرخ
أو الناقد.
التباعد حاصل من دون شك في التجربة التشكيلية المغربية بين الإبداع والنقد،
لكن ماذا استطاعت حتى القراءات النقدية المتوفرة الآن ــ وعلى قِلَّتِها ونُدْرَتِها
ــ للفن التشكيلي المغربي فِعْلَه لحد الآن من أجل أن يقترب التشكيليون من بعضهم أولا،
ثم لكي يصل الناس ــ من خلال القراءة والنقد المصاحب ــ إلى هذه المتعة " القزحية المعلقة في السماء " ؟ لا أريد
حقيقة أن أدفع هذا النقاش باتجاه تَصدُّع آخر يجرح غاية هذا الحوار ووِجْهته، رغم أن
الراهن، ما يزال بكل تداعياته وتجلياته : راهنا للتصدعات بامتياز. لنكن أكثر تفاؤلا
وأكثر رأفة بغوايتنا الجميلة ولندفع كذلك بحديثنا، بعلاقاتنا وانشغالاتنا إلى المزيد
من المساءلة والحوار. لِنُقِمْ على مقربة من ملامح هاته التجربة الجمالية الحاضرة ـ
الغائبة في تذوقنا، في تصورنا وفي ما يمكن أن نؤثث به يوميا حياتنا الثقافية كذلك.
من ثَم، نعود دائما لى نفس الأسئلة : كيف يترسخ
إذا كل هذا الفراغ بين اللون وبين العين التي ينبغي أن تقرأه، أو ــ بالأحرى ــ تخاف
هذا اللون أو تتحاشاه ؟ بين الجمال والمجتمع على وجه التحديد ؟ كيف يتأسس هذا البياض
القاتم بين ذائقة الفرد ومشاهداته ؟ هل تكون اللوحة قد أخطأت حقا طريقها إلى عيون الناس
وفضائهم الحيوي ؟ مِن أين تأتي هاته التجارب المُجهِدة لتظل غريبة، بعيدة عن عشقنا
أو حتى عن صوتها الداخلي ؟
الأجوبة جاهزة ومُدرَكة سلفا، عالقة ومقلقة أيضا، لكن المساحة تحتاج إلى
المزيد من المسح، والقُماشة يتوسطها الكثير من الذهول. إن المسافة أيضا بين اللوحة
وحاملها الخشبي، كما بين الرؤية والكتابة واللون : شاهقة وباردة، تتقاسمها الخلوة والجفاء،
وحاجة مُلحة لدى الفنان في أن يعيش، في أن يتخلص من إرثه " الثقيل " أو يعيد
تدوينه، ترسيمه بذاكرة أخرى، بعين طليقة أو بأدوات لم تعهدها من قبْل ثقافته
" المحافظة ". يحتاج الفنان فقط في قمة هذا التباعد إلى شيء من الاعتراف،
إلى انتزاع المكانة الجديرة به، داخل مجتمع ما زال يدير ظهره كاملا للجمال وللجزء الملون
من ذاكرته.
3 ــ ما سبب غياب نقد أكاديمي مغربي متخصص أو خطاب نظري – جمالي رصين يعالج
قضايا وأسئلة الفن التشكيلي في المغرب ؟
هذه معضلة أخرى، تنضاف إلى باقي قضايا وحاجات مجال الفن المغربي : حاجته
الملحة إلى خطاب نظري وجمالي رصين، أكاديمي، وبأبعاد منهجية وعلمية بشكل عام، سواء
من داخل المؤسسة الجامعية المغربية أو من خارجها. خصوصا في ظل أسئلة التراكم والأفق
والتجريب لهاته الممارسة الملونة الغنية، وأسئلتها المُلِحة والمتعالقة. إذ تكون وظيفة
النقد الأكاديمي ــ هنا ــ متجاوزة لخطاب التحسيس الذي يمكن أن تمارسه بشكل عفوي وعاشق
أحيانا بعض القراءات أو الانطباعات التي يمكن أن يقوم بها أدباء أو نقاد ( سواء من
داخل حقل النقد الفني أو من خارجه ) إلى مرحلة التأسيس. أي القراءة المبنية عل مشروع
تصنيفي وتأريخي وتأويلي كبير للتجربة التشكيلية المغربية : سواء ضمن شعب ومواد يمكن
إحداثها داخل الجامعات المغربية، أو من خلال توجيه الطلبة نحو إنجاز بحوث جامعية حول
التجربة التشكيلية المغربية، على مستوى أسلاك الإجازة والماستر والدكتوراه. على اعتبار
أن تجربة النقد الفني المغربي ــ في شكله ونوعه وحجمه ــ لم يصنف ولم يؤرخ ولم يؤول
بعْدُ بما فيه الكفاية التجربة التشكيلية المغربية، مقارنة مع زخمها وحجمها وتراكمها
الحالي والمتزايد باستمرار. ومن ثم، يكون ممكنا ــ في هذا الإطار ــ الكشف عن الكثير
من ملامح وأبعاد وأشكال وخصوصيات ودلالات هذه التجربة، ومخزونَها الثقافي ومُدَّخَرَها
الحضاري والجمالي في آخر المطاف.
ما معنى هذا الكلام ؟ وما المقصود أساسا بمشروع أكاديمي قرائي ـ تأويلي
خاص بالتجربة التشكيلية المغربية ؟ يقرأها ويأولها ضمن معرفة تاريخية وجمالية غير بعيدة
عن السياق الذي أُنتِجَتْ فيه ؟ إنها أسئلة الأفق من دون شك، أفق التجربة التشكيلية
المغربية بسنديها الإبداعي والنظري، ومشروع القراءة أو التأويل هنا لا يعني بالضرورة
تفسير التجربة الفنية تفسيرا تاريخيا أو نفسيا أو اجتماعيا بالأساس، رغم أن عوامل النفس
والاجتماع والتاريخ، سواء كان هذا التاريخ عاما، جماعيا أو شخصيا، هي ما يحرك دوافع
الإبداع الإنساني ويحرض عليه في الزمان وفي المكان، ويمنحه بالتالي تحققه أو عدمه في
الأفق الذي ينتسب إليه.
إن المشروع ــ هنا ــ هو حاجة هذه التجربة الفنية إلى القراءة أو التأويل
أو التفسير الجمالي كذلك، هي القراءة التي لا يكون رهانها متمثلا في المساعدة على فهم
التجربة الفنية فقط، بل في إمداد هذه التجربة وتزويدها، وخصوصا في نماذجها الواعية،
بالرؤية والنص الجماليين، هما اللذان يخصبان الممارسة ويفتحانها على المزيد من الأسئلة
والحركة والبحث. إن النص الجمالي texte esthétique الذي تنتجه المشاريع
القرائية والتأويلية والتدوينية القائمة على معرفة جمالية واسعة وأساسية، هو بمثابة
رافعة كبرى للتجربة الجمالية لإنجازها ولمشروعها الحضاري، تدعمه وتقويه، وتضعه بالتالي
على عتبة الإبداع الواعي والمترسِّخ والمضيء. ثم إن النص الجمالي هو بحث في الرؤية
والأسلوب وتوصيف للاشتغال الفني. وهو الأفق الذي طالما أدركتْه أو اقتربتْ منه، على
الأقل، بعض التجارب التشكيلية - الإبداعية والقرائية الواعية في المغرب، إذ تمكنتْ
من خلال الممارسة والبحث الجماليين، من خلق نصها الجمالي الخاص أو ــ بالأحرى ــ أفقها
التعبيري والتأويلي الشخصي بالكثير من الجهد والتأمل والقلق.
هل آن الأوان كذلك ــ بالنظر إلى التراكم الكمي والنوعي الذي حققته التجربة
التشكيلية المغربية، وبالرغم من حداثتها في الزمن ـــ للحديث عن إمكانية، بل ضرورة
تأسيس أفق نظري - معرفي للقراءة التشكيلية والجمالية بالمغرب بصفة عامة، ليتحقق ــ
بالتالي ــ لهذا المُنجَز الفني وتجاربه المتعددة نوع من التقعيد المعرفي والقرائي،
بالإضافة إلى نوع من التكامل بين الشق النظري في المعرفة الجمالية والشق الإبداعي أساسا
في هذه التجربة ؟
4 ــ كيف ساهمتْ وتساهم الحركة النقدية في بناء حركة تشكيلية مغربية والتعريف
بها على أوسع نطاق، وما الذي يغيب ــ في نظركم ــ داخل هاته العلاقة بين الفنانين والنقاد
؟
لقد حققت التجربة التشكيلية المغربية ــ كما سبقت
الإشارة إلى ذلك في بداية هذا الحوار ــ تراكمات أساسية ونوعية على مستوى الحضور في
المكان والزمان كذلك، سواء داخل الجغرافيات التي أنتجتها أو خارجها، بالرغم من حداثة
عمرها الذي، يكاد يجمع جل نقاد الفن ومؤرخيه على أنه، قد لا يتجاوز" الستة عقود
" في أبعد تقديراته.
وبالرغم من قصور وعدم كفاية الاعتراف الكوني بهذه
الممارسة الملونة في الإبداع المغربي، هذا الاعتراف الذي لم يستطع في مجمله أن يتجاوز
النظرة الاستشراقية والغرائبية وزاوية النظر '' الأنثروبولوجية '' التي ينظر من خلالها
الغرب عموما للفن التشكيلي المغربي. بدليل ولوج اسم الرسامة الفطرية " الشعيبية
" إلى بعض قواميس وكتب الفن العالمي، دون غيـره من أسماء العديد من الفنانين التشكيليين
المغاربة، من ذوى التكوين الفني الأكاديمي الرفيع والتجارب الواعية والمؤسسة لملامح
التجربة التشكيلية المـغربية ( وخصوصا في نطاق حقل التجريد ). إذ ما زالت مسألة التكريس
الكوني للتشكيليين العرب عموما، وضمنهم التشكيليون المغاربة، لم تتأكد بعد بالشكل وبالحجم
المطلوبين، باستثناء بعض الأسماء القليلة التي أصبحت، بالرغم من ذلك، تحظى بحضور عالمي
نوعي.
وقد تحققت أيضا، في الرحم أو الأفق الملون للتشكيل المغربي، العديد من
التراكمات والإنجازات، بالرغم من المساحات الضيقة المخصصة عندنا في المغرب لهذا الفن، سواء فيما يخص علاقة الجمهور الواسع بالعمل الفني،
ضمن مسائل وإشكالات قيمة الفن ووظيفته في المجتمع، أو ما تعلق بحياة فنية ديناميكية
يمكن أن تشكلها مجموع الشروط والظروف الضرورية لقيام مثل هذه الحياة، كضرورة توفر قاعات
العرض، وسوق فنية منظمة، وتذوق الجمهور للفن وإقباله على استهلاك الأعمال الفنية ومشاهدتها،
وتنظيم المعارض والبيينالات biennaux( معارض السنتين ) والتظاهرات الفنية والفكرية الكفيلة بمساعدة الجمهور
على فهم الفن وتذوقه. ثم مساعدة الفنانين وتجاربهم كذلك على الاستمرارية والتطور..
هذه الشروط والظروف التي يكون بوسعها أيضا ــ لو توافرت أو تحققت بالمستوى المطلوب
ــ أن تضمن وصول هذا الفن إلى مستهلكه بالزخم المطلوب، ثم بالطرق والوسائل اللائقة
أو الضامنة ــ بالأخرى ــ لكرامته ولأبعاده الجمالية والتعبيرية.
ولسنا بحاجة، هنا، إلى إعادة التأكيد كذلك على ضرورة وجود نقد فني مصاحب
لكل ممارسة إبداعية في الحقل التشكيلي، وبما لهذا الجهاز النظري من بالغ الأهمية في
تطور الرؤى والممارسة الفنية والتعريف بها والمساعدة على فهمها وتأويلها، وجعل مدلولاتها
ومضامينها الجمالية تصل إلى الجمهور كذلك. هذه القراءة التي لم تتحقق أيضا بعد بحجم
وتنوع التراكم الحاصل في المنجز الإبداعي للتشكيل المغربي. إذ يكون نقد الفن ــ هنا
ــ ليس كقراءة نظرية مشتملة على المعرفة الجمالية والتقنية للفن التشكيلي فحسب، بل
كنشاط فكرى ينبغي أن تؤسس له التجربة الإبداعية نفسها والحياة الفنية ككل داخل محيط
الممارسة الملونة للتشكيل المغربي. هذه الممارسة التي كيفما كان نوعها أو تمظهرها الفني
( لوحة أم نحتا أم تنصيبا installation ) فهي تظل في أمس الحاجة ــ كي تصل مدلولاتها إلى المتلقي ــ إلى النقد،
باعتباره '' قناة تواصلية '' تعمل، ليس فقط على تقريب مضامين الأعمال الفنية من الجمهور،
إذ قد لا تكون أحيانا للعديد من الأعمال الفنية مضامين إيديولوجية أو فكرية، بل على
تقديم وترسيخ المضامين الجمالية لهذه الأعمال وتعبيراتها بشكل أساس. خصوصا عندما تكون
هذه الأعمال تنتمي في خطابها وصياغتها الفنية لسياقات التجريد وإيحاءات الأشكال والتعبير
اللوني ووضع المادة وشكلها وطبيعتها داخل مساحة العمل الفني. أو حين تكون الأعمال الفنية
تستمد أيضا لغتها الجمالية وقوتها التعبيرية من آفاق " التجديد والتحديث
" الفني.
إن مثل هذه القناة ضروري كذلك، لكونها تؤكد أولا هذا الاهتمام المتنامي
في الخطاب الثقافي المغربي بهموم ذاكرة بصرية تشتغل في صمت أو في " عزلة
" يشوبها الكثير من اللبس والاختلافات في تقييم الممارسة وتحليلها، لكون القيمة
الحضارية والفكرية لهذا الفن لم تتأكد بعد بالحجم المطلوب في المستهلك الثقافي الوطني
وفى بنياته وقنواته المكونة أو المنتجة لحاجياته الأساسية من جهة، ثم لأن هذا الفن
لم يحصل بعد على اعترافه الاجتماعي الواسع وعلى مرتبة أو صفة الحاجة الأساسية في المجتمع،
كغيره من أشكال المغذيات الرمزية ذات المنفعة الخاصة والعامة، من جهة ثانية.
أما ما هو غائب في هذه العلاقة بين جميع الفاعلين في التجربة التشكيلية
المغربية، فيمكن إيجازه في هذا التباعد الحاصل أو في حوار متعذر وغير مسموع ــ على
الأقل ــ بين التشكيليين المغاربة أنفسهم من جهة، وبين تجاربهم والنقاد من جهة ثانية.
هو الحوار الذي يكون بوسعه ــ لو حصل وتَعمَّق ــ أن يحفر عمقه النوعي كذلك تدريجيا
في ممكن هذا الفن وأسئلته القادمة، في إمكاناته الإبداعية التي تؤشر أكثر من أي وقت
مضى لصعود تجارب ضوئية ـ لونية هامة من منطقة الظل. وهذا وحده أفق حقيقي وأساسي ينبغي
تحقيقه والوصول إليه، عبر المزيد من التواشجات والتقاطعات، وبالمزيد من التباعدات الخلاقة
كذلك، حتى لا تتطابق ألواننا وأدواتنا ونسقط في ظل الشبيه الذي قد نصنعه من نفس القماشة
ومن نفس الصوت.
5 ــ تقودنا هاته القضايا المرتبطة بالفن التشكيلي عموما، إلى مسائل أخرى
من قبيل : طبيعة قراءة العمل الفني وتذوقه وتلقيه، سواء من قبل الناقد - القارئ أو
المتلقي بشكل عام. أين يمكن رصد بعض خصوصيات هذه القراءة وسياقات التلقي لتجربة الفن
التشكيلي المغربي ؟
إن تطور أي فن من الفنون، داخل أي ثقافة أو أي حضارة أصبحت تعي، بشكل
أو بآخر، قيمة ووظيفة أشكال تعبيرها الفني، لا بد وأن يفرز ضمن هذا الوعي قيمة أساسية
أخرى ينبني عليها كذلك فهم وترسيخ أبعاد هذه التعبيرات الفنية ومدلولها الحضاري. ولن
يكون النقد هنا ــ إضافة إلى تذوق المجتمع للفن ــ سوى هذه القيمة الأساسية التي يقوم
بفرزها تطور الفن وتحققه الفعلي. إذ من خلال النقد يستطيع الفن عموما أن يدرك ذاته
وأسئلته الجمالية والتعبيرية، ويصل إلى مستوى التعبير عن " روح العصر" وبلورة
سياقات القيم الروحية والمادية والثقافية وتجديدها،
ثم الحفاظ عليها وتوطيد معانيها ومحمولاتها
بشكل عام أيضا في العمق الحضاري والفكري لأي شعب من الشعوب. ومن هنا، تبدو العلاقة
واضحة المعالم وقوية التفاعل أيضا بين ثالوث: ( الفن ــ النقد ــ تذوق المجتمع للفن )
من هنا أيضا، يمكن الحديث عن متعة اقتبال - قراءة العمل التشكيلي، واقتراح
بعض أسئلته الأساسية، تلك الأسئلة التي غالبا ما ظل يحجبها أو يتخطاها الخطاب النقدي
المتعالي أو المُغرق في تقنيته. ويمكن ممارسة التحليق في واحدة من الإمكانات أو الغايات
التي يقوم عليها وجود أي عمل تشكيلي : قصدية أو رمزية الإبداع وإضاءة خطاب القراءة
والأثر. ثم إن أية قراءة للعمل التشكيلي، هي بالكاد قراءة محكومة بالإحالة والاحتمال،
لا تفسر العمل الفني وتشرحه، بل تحيل وتشير إلى مختلف أبعاده الرمزية والمحتمَلة. ويحضر
مفهوم الاحتمال هنا بمعنى أن اللوحة أو الأثر الفني لا يحتمل التأويل الواحد، بل القراءات
المتعددة والمركبة أحيانا، باعتبار اللوحة التشكيلية هي عمل مركب أيضا. أما الإحالة
فيحكمها البعد الفلسفي أكثر ما يحكمها البعد النقدي، أي بمعنى أن القراءة مثل الفكر،
قد لا تسعى إلى إظهار الحقائق كاملة تماما، بقدر ما تشير إلى بعض دلائلها الخاطفة
(حتى إذا جاز أن نعتبر الفن عموما، والتشكيل على وجه الخصوص : جزءا من حقيقة معينة
؟ )
وللقراءة في المجال البصري أدوات خاصة وقنوات معينة تمر عبرها إرساليات
الخطاب الفني لتتأكد، بعد ذلك جزئيا أو كليا في شكل العمل الفني ولغته ورمزيته، وهذه
الأدوات ـ القنوات التي يمكن التأشير لها أوليا بـ : المعرفة والعين والرمز والأسلوب style ، وهي أدوات يتفاوت مستوى
عمقها ومهارتها من قارئ لآخر، وحتى من مبدع لآخر أيضا، وتحكمها في نظرنا، تباعُدَات
وفجوات عميقة في تقدير مضمون اللوحة وتجريديتها كذلك، وبالتالي قد يكتفي المتلقي أو
القارئ غير المتمرس بالعمل التشكيلي ولغاته
بالمتعة الجمالية الظاهرية للوحة فقط، دون الاكتراث أحيانا حتى بتلك الأحاسيس
الغامضة التي تثيرها أو تخلفها بداخله العديد من الأشكال " الصامتة ".
ما معنى أن يمتلك القارئ معرفة أو معارف خاصة تسعفه بالدخول إلى عالم
الأثر التشكيلي وملاحقه دلالته الهاربة ؟ ثم هل تكفي القارئ عين واحدة لاقتِبال كل
هذا الصخب اللوني ؟ إن قراءة العمل التشكيلي هي بالضرورة كشف ومساءلة، تحليق مُجهِد
في رمزية الأثر الفني ومَغالقه البعيدة : ( والأثر هنا يعني العمل الفني البصري، المُشَكل
بصفة عامة، من تصوير peinture،
ونحت، وكولاج collage،
وصورة فوتوغرافية ). إنها مساءلة شفيفة للذات ومكامِنها، وهي بشكل آخر : محاولة لفهم
خطاب العالم واختراق الحدود الفاصلة بين الكينونة والهباء، بين المحسوس واللامرئي،
وبالتالي قد لا تتحدد هذه المعرفة المفترضة إلا بحجم ونوعية السؤال الذي يلهبها بالأساس.
أي : ماذا يعرف هذا القارئ ــ السائل المُحتمَل عن ذاته أولا، ثم عن العالَم الذي يحضنه
كل صباح ؟ وهل تملك العين الشغوفة وحدها خارج تغريبات الأثر الفني أو مألوفيته سلطة
القراءة أو تفكيك نظام الشفرات؟ كيف يمكن للمرئي، المحكوم بعنف الاختلالات وتهويم المعنى،
أن يتمثل غواية العناصر، أن يتقمص محسوسه القبْلِي ويدونه حتى داخل قصدية الرؤية والرؤيا
؟ هل ثمة حقا من كتابة " عالمة " تستطيع مفاتحة أو إضاءة هذا الإشكال البليغ
؟
تعتمد قراءة البصري إذن على العين ومعارفها، باعتبارها ( العين ) الوسيط
الأول والمباشر بين الناظر والمنظور، بين القارئ والمقروء، ومن ثم، ينبغي أن تكون للعين
ثقافتها البصرية، تربيتها الجمالية على وجه التحديد، حتى تتمكن من تذوق المرسوم أو
المرئي تذوقا مكتملا، غير ناقص المتعة وتضعه في إطار نسقيته الدلالية الخاصة به. يَحدُث
أن تنبهر العين أحيانا بجمال ما، بعلامة لونية أو بلمسة فرشاة، لكنها قد لا تستطيع
مثلا ربط هذا اللون بممكنه الرمزي، بموطنه
الأصلي، بغبش الألوان الأول وليلها الآهل بالأسرار،
تكون الخبرة الدقيقة للعين هنا ضرورية لتحقيق اكتمال اللذة والمعنى. ثم إن استهلاك
الجمال كذلك، يحتاج بالضرورة إلى الكثير من الجهد وإلى مثل هذه العين العارفة، البلّورية،
لتنعكس وتتعدد كل أشكال الجمال بين مساحات العين والفكر والوجدان والمتعة الغامضة.
يبقى كذلك هذا التغريب الصارخ الذي غالبا ما يصاحب لغة المرسوم، مرهونا
في قراءته وتأويله من قِبَل المتلقي أو في تدوينه من قِبَل المبدع، بتمثلات المرئي،
المُنصاعة غالبا لثقافة القارئ والمبدع ولتجاربهما الفردية، بل حتى لتاريخهما الشخصي
كذلك، والعمل الفني ( التشكيلي بالخصوص ) لا يَسْلم دائما في التأويل كما في الإنجاز
من معارف قبْلية واختلالات في التقمص، قد تساهم في تنميط أو توجيه القراءة والرؤية
وعدم انفلاتهما من سلطة السائد والمألوف. ينبغي أن تجدد العين والتدوينات الجمالية
والقرائية معارفهما باستمرار، وتعمق الحواس
دائما خبرتها بالمحسوس، كي تُغير العين مألوفية الأثر المرئي وتؤسس بالتالي علاقتها
العاشقة والمدهشة بالعمال الفني، ومن ثم، رؤيتَها الذاتية لاستعمال المدلولات والأشياء.
بذلك ينبغي أيضا ترويض العين على المتعة العارفة واقتطاف الجمال.