خاص بالمجلة
بداية يبدو النص مثيرا. نحن الآن على يقين بأن جريدة ما حين تضع سؤالا على قرائها، يكون الجواب معروفا مسبقا ولا أحد يهتم به – في القرن 18م كان الناس يحذوهم حب الاستطلاع وكانوا أذكياء وكانت الجرائد تطلب من قرائها الجواب عن أسئلة صعبة حقا. هكذا طلبت البرلينية مونا تشريفت من قرائها في دجنبر 1784 توضيح طبيعة حقبتهم التاريخية. لقد كان السؤال ربما أكثر أهمية من جواب كانط. ذلك أن الفلسفة الحديثة رغم المجهودات المتتالية لكبار الفلاسفة مثل هيجل ونيتشه لم تستطع ولم تفلح في تقديم جواب كاف عن السؤال ولا التخلص منه. يمكننا إذن أن نتصور السيناريو التالي : إذا طلبت جريدة ما الآن من قرائها الجواب عن السؤال : ما هي الفلسفة الحديثة ؟ فالجواب الجيد هو الذي يقول : " إنها تلك التي تحاول الجواب عن السؤال الموضوع منذ قرنين وبنوع من السذاجة (Was Ist Aufklärung ?).
إن ظروف نشر جواب كانط لها دلالة خاصة. فكانط يستجيب هنا لجدال أطلقه القس زولنر (Zöllner) الذي أثاره التشكيك في الزواج الديني، ولم يكن الوحيد الذي فعل ذلك، كانت إشكالية تعريف الأنوار تحتل مكانة مرموقة في نقاشات المجلة البرلينية. يمكن أن نذكر بهذا العدد نصوص مونديلسون " ما معنى نوَّر ؟ " ونص هامان " رسالة إلى كريستيان يعقوب كراوس " وكذلك نصوص فيخته رغم بعدها عن الموضوع لكنها لا تقل أهمية في هذا النقاش " مساهمات موجَّهَة لتصحيح حكم الشعب على الثورة الفرنسية " ونص هيردر " فلسفة أخرى للتاريخ "... وينتبه فوكو إلى أن المساهمة الكانطية تندرج ضمن اهتمام أوسع دشّنه مونديلسون وليسينغ. موضوعه العلاقة بين الفكر الألماني والثقافة اليهودية، فلا يجب إغفال أن عددا مهما من مفكري الأنوار يهود وبالتالي يجب البحث عن القاسم المشترك بين الفلسفة الألمانية واليهودية.
وليست هذه الخاصية المميزة الوحيدة والأساسية لنص كانط هناك خاصية نوعية أخرى سيعلن عنها فوكو منذ البداية وتشكل العمود الفقري لتحليله هي إثارة كانط لمسألة الحاضر أو الراهن بطريقة جديدة كلية. هذه المسالة ليست غريبة في تاريخ الفلسفة، لكن إلى حد الآن لم يفكر الفلاسفة في الحاضر إلا مقرونا بالمستقبل أو بمصير ما للكون. لنأخذ مثال أفلاطون : في " السياسي " كل المتحاورين يجمعون على التفكير في حاضرهم كزمن للعالم دون أن يتم تحليله في ذاته. وفي نفس الاتجاه سار أوغسطين والتقليد المسيحي : الراهن ما هو إلا التفكيك أو الإعلان عن مستقبل منتظر أو مرغوب فيه. وأخيرا كان فيكو، قُبيل كانط يعتبر الأنوار مرحلة انتقال نحو لحظة سعادة حقيقية للإنسانية برمتها.
تعريف كانط عكس كل ذلك تعريف سلبي : الأنوار مخرج قطيعة مع الحالة السابقة، حالة قصور العقل. هذا الأسلوب في التحليل نادر حتى لدى كانط. "فصراع الكليات" و"فكرة تاريخ كوني من وجهة نظر كوصموبوليتية " هي مؤلفات موجهة نحو آفاق الأمل، نحو مستقبل ثقافي أو أخلاقي ممكن للإنسانية : على العكس من ذلك ما هي الأنوار ؟ سؤال يرتبط بالاختلاف النوعي الحاصل بين الحاضر والماضي القريب.
يلاحظ فوكو فورا وبحق أن نص كانط غالبا ما كان ملتبسا، لذا سيكتفي بالإمساك بما يمكنه أن يميز الموقف الجديد للفلسفة تجاه حاضرها الخاص دون الدخول في جزئيات الحاجة الكانطية.
s النقطة الأولى : الأنوار سيرورة للخروج والتحرر من حالة القصور المحددة بقبول الخضوع لسلطة الغير هنا حيث يمكن استعمال العقل. ويقدم فوكو الأمثلة الثلاث التي اعتمدها كانط : يكون القصور حينما نخضع إراديا لسلطة كتاب ما بدل استعمال عقلنا، ويكون أيضا حين نُفضل الاستماع لصوت مرشد روحي – قسا كان أم راهباً – بدل الإنصات لوعينا الأخلاقي الخاص، ويكون حين يُعوِّض كلام الطبيب نظام / حمية العيش لدينا. ويؤكد فوكو أن كل مثال من هذه الأمثلة يمكنه أن يعود إلى واحد من الكتب القصدية الثلاثة الكبرى لكانط بعبارة أخرى فكانط نفسه يُشير إلى أن نضح العقل هو النقد ذاته، الممارس في حقل المعرفة (نقد العقل الخالص) أو حقل الأخلاق (نقد العقل العملي) أو حقل الاستطيقا (نقد ملكة الحكم).
s النقطة الثانية : الخروج في القصور ليس سيرورة يجب أن تتحقق فقط إنما هي أيضا مهمه بل واجب . ولم يُخطأ كانط في الأمر : الإنسان مسؤول عن حالته، ولا يمكنه أن يكتفي بالانتظار المسالم. " لنجرؤ على المعرفة ". هذه الكلمات ليس شعارا ولا توصيفا إنما هي متضمنة لأمر يشير حقا إلى الالتزام الخلقي. لكي يكون الإنسان إنسانا، حقا إنسانا عليه أن يتحلى الشجاعة ويستعمل فهمه وتكون له الجرأة على المعرفة.
s النقطة الثالثة : تتعلق بالكلمة Menschheit (الإنسانية)، فما الذي تعنيه الأنواربهذا اللفظ ؟ هل تعني بالإنسانية مجموع النوع البشري ؟ في هذه الحالة، على التغير التاريخي المعني أن يكون ملموسا في كل بقاع الأرض، وهذا أمر غير حاصل كما هو باد للعيان.
أما إذا كان المقصود باللفظ هو جوهر الإنسان وكانت الأنوار تعني البنية العقلانية للإنسان فإن المشكل سيغدو، ويجب التصريح بذلك – أكثر تعقيدا. حتى لو كان فوكو يميل إلى هذا القصد الثاني فإنه لم يصرح به. ولقد فضل العودة إلى مسألة النضج محاولا تحديد شروطها الأساس. إن وضع هذه الشروط وضع شائك جدا. فما كتبه كانط عن الخضوع للعقل وعن حقوق هذا الأخير يمكنه فعلا أن يؤوّل على المستوى الروحي كما يؤوّل على المستوى المؤسسي وكذا الأخلاقي والسياسي. الشرط الأول له أهمية كبرى، بحيث يجب التمييز بين ما ينتمي بالضرورة للخضوع وما يجب أن يترك للاستعمال الحر للعقل. فالإنسانية الراشدة ليست معفية من كل خضوع : لكن بجانب الخضوع الضروري للسير الجيد للمجتمع، يملك الفرد كل الإمكانيات للتفكير أي لنقد الإكراهات المفروضة عليه بدون قيد ولا شرط. ومن ضمن الأمثلة التي قدمها كانط بهذا الصدد اختار فوكو المثال الأكثر تعبيرا : من الضروري قانونيا دفع الضرائب، لكن من حق النضج العقلي أن يقول أن كل شخص حر كلية في الاعتراض على النظام الضريبي المطبق عليه.
لا يكتفي كانط هنا بالتّذكير بالتمييز القديم بين الطاعة العمومية وبين الحرية الخاصة. إنما يعيد صياغتها بشكل غريب ودال في آن واحد. فهو يتحدث عن الاستعمال الخاص للعقل للإشارة إلى استخدام العقل في إطار الوظيفة أو المهنة : الراهب المتعبد، والجندي المحارب والطبيب الممارس والموظفة الإدارية.. كل وظيفة من هذه الوظائف تحدد الظروف الخاصة التي يجب أن يحترمها العقل إذا أراد أن يؤدي مهمته. أما الاستعمال العمومي للعقل الذي يستدعي من الشخص أن يفكر كإنسان، باستقلال عن الإكراهات الاجتماعية والمهنية، لا يجب أن يتضايق من أية حدود. لا توجد الأنوار إلا بتعايش هذه الحرية في النقد والتحليل مع الاستعمال الخاص للحرية.
هذا التمييز سيدفع فوكو إلى وضع السؤال التالي صراحة على نص كانط : كيف يمكن سياسيا ضمان أن الاستعمال العمومي للعقل لا تحده حدود ؟ هُنا يتحول سؤال الأنوار إلى سؤال سياسي حقا. ضمن هذا التحول يقترح كانط إذن وبكلمات شبه صريحة ضربا من التعاقد مع سُلطان زمانه فردريك الثاني. يقترح عليه قيام مؤسسة سياسية تضمن للسلطان طاعة حقيقية من طرف رعاياه، مقابل ضمان حرية مطلقة لهم للاستعمال العمومي للعقل ؛ لكن يجب أن تؤسس الهيئة نفسها على معايير عقلانية كونية. بعبارة أخرى الدولة المؤسسة عقلانيا هي الكفيلة بضمان عقلانية متنورة.
" إذا تركنا النص عند هذه النقطة " سنلاحظ أن فوكو لا يتحرج من التقليل من أهميته لكنه مقابل ذلك سيبرز موقفه الصارم و المتجلي في اعتبار النقد هو روح الأنوار. فالمطالبة بنضج العقل يعني في العمق قدره العقل على تغطية ميدان استعماله الشرعي، وتجنب إنحرافات الدوغمائية، المدانة لمدة طويلة في " نقد العقل الخالص ". بعد ذلك، ومنطق البحث سيتضح لنا فيما بعد سيعمل فوكو على وصف العلاقة بين سؤال الأنوار لدى كانط وتصوره للتاريخ عامة – فالنصوص الأخرى حول التاريخ كانت تصف الغائية الداخلية للإنسانية، في حين أن السؤال ما الأنوار ؟ كان هاجسه هو إقران مسؤولية الإنسان بحالة القصور وبالمقابل مسؤوليته في كل تحرر ممكن. في إطار هذا المعنى يبدو نص كانط وكأنه لا يكتفي عمليا بالآفاق التطمينية ، إنما يعبر عن راهنية النقد وعن التبرير الأخير للعمل الخاص لكانط . فتأمل " الآن " هو الموضوع الخاص للأنوار، لفلسفة الحداثة، للنقد وللفكر الكانطي. ويمكن أن نضيف وهو ما لم يقله فوكو إنها وظيفته هو أيضا وظيفة الأركيولوجيا وضرورة تدخل ما هو كافي في الراهن، بهذا التصور فالنص الكانطي "مقدمة لما يمكن أن نسميه بالموقف الحداثي". هنا يبرز بدون أدنى شك التمفصل الأساسي للمحاجة الفوكوية، ويسمح لنا بإدراك ضرورة الانتقال من تأمل الأنوار إلى تأمل الحداثة. فوكو واضح جدا في كلامه : الحداثة ليست حقبة زمنية، ليس هناك ما قبل الحداثة وما بعد الحداثة. فالهاجس التاريخي للتحقيب بالتواريخ أو بالأحداث المنتقاة عشوائيا لمرحلة توصف بالحداثة ليس اختيارا مؤسسا ؛ وإذا تشبثنا بجوهر الحداثة كما اعتدنا أن نفعل ذلك في الفلسفة، علينا أن نُعَرِّفها كموقف نوعي تجاه الراهن، أو أن نَعتبرها طريقة خاصة في التفكير والممارسة. باختصار الحداثة [(Etos) (Mœurs )] انتماء ومهمة، يمكن إحياؤهما في سياقات مختلفة بمعزل عن كل إحالات تاريخية خالصة.
بعد ذلك سيتراوح النص [في يد فوكو] من مرجع إلى آخر، من الفلسفة إلى الأدب ومن كانط إلى بودلير كواحد من الكتاب الكبار الذين حاولوا تعريف الحداثة. ماذا يقول بودلير ؟ الحداثة هي انفصال في الزمان، هي الانقطاع أو الجديد أو الهارب. وبالضبط الحداثة هي تبني إرادي لموقف خاص تجاه هذه الحركة المستمرة قصد إدراك ما يحتويه الحاضر من خلود . الحداثة ليست مدحا للتغيير في حد ذاته، لكنها وعي عارم بخُصوصية اللحظة الراهنة التي تشكل شيئا بطولياً.
يكتفي فوكو بمثال واحد. مثال بودولي ساخرا من الرسامين الذي يرسمون أُناس زمنهم معتمرين قبعات وألبسة قديمة يعتبرونها كأحسن وأليق ما يمكن أن يعتمره الإنسان. الحداثة في أعين بودلير لا تتوقف على إظهار الحقيقة بتوشيح الناس بالألبسة السوداء، بل بفهم ما هو خاص في حقبتنا والذي يتجلى هنا في العلاقة الحزينة بالموت، ثُم يوضح لنا فوكو بأن منح الحاضر كل هذه القيمة المدركة في طابعها الوحيد لا تخلو من سخرية، لا يتعلق الأمر بالمكوث والتنزه في الحاضر لجمع غرائبه، وإنما بتغييره والتعبير عن واقعيته أحسن ما تستطيعه هذه الأخيرة. يشير بودلير هنا إلى الرسام Constentin Guys كنموذج للفنان الحداثي. الرسم لديه يتجاوز الواقع بقوة الخيال وهو يعبر عنه، ويقول ما يمكنه أن يكون عليه في نفس الآن. الحداثي، وفوكو هو كذلك بدون شك، هو الذي يُفكِّر في الحاضر كمكان ممكن لفكر آخر، هو الذي يحترم الحاضر لما يحيل إليه من اختيارات ممكنة.
الحداثة، القريبة في هذه النقطة من " إيطوس " الأنوار هي كذلك استفهام حول الذات. الحداثة، فيما وراء الاهتمام بالراهن تقتضي إذن تمرينا شخصيا في بناء الذات انطلاقا من رفض ما هي عليه. هناك في هذا الموقف ضرب من الزهد وتربية تحيل على تخوم ما هو ديني. الإنسان الحداثي هو لذات ملزمة بنوع من الإبداعية من الصعب إنجازها. آخر ملاحظة حول بودلير، وهي هنا نقد لتصوره للحداثة : لقد كان بودلير لا يعتقد في إمكانية تطبيق عمل الخيال في المجتمعات أو المؤسسات السياسية. التي هي الحقل اللائق للتعبير الحداثي. ولا يضيف فوكو شيئا لهذا التصور لكننا نفهم جيدا بأن تحديدا كهذا لا شرعية له في أعين فوكو ؛ لأن في المجال السياسي بالضبط تكون الحداثة أي الموقف الفلسفي [من الحداثة] ضروريا.
هنا يترك فوكو بودلير كما سبق أن فعل مع كانط، ويؤكد بأن هذه الملاحظات ليست تامة وأن الأنوار كما الحداثة هي من المفاهيم المعقدة التي لا يمكن تحديد ملامحها بسرعة. بعد هذا التواضع ذي النفحة البلاغية سيحاول فوكو تبرير أهمية الأنوار بالنسبة للفكر الآن. وسيكون أكثر وضوحا : ذلك أن قراءته لكانط وكذا التعريف الذي سيقترحه للفلسفة لا يعبّران عن أي إخلاص للأنوار، خاصة إذا كنا نعني بذلك مجموعة معنية من الأطاريح كالتفاؤل التاريخي والثقة في العقل أو الانشغال بالإنسية. هدف فوكو محدد بدقّة وبكامل الشرعية : إنه محاولة النظر إلى ما يمكن جعله راهنيا من الناحية الفلسفية في الإيطوس الفلسفي للأنوار، لا حنين هناك ولا ورع فيما سيقال ولا تمسك بالمسار الكانطي الذي سيفتح النص.
يجب قراءة الفقرات التالية كتخطيط لجدال ممكن أكثر منه كبحث عن خصائص، ولو كانت سلبية، للإيطوس الفلسفي : إن الفلسفة العاصرة مع هابرماس في ألمانيا ومع لوك فيري أو آلان رونو في فرنسا تسمها حركة شاسعة لأفكار تروم إحياء بعض القيم الخاصة بالأنوار. بعض المحسوبين الأكثر جذرية على هذه الحركة يذهبون إلى حد القول ليس هناك إلا من هم مع أو ضد الأنوار. الدفاع عن حقوق الإنسان وكونية بعض القيم، أو الدفاع عن حرية التعبير واستقلال العقل يحيل إلى نوع من العودة إلى الأنوار ؛ وعكسيا، كل كاتب ينفي شرعية هذه العودة يتهم بمعارضة حقوق الإنسان أو معارضة العقلانية عامة. فوكو يرفض منذ المنطلق ما يُسميه بكل صواب إبتزاز الأنوار. إنه ليس عدوا للأنوار. وله أسباب عدة تجعله يهتم بها : الأهمية التاريخية للمرحلة، هاجسه بالحرية في علاقتها بمعركة الحقيقة، موقفه من الراهن، لكنه من غير العقول اختزال هذا النقاش في اختيار تبسيطي : مع أو ضد الأنوار. بدل هذا النقاش المغلوط يقترح فوكو المهمة التالية : " القيام بتحليل ذواتنا باعتبارها كائنات محددة تاريخيا بالأنوار في جهة ما ". فكل الأبحاث التي ستعرض مع الفيلسوف ستكون مخلصة للأنوار في معنى محددا : هذا المعنى ليس هو البحث في حاضرنا عن النواة العقلانية التي تركتها لنا الأنوار وإنما هو إحياء استقلال العقل بواسطة نقد ما يقدم لنا كإشكال ضروري .
ويقوم فوكو مثلما فعل سابقا بإبعاد شكل ثان من الابتزاز أكثر انحرافا للأنوار يتجلى لنا في الوهلة الأولى في خلط الأنوار بالإنسية، ثم اتهام من يتجرأون على نقد بعض جوانب الأنوار بأنهم ضد الإنسان. ترتكز هذه الحجة على عدة أفعال قابلة للطعن. الفعل الأول ينطلق من تعميم متسرع لمختلف أوجه الأنوار، في حين أن مختلف الظواهر التي نجمعها تحت هذا اللفظ تمنع ذلك بالإطلاق. ذلك أن التحليل الذي اقترحه فوكو لا يمس حقيقة الأنوار في كليتها بل يكتفي بإنارة وجه من أوجهها خاصة ذلك المتعلق بنمط العلاقة التأملية بالحاضر. الاتجاه الإنسي هو الآخر لا يمكن اعتباره حركة منسجمة، فهو يحمل دلالات عدة حسب السياقات الفلسفية أو السياسية التي تتدخل فيها مختلف التيارات الفكرية كالماركسية والوجودية والشخصانية والستالينية التي قد توصف بالاتجاهات الإنسية. النقطة الوحيدة المشتركة والتي يمكن إثارتها هنا هي أن كل الإنسيات تعتمد على تصورات للإنسان موروثة من الدين والعلم والسياسية. بالإضافة إلى هذين الخلطين، يرتكب ابتزاز الأنوار خطأ ثالثا آخرا . لنفترض أننا نستطيع تحديد النزعة الإنسية والأنوار تحديدا أحادي المعنى في هذه الحالة معناهما الحقيقي سيبدو متنازعا لا منسجما . ذلك أن فكرة القيمة الكونية المطلقة – للإنسان – فكرة غير مقبولة من طرف عقل مستقل حقا. ثانيا أن الأنوار لا تعرف تاريخيا بالنزعة الإنسية، وليس من النزاهة في شيء منحها هذا التعريف بعد فوات الأوان. فالأمور تبدو أكثر غموضا والتباسا مما تسمح بالاعتقاد فيه حجة الابتزاز وإنه لمن مهام الأركيولوجيا أن توضح تشابك علاقة النزعة الإنسانية بالأنوار الآن، وهو الأمر الذي قام به كتاب " الكلمات والأشياء ".
ينتقل فوكو أخيرا إلى تحديد إيجابي للفلسفة حيث تبدو لنا الأطروحة الأكثر أهمية والأكثر فرادة للنص الكانطي. أول عنصر يمكن الإمساك به هاهنا هو : أن الإيطوس الفلسفي يشير إلى موقف يرسم الحدود ؛ أي هو تحليل للحدود وتأمل فيها. النموذج الذي يتبناه فوكو هو كانط نفسه : ففي الوقت الذي حاول فيه كانط رسم حدود للمعرفة لا يمكن تخطيها على الفلسفة اليوم أن تحدد ما يجب تخطيه. إنها كانطية مقلوبة، تتجاوز حدود حقل المعرفة، وتُغطي كل مجالات الفكر، حيث يبقى من مهمة الفلسفة الإشارة إلى الفرادة وإلى الاحتمالية اللذان يختفيان تحت البداهات الخاطئة والضرورات المفترضة.
ويتابع فوكو في نفس الخط الاتجاه الكانطي : لا بتحليل البنيات الكونية للمعرفة وإنما بتحليل الشروط التاريخية لانبثاق فكر أو فعل وجد من يحدد موضوعاته. بحث كهذا لا علاقة له بالتعالي بالمعنى الذي يبلور فيه شروط إمكانية ميتافيزيقيا جديدة، إنما هو بحث نقدي أي أركيولوجي وجينيالوجي.
على الفلسفة أن تكون أركيولوجية من حيث منهاجها : وهذا يعني ارتباطها "بمعالجة الخطابات التي تتمفصل مع ما نفكر فيه، ونقوله ونقوم به، مثل العديد من الأحداث التاريخية"، وهو ما قام به فوكو في كل أعماله الكبرى. وعليها أن تكون جينيالوجية في غاياتها : أي تسمح بإدراك ما يقوم به فكرنا كمعطى قابل للنقاش وإذن قابل للنقد، فاتحة الآفاق لفكر آخر وفعل آخر.
ليس لهذا الميل التحرري للفلسفة من معنى إلا إذا قبل بجوار العمل التاريخي "الخضوع لامتحان الواقع والراهن، لإدراك الأماكن التي يمكن أن يقع فيها التغير ويكون مطلوبا لتحديد الشكل الدقيق الذي يمكن منحه لهذا التغير في نفس الآن ". العمل السياسي ليس إضافة اختيارية للفعل المفهومي الخاص ولا هو ملحق روح عامة منذورة للتخفيف من الوعي الحزين للفيلسوف. الفلسفة في هويتها العميقة، تلك التي ولدت مع السؤال الكانطي لا ينفصم فيها النظري بالعملي ولا النقدي بالسياسي. إن بقية النص تؤكد هذه العلاقة الحميمة بين النظرية والممارسة :
فالبحث التاريخي يبرز خصوصية واحتمالية محتويات المعرفة والسلطة ، كذلك يكون تدخل الفلسفة دقيقا ومضبوطا، هناك بعيدا عن المشروعات العامة والجذرية حيث غالبا ما يتيه فيها الفكر.
الفكر، السلطة، العلاقات الجنسية، إدراك الجنون أو الأقدار التي ابتلى بها المشردون.. كلها أماكن للحياة .. لأجل فلسفة نقدية. كل هذه الموضوعات تبدو محدودة وغير كافية. فوكو لا يقول العكس.. وهل يمكن أن تكون الأمور غير ذلك وموضوع الفلسفة هو بالضبط تبيان الطابع المحدود في ديمومة كما في مشروعية كل خطاب ؟ وكأن فوكو يطلب من منتقديه شيئا من التواضع الذي لا يمنع أبدا العمل وفق منهجية ونسقية مضبوطة. وهو ما سيقوم به الآن.
للمقاربة التاريخية و العملية للفلسفة رهانها الخاص. رهان يقتضي : تحليل علاقات حرية الأفراد بأشكال السلطة. في الوقت الذي كان فيه القرن 18م يعتقد بأن سلطته على الأشياء كانت تكبر وتنمو بتوافق مع حريتنا، فالقرنان الماضيان أفصحا لنا بأن الأشياء معقدة وأنها غير مفرحة. هكذا لاحظنا تقنيات كان من المفروض فيها أن تطور سلطتنا وإذا بها تبني بصمت أشكال من اضطهاد الأفراد ؛ ولاحظنا أنماطا من السلطة تؤدي إلى عمليات من التطبيع أكثر فعالية من القمع. الرهان إذن هو العمل على تصور وسائل لتعطيل تطور حرية هذه الأشكال المختلفة من علاقات السلطة. إنه رهان التحرر من جديد.
بهذا يتحدد إذن ميدان التحليل، فموضوع الفلسفة هو مجموع الممارسات أي الأشكال العقلانية التي تُنظم طرق العمل والتفكير، تلك التي يؤكد فوكو أنها منسجمة في قنواتها التكنولوجية كما في دوالبها الإستراتيجية. الفلسفة مادة موجودة بفضل انسجام موضوعها، وهي خليط تاريخي يمكن رسم خطوط قوامه.
السمة الثالثة المميزة للفلسفة هي نسقيتها، وهذه الأخيرة تنبع من نسقية موضوعها، حيث يمكن أن نلمس ثلاث محاور كبرى : محور المعرفة، محور السلطة ومحور الأخلاق (الإيثيقا). إنها اللحظات الكبرى في أعمال فوكو، والتي لا يجب تأويلها، كتغيرات ولا كتعديلات للموضوعات وإنما هي مرحلة ضرورية لعمل كل فلسفة. بعبارة أخرى إنها أركيولوجية المعرفة، وتحليلية السلطة، وتأويلية الذات. الأبعاد الثلاثة للفلسفة إذا ما منحناها النزوع التاريخي – السياسي كما عينها فوكو .
الخاصية الأخيرة للفعل الفلسفي هي عموميته، لا يدعي فوكو بأن الظواهر التي تدرسها الفلسفة كونية، لكن المجموعات العملية، إذا ما مكثنا في حدود مجال الثقافة الغربية، تقدم خصوصيات هامة. لن تتخل الفلسفة عن البحث في ذكاء ما هو خاص، لكنها ستبحث أيضا تحت عرضية المشاكل المطروحة عن النسبية الدائمة لها. وهذا ما يقوله فوكو بصريح العبارة : " إن دراسة أنماط الأشكلة هي إذن طريقة للتحليل في شكلها الموض وع ،هي ما يمنح للفلسفة خاصيتها أي إمكانية تطورها وفق كونية نسبية.
وأخيرا يعود فوكو إلى كانط، بنوع من التأسف، لا شيء يدل في تاريخنا على أننا أصبحنا راشدين. فلا يمكن لفعالية الأنوار أن تقطن في الراهنية الواقعية والملموسة لاستقبال العقل، أو على الأقل إن راهنية كهذه لم تحصل أبدا.
إن قيمة الأنوار توجد في نمط الحياة الذي تقترحه على الفيلسوف، المدعو إلى امتحان فكرة وبناء شروط تحرره. هذا التحرر هو نتاج عمل دءوب يسبل مسالك أكثر غرابة من البحث التاريخي ويختار مناهج أكثر تجريدا من الأركيولوجيا. لكن لهذه المهمة انسجامها النظري في التحديد الدقيق للموضوع الخاص التي ستقوم بتحليله، وانسجامها العملي في أنماط تدخلها السياسي. أما يزال من المكمن الاعتقاد في الأنوار للقيام بهذا العمل على الوجه الأحسن ؟ فوكو لا يعتقد في ذلك. المهم هو الاستفادة من كانط في معنى الحدود، موضوع بلورة نظرية صبورة والتعجيل بإرادة التجاوز في آن واحد./
* Olivier Dekens , Michel Foucault , « La vérité de mes livres est dans l’avenir », Armand Colin, 2011.