لم ينس كم أحس بضآلته ذاك اليوم، ولا كمّ الشعور بالحداد الذي ملأ روحه،
حين تحولت رمادا حارقا، ولسعته قبل أن تتلاشى:
ـ عمت استنزافا في أردل عمرك، بينما أنت في عز الشباب.
وكأني بك تعشق الموت تفاهة.
رغم أنهما جاران، لكن ألفتهما لم تولد وتنمو إلا
هنا، مرابطين بين الحشود الهائجة. وذاك اليوم، على غير عادة الأيام السابقة، المشحونة
بالتوترات الحادة، والأعصاب المشدودة، وبالمناقشات المتعاكسة، وأيضا بمرارة الأحلام
المحبطة؛ استظلا بالعراء تحت الشمس الحارقة، بعد أن وقفا شهورا تحت المطر العاصف، والبطالة
ثالثتهما؛ لائذين بصمت جنائزي ثقيل، كما لو كانا قد فجعا بضياع عمارات وضيعات وقطعان
بهائم ودواجن لهما، أو أنهما ليسا جارين وأليفين، بل غريبين لم يسبق أن تعرف أحدهما
إلى الآخر. فبعد أن تبادلا ببرود عبارة (أهلا وسهلا ومرحبا)، أصيبا بالخرس. هرب كل
منهما نحو شفير حوار داخلي أحادي، مفروش بسراب من التوقعات، وموقوف على هواجس ذاته،
دون البوح به لإلفه.
لم يدشن يومها حديثهما بقول، ترد هي عليه في عصبية،
بمقارعة نارية كالعادة؛ وإنما أشعل في تلقائية بطيئة عود كبريت، ورماه نيزكا باهتا
على الأرض، في نفس اللحظة التي توقفت فيها سيارة مرسديس غير مألوفة، وفتح بابها لرجل
يشبه سمك القرش، حياه الحارس بانحناءة تأدبا وخنوعا، أثناء تخطيه البوابة الحديدية،
لحديقة البرلمان المعشوشبة الموردة، لينطلق متبخترا على الممشى المبلط بالحجر الصم.
رنا إليها في سكونها المحير، ثم ماشى لسان حاله،
ليصول عنانه ويجول في تشريح حالتها الملطخة بالمرارة، وبحداد مستمر على شيء ما:
طالما نصحتك أن تصيري عروسا لي، متألقة جمالا وسعادة، ولو بخاتم من طين.
لكن، ها أنا ذا أشفق ياجارتي الحبيبة، من كونك تموتين في كل دقيقة. لقد نضوت عنك غنجك
ودلالك المحببين، زاهدة في زمنك الجميل. أرجوك انتبهي إلى أنك لم تعودي من فصيلة الجنس
اللطيف. بل صرت مخشوشنة مثل الرجل. لا تتضوع منك رائحة عطر جذاب، ولا تزين أساور مرصعة
أصيلة أو مغشوشة معصميك الغضين، ولا تتدلى أقراط على جيدك تخطف الأبصار، ولا يبرز ثوب
أنثوي شفيف ملاحتك للأنظار. بل إنك بتسريحة الغلمان القصيرة، وبقميصك الذكوري العادي،
وبسروال الدجين من النوع الرديء، المقطع عند الركبتين، مثل أطمار الدراويش؛ أمسيت تشبهين
غلاما سقيما، طوله سبعة أشبار، وعرضه شبران، كأنك لا تنظرين إلى نفسك في المرآة أبدا.
والمصيبة، أن ضحكتك الحلوة، قد انطفأت منذ تخرجك، كما ضحلت لطافتك ورشاقتك في الكلام،
وأمسى خداك ذابلين في لون الكبريت، لا يجودان بحمرة الخوخ أبدا، وكأنما مسّك جني رجيم
بشرّه، أو أنك تتعمدين قتل كل بهاء يرشح منك. لذلك تبدين دائما وكأنك ستجهشين بالنحيب،
كما لو أنك لم تخلقي سوى للتعاسة. أخشى أن تصيري ظلا بلا روح. اسمعي يا بنت الناس حقيقة
بمثابة رأسمالك، وعلقيها في أذنيك، على حد قول المصريين: إن امرأة دون أنوثة هي مجرد
كائن نسوي. آه لو أنك تبصرين الأمور بعين الحلم، وتعملين بنصيحتي المكرورة. وليت لي
بلاغة قس بن ساعدة وحكمة لقمان الحكيم، عساي أقنعك بالعودة إلى ابتسامتك الحلوة.
ثم زهد في محاورة ذاته، ليدخل معها في حوار ثنائي
مديد، إذ توجه إليها بالقول، منكس الرأس، وهو يتكئ بظهره على سياج حديقة البرلمان البديعة:
ترى بأي صحراء قاحلة تستجيرين؟. وددت لو أنني أملك
عصا سحرية، تمكنني من ولوج عتمات دماغك، حتى أستعرض ما تلعقينه من وساوس ومواء زمن
منتحر، وما تجترّينه من لعاب اليأس، مثل نعجة جائعة. فأنا لا أملك حتى إمكانية تخمين
ما تفكرين فيه. فإلى متى ستظلين تناطحين الهواء؟. كفي عن التوغل في الهروب إلى أعماق
روحك رجاء، وأنصتي إلي. أنا يا بنت الناس، ربنا خلقتنا. ليس لي في هذه الدنيا إلا الله،
وسلاح شهادة عليا في الأدب معطوبة. أما أنت، فتبارك الله، دكتورة في الهندسة الإعلامية،
ومن عائلة كبيرة ما شاء الله، والكبير هو الله، وإن كنت من شقها المغبون. ودوما أتساءل:
ترى لماذا لم تتوظف، مع أن عمها إطار سام؟.
خرجت من سهوها أكثر شحوبا. تسمرت في مكانها لحظة.
ثم نفرت كأن شيئا حارقا لسعها، أو أن كلبا مسعورا يطاردها. عبس وجهها أكثر، وتولى في
تقزز ومقت، قمينين بأن يديما حديثها عن عمها طوال النهار والليل. بعد دقيقة صمت تسبق
التشنج عادة، لعقت لعابها، وهطلت بالجواب بصوت جاف، تداخلت فيه رعدة الانتحاب مع بصمة
التهدج وسورة التنفس:
ما هذا اللغو يا هذا؟. إنك لا تحسن سوى الغناء على
ليلاك. ألا تكف أبدا عن أن تبصر الأمور إلا كما تريدها أن تكون، وليس كما هي في الواقع
المتيبس؟. رجاء، توقف عن إصرارك على ترميم ما لا يرمم؟. لقد نكأت بئرا عميقة مردومة،
دون أن تشعر.
عمي؟ ! ليعمه الله. فنحن نتساوى مع والديه، في كوننا لا نكحّل أعيننا
بطلعته المنفرة أبدا. أين نحن وأين هو؟. لقد تسلق قمة إفرست، وتركنا بين حجارة قاع
الوديان. إنه ميت بالنسبة لي. ورغم أن الضرب في الميت حرام، وددت لو أن في يدي هراوة
ثقيلة، مذببة بمسامير صدئة، وهو جثة هامدة أمامي، أبعجها في كل الأماكن الحساسة، وأنفضها
بخبطات من سجّيل، خارجة من سويداء القلب، وكأني أطارد جرذا مذعورا.
ثم تنهدت من أعماقها طويلا، واستطردت:
يا أخي في البطالة، ويارفيقي في الهشاشة والاستحمار،
انظر جيدا ببصرك وبصيرتك رجاء. فلعلمك، إن عمي هذا، الذي تقول عنه إنه إطار سام، لم
يعد موظفا ساميا. بل صار كائنا سامّا، عن جدارة واستحقاق. فعندما حطه السيل من عل،
حنشا معززا مبجلا منتشيا، فوق كنز عامر داخل صندوق أسود، ليحرسه مثل جني شيطان، رغم
أن عصر الكنوز قد ولى مع ألف ليلة وليلة؛ استمرأ الغرف منه بأريحية وإدمان منقطعي النظير،
حتى شبع فوق التخمة، وتحول بقدرة قادر من ضآلة جسم حنش إلى ضخامة جسم فيل برأس حنش،
ولم يعد الكنز السامي يملأ عينيه، أو يستجيب لنهمه. حينئذ تفتقت عبقريته عن فكرة الانتقال
إلى عاصمة الأباطرة، وتأسيس إمبراطورية خاصة به، ونفض يده تماما من الكنز الخاوي، قائلا:
لم تعد من لزوم ما يلزم. باي باي.
وقبل أن يعلق على تذمرها، غاصت هي في لحظة بدت أزلية
رغم سرعتها، تولدت عنها لحظة ثانية، غصت خلالها بما تكابده من قهر مخضب باليأس، فمال
بها إلى أن توليه ظهرها، وتنصرف متأبطة خيبتها، في تجاهل مقصود لدهشته، أو ربما لتخفي
القطرات المالحة التي نزفت جانحة من مدمعيها الضحلين، لتبلل خديها.
تأجج وجيب قلبه مضطربا، وشرق بدهشته غير مصدق، إلى
حد أن عبارة (نحن معا في قفص الهم حزن، وينبغي أن نوجد معا طريقا لانطلاق أرواحنا من
إساره)، لم تطاوع لسانه، وكأنما أصيب بانحباس نطقي، أو أن لسانه عقل داخل فمه؛ وهو
يراها تبتعد متمتمة:
ـ عمت استنزافا في أردل عمرك، بينما أنت في عز الشباب.
وكأني بك تعشق الموت تفاهة.
فتملكه رعبان عليها وعليه، كما لو كانا ينوءان تحت
انهيار أرضي على وشك طمرهما، يستحق الحداد وتنكيس العلم مدى الحياة. ولم ينتبه إلا
وقد صارت فص مرارة وذاب. خبت نارها، وبقي رمادها يعشي العينين. من يومها وهو يبحث عنها، دون أن يعرف من أي كان، أين تاهت؟.
سيرة الكاتب
والدكتور من مواليد سنة 1945 ، بمدينة القصر الكبير،
حاصل على دكتوراه الدولة في الأدب العربي الحديث ، من كلية آداب الرباط في السنة الجامعية
1992/1993 ، حول موضوع : "القصص الشعبي بالمغرب - دراسة مورفولوجية"، تحت
إشراف الدكتور محمد السرغيني. وهو عضو في اتحاد كتاب المغرب، ورئيس سابق لفرعه بمدينة
القنيطرة ومديرتحريرمجلة (المجرة) الثقافية وعضوالعديد من الهيآت الأدبية ومجموعات
البحث والدراسات السردية . نشرالعديد من إبداعاته القصصية ومقالاته النقدية بمختلف
المنابروالملاحق الثقافية المغربية والعربية منذ أواخرستينات القرن الماضي . صدرت له
أولى باكورته القصصية (أنياب طويلة في وجه المدينة ) سنة 1976 وإصدارات هامة جدا
في مجال القصص الشعبي منها ( امتداد الحكاية الشعبية
) ضمن سلسلة (موسوعة شراع الشعبية) وآخرها (نحو تأصيل الدراسة الأدبية الشعبية بالمغرب)
ضمن إصدارات إتحاد كتاب المغرب .
الملاحق الثقافية المغربية والعربية منذ أواخرستينات
القرن الماضي . صدرت له أولى باكورته القصصية (أنياب طويلة في وجه المدينة ) سنة 1976 وإصدارات هامة جدا
في
مجال القصص الشعبي منها ( امتداد الحكاية الشعبية ) ضمن سلسلة (موسوعة شراع الشعبية)
وآخرها (نحو تأصيل الدراسة الأدبية الشعبية بالمغرب) ضمن إصدارات إتحاد كتاب المغرب .