-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

(سوربون ) مراكش : أحمد بلحاج آية وارهام

مراكش هذه الحاضرة التي كانت فكرةً و مثالاً في وجدان الأميرة الأغماتية الفاتنة زينب النفزاوية،وتجسَّدت حقيقة عمرانية حضاريةً على يد يوسف بن تاشفين، موشومةً
بالأبَّهَة العلمية والروحية والأسطورية والإنسانية، هي اليوم تعاني تحولات ماسخةً، وجراحا لاهبة، وبهرجة معتمةً في كثير من أعضاء جسدها الحميمة، وفضاءاتها الحاضنة لروح الإنسان وجوهره، ويكفي أن نُومِيءَ إلى مآل فضاءٍ كان من القلب فيها، وهو فضاء(سُورْبُونِـ)هَا.
فضاء تأرجح بين زمنين:
كان في فجر الاستقلال يُسمى ب"مقهى ومطعم العهد الجديد"، لصاحبه المرحوم الحاج مُصْبيح؛ الذي تجمعه صلة قرابة بالحاج أحمد الشَّكْروني صاحب "مقهى الدروج". فهما أولاد عَمٍّ، كانا يبيعان الأكل في ساحة جامع الفنا إِبَّان الفترة الاستعمارية إلى بداية الخمسينيات، حيث وقعت حوادث المطالبة بالاستقلال، فاشترى الحاج أحمد الشَّكروني المحل المعروف ب"مقهى الدْرُوجْ"؛ وقد كان متجرًا لبيع الخمور في ملكية فرنسي اسمه "سَانْطُوسْ"  بعد أن أحرقه الوطنيون، وهو مقابلٌ لمسجد خَرْبُوشْ، واشترى قريبُهُ  المحلَّ الذي نتحدث عنه؛ والذي صار يُعرف في الأوساط المراكشية والخارجية ب "السُّورْبُونْ". يُلاصقه مَرْأَبٌ للحافلات التي كانت تربط المدينة بالصويرة، وعلى يمينه الطريق المؤدية إلى ساحة باب الفتوح، وعلى يساره حَمَّامٌ تقليدي فخمٌ؛ تحولَ الآن إلى مسجد، وفي مواجهته ساحة جامع الفنا.
هذا الفضاء تَأَرْجَحَ بين زمنين : أولهما له سحرٌ أسطوريٌّ يُشعركَ بالدِّفْءِ والحميمية         و الألفة، وهو ممتدٌّ من بزوغ الاستقلال إلى نهاية الثمانينيات، و ثانيهما له نكهة العصْرَنَةِ الجارحة الباردة الصمَّاء التي تراكَ جَيْبًا سمينا ومبتسما، لا إنسانا له مشاعرُ و أحاسيسُ، تحسبُ عليك الدقائق والثواني، وهو ممتدٌّ من التسعينيات إلى الآن، فقد لبس فيه هذا الفضاءُ لبوسًا آخر مُبَهْرَجًا، وقناعًا ذا ملامحَ " مِيدُوزِيَّةٍ"، وتسمى ب "أَرْكَانة" رغم أن رخصة تداول الحياة فيه ما تزال باسم مالكه الأول. أليست هذه مفارقة الزمن المراكشي ولُعبتَه ؟!
هبوب الفَراش الثقافي عليه:
كانت ثورة الطلاب في فرنسا سنة 1968م قد أسقطت دُوكُول، وفرَدَتْ أجنحة الحرية، وأعطت شباب العصر نبضًا مُغايرا في الحياة، فتدفقوا على سُورْبُون مراكش من كل الجهات والتيارات كَفراش ثقافي ظاميء للمختلف والغريب، خاصة التيار الهيبِّي والتيار الوجودي المُناصر لِجَانْ بُولْ سَارْتر  ورفيقته سيمون دُوبُوفْوار. فتكوَّنَ من كل ذلك وهجٌ ثقافي حداثي، لم تعرف مراكش مثله من قبلُ، وفي مقهى السوربون بالذات.
نجلس في السوربون ـ المفتوحة على مدار الفصول والشهور والأيام وساعات الليل والنهار ـ لنحتفي بأبَّهة الزمن في مراكش، وبالخصوص لحظات الليل النضَّاخة بالبهاء والمفاجآت، ولنرشف فناجين القهوة والشاي المُنَعْنَعِ المعطَّرِ بالزهر، ونقرأ الصحف والكتب، ونرسم ونعزف، ونرى الأصدقاء الدائمين المتلألئين كنجوم السماء. في عبق الليل نثرثر ونتحدث عن الثقافة والكتابة، وعن الرسم والشعر والموسيقى، عن المسرح والسينما، عن العلاقات العاطفية، عن الحلم بالسفر؛ الذي يذكيه فينا هدير الحافلات الرابطة بين المدن، والمُطلة بعيونها الفسفورية من مرائبها في جامع الفنا ككائنات تغريك باقتراف حلمك.
إنها تجربة ثقافية فريدةٌ في المشهد المراكشي، أبدعتها السوربون، فهي فضاءٌ واسع ومتنوع، كانت تلتقي فيه كل الأجناس والثقافات، فثمة طلبة وأساتذة، ومديرون، وموظفون، وتشكيليون، وشعراء وسينمائيون، وقصاصون، مسرحيون، وزجالون؛ أذكر منهم أحمد الحنفي الذي كان سُعفة مُلتهبةً تسير في أزجالها على سَكَّة النضال والالتزام أُسْوةً بأحمد فؤاد نجم والشاعر التركي ناظم حكمت. لقد سجن وعُذِّبَ واضطهد، وتَرَكَ بِنْصَرَهُ في مَخَافِر الشرطة، لكنه ما انفك يحمل كتابي "ما العمل" للِينينْ، و " دفاتر السجن" لِغْرَامْشِي حتى مات ميتَةً مُفجعةً  تحت سقيفة أحد الرجالات السبعة بمراكش، كما كان هناك عاطلون، وكائناتٌ مفارقةٌ لا تخرج إلا ليلا.
فبعد نكسة يونيه 1967م وما تلاها أمسينا "عُراةً" نجلس أمام أعين المارة، نتحدث عن الثقافة والأدب، عن تجاربنا وطموحاتنا، عن همومنا ومشاريعنا، عن ماضينا ومحلومنا. فأين كل ذلك اليوم؟ بعد أن تحولت السوربون؛المُشِعَّةُ ببساطتها وسَمفونيةِ أُكلاتها ومشروباتها؛ إلى مكانٍ باردٍ معلقة على جُدرانه المرايا كعيونٍ تتلصَّصُ عليك وتُعريك. فأنت لا تستطيع أن تشرب قهوتك فيه براحةٍ واطمئنان، لأنك تُحسُّ أن كل من بداخله ينظر إليك عبر المرايا، ويتجسَّسُ عليك، يتابع حركاتك وملامحك، فلا تملك إلا أن تنهض وتُغادر. إنها عملية مبنيةٌ على مكر السيكولوجيا لطرد الزبائن ب"لباقة" حتى لا يُطيلوا الجلوس، ورؤيةٌ نفعية لا تُقيم أي وزنٍ للجانب الثقافي في الحياة. ولذا لم يعد المكان عاجًّا بما ألفه في ماضيه من بشرٍ يأتون إليه ليلا في عربات "الكُوتْشِي" مُرتدين حُلَلَ السهرة الأنيقة، بعد خروجهم من العلب الليلية والمَراقص والفنادق الفخمة، ليُكْملوا مُتعتهم فيه حتى آخر خيوط الفجر، وليَعُبُّوا سحر المدينة القديمة كما يَعُبُّهُ أهلها.
اليوم نَرْكُنُ إلى المقهى، لا لنتحاضن ثقافيا وفكريا، بل لننشر أنفسنا وسيقانَنا المتهالكة والمتآكلة من الداخل، ونتجرع الصمت والريبة، بعد أن كنا في السوربون نؤرخ لعلاقاتنا الثقافية بها منذ مراهقتنا إلى شبابنا المتوثِّبِ. لقد تبادلنا كتبا كثيرة ومجلات عديدة، وأشرطة غنائية ملتزمة، وفتحنا الحديث عن أفلام شاهدناها ك "حالة حصار" و "الفراشة" و"المومياء"، وذلك من أجل إغْناء ذواتنا، وفهمِ حركة الإنسانية.
فالسوربون قامت بدور هامٍّ في الحياة الثقافية والفكرية والفنية بمراكش، فهي كانت تَعُجُّ بالنظريات والأفكار والنقاشات الحادَّة المتزنة، وكذلك بالإبداعات كلما تذكرتها الآن تذكرت "مقهى الفيشاوي" الذي كان يرتاده نجيب محفوظ ومُريدوه،و"مقهى ريشْ" الذي كان يرتاده الشاعر المصري المهووس بالمسرح نجيب سرور، و"مقهى مُونْبَارْنَاسْ" و"سان جيرمان" بفرنسا.
كانت السوربون ترسمُ أفقا للإبداع، شأنها في ذلك شأن مقاهي المدن الليلية العالمية، ولا حاجة هنا إلى التذكير بالفلاسفة والمبدعين والمفكرين الذين كانت عطاءاتُهم وليدة المقاهي. أليس "الوجود والعدم" الذي هو أهم كتب سارتر الفلسفية وليدَ المقهى؟
كان الخيال طائرا حُرًّا نُطَارِدُهُ في السوربون، لتأسيس وجود حَيٍّ،  وحياةٍ ممتلئةٍ غنًى عبر مجازات واستعارات جديدةٍ، نَعتبرها أحجارَ بناء أساسية في هذا التأسيس. فقد كانت كلمة الخيال Phantasia ( = بالمعنى الإغريقي) تُطلق في أوعائنا تجليات الأشياء، فكما تُدرَكُ الأشياءُ بتخيلها تكُون التخيلاتُ هي كذلك مُدركات، وتشمل الأحلامَ والرؤى، وكل الحركات التي في الوعي. وبهذا نخترق القصورَ الذاتي المتميزَ للعادات السلوكية، والتفكيرَ النمطي الذي يتحركُ فيما يشبه العادات العقلية،  من ثمة نصبح في جوهر الوجود الإنساني، فنطرح الأسئلة القادرة على خلق البدائل، وذلك لأن الأفكار هي تمثلات، والتمثلاتُ من نسيج الخيال نفسه؛ الذي هو في أساسه تصورٌ للغايات، وتمثلٌ له.
شخوص أَطَّرت طقوسه:
في سوربون مراكش تفيض الحكايا الأسطورية عند حدود العقل ويفيض في دواخلنا شيء غامض يربط جوانحنا بجوانح العالم، ويُوَحِّدُ زهونا الأجوف بذواتنا وانفعالاتنا، وغضبنا الذي يليق بكائنات ليلية تعتقد أنها نتيجة روح العصر، وأنها تمتلك اليقينَ، وتعرفُ الوجود الإنسانيَ الحميمي من خلال الخيال الذي نسجته هناك، فكانت أشبه بالحصان الأسطوري المجنَّح ( = البيجاسوس Pegasus)، تضرب الأرض بأقدامها، فتنبعث الحياة من ماء محلومها، وتطيرُ إلى السماء لتقطف نجومَ المستقبل.
وتؤطر كل ذلك الفيضِ من الحكايا شخوصٌ ليليةٌ، هي بهاراتُ السوربون وتعويذتها المشتعلة بيد قدرٍ مبهم. ومن هذه الشخوص:
|    المختار ادْهبْ : شخص طويلٌ، ذو بنية مفتولة، حافي القدمين، حليق الرأس، قمحيُّ البشرة، كأنه أحد أبطال الأساطير الغابرة. كان تُرجمانا مُحلفًا في "بيرُوزْنِيبَرْ"المجاور لقصر الباهية، والذي كان على رأسه موظفٌ فرنسيٌّ سامٍ، يجمع بين المهامِّ الإدارية والاستخباراتية. ولظروفٍ ملتبسة طُرد المختار من عمله، وصار حالةً لا عقلانية في مراكش، ووشْمًا في صحوها، لا يعتدي على أحد، ولكنه إذا اُسْتُفِزَّ قفز قفزة عملاقةً، وصاح: (أُمُّكْ..أُمُّكْ).ولم تكد تخلو ليلة السربون منه، فقد كان يأتي، ويأخذ قهوة سوداء، ويجلس على الطاولة، ثم يخرج أوراقا بيضاء وقلم الرصاص ويشرع في الكتابة إلى أن يمتلئ  بياضه، ثم يقفز مخلفا وراءه صيحته المعهودة، قابضا على مكتوبه في صورة كرة ورقية. ولكم تتبعته خُفية لألتقط تلك الكرة الورقية حين يلقيها، فلم أفلح إلا مرة واحدة. ولما فردتهُا ألفيتها مكتوبة بحروف لاتينية أنيقة، لكن كلماتها ومعانيها غير مفهومة، فهي خليط من اللغات لا يستقيم معناه ـ إن كان له معنى ـ إلا في ذهن كاتبه، وياما استلفتت شخصيته رواد السوربون، حتى إن شابا كنديا، يشبه شعر رأسه عش اللقلق،لم يتمالك نفسه ذات ليلة حين رآه يرقص رقصات غير معهودة ويقفز عاليا قفزات لولبية، فصاح: هذا زوربا المراكشي. وزوربا،هو بطل رواية " زوربا اليوناني" لنيكوس كَزَنْتَزَاكِسْ 1883م ـ 1958 م.
|    ماماد : رجل خِلاسيٌّ قصير أصلع، يمارسُ ألعابه البهلوانية ـ أمام السوربون ـ على دراجة هوائية عارية إلا من الموقد والسرج والعجلتين، تارة يضع رأسه على السرج رافعا أطرافه وجسده إلى أعلى في وضع عمودي، وتارة يضع إحدى يديه على السرج جاعلا جسده وبقية أطرافه في وضع أفقي والدراجة تسير، وفي كل وضع من الأوضاع البهلوانية هاته ينتزع تصفيقات الرواد،كل ذلك لقاء سيجارة، أو كأس شاي لا غير.
|    الكبَّاص: هذا هو لقبه وهو ممثل اشتهر بدور " مُبْسِيطْ" في مسلسل "الأزلية" الإذاعي، الذي أعده وأخرجه ومثل فيه الممثل المغربي الكبير محمد حسن الجندي، فقد كان الكباص ممثلا موهوبا، وفكاهيا نادرا قبل أن يلتحق ب" جمهورية مدمني الغولِ"          = الكحول الخالص" في عرصة مولاي عبد السلام وينتهي نهاية تراجيدية. إن فكاهاته ونكاته وحكاياته كانت الملح الذي افتقدته السوربون بعد وفاته.
|    طبيبُ الحشرات: شخص قصير نحيف بنظرات سميكة، ثائرٌ بطبعه. فهو في النهار يقيم حلقته في الساحة منتقدا الحال والأحوال والأوضاع، بخيال أغرب من الغرابة، وأحد من السكاكين،الأمر الذي عرضه للاعتقال وكثير من المهانات، ولكنه لم يَتُبْ قطُّ، وفي الليل يَدْلِفُ إلى السوربون ويقتعد مكانا قَصيا ليدَخِّنَ،ويطلق لخياله العنان حيث ينصبُ قدورا ضخمة بحجم جبال الأطلس يطبخ فيها الجلادين والظلمةَ والمنافقين والطغاة، وكلما ألقى بواحد في قِدْرٍ من القدور المشتعلة تحتها نارٌ كونيةٌ سمَّاه باسمه. وحين تنضَحُ تلك القدور يدعو: السلاحفَ، والأرانِبَ، والبومَ، والغربانَ، والبغالَ، والحميرَ، والزرازيرَ، والقردَة، والجرادَ، والخنافِسَ، والجنَّ، وثلاثة عشرَ ملاكًا يعتبرهم الأعمدةَ التي تحمي الفقراء من سقوط الدنيا على رؤوسهم، إلى الوليمة التي هيأها لهم في قدوره تلك. وكثيرا ما تساءلتُ عن الرابط بين خياله المُغرق في السوريالية، وبين خيال الرسام عَباس صلادي الذي كان لا يغشى السوربون إلا لِمامًا لِبُعْدِ سكناه.
|    المرأة الحوزية :  شخصية نحيلة، قَمْحِيَّةُ اللون، ينسدلُ شعرها على كتفيها إلى حدود الظهر،حافية القدمين، لا تظهر إلا لَيْلًا، صَوْتُها آسٍ وجارِحٌ حين تُغَنِّي. من عادتها أن تدخل إلى السوربون، وتأخذَ فنجان قهوة، ثم تخرج وتجلس على الرصيف لتشربه بالتذاذٍ مع دَخِينَتِهَا، وحين تفرغُ منه تنطلق في الغناء وكأنها نَايُ أُورْفْيُوسْ يخترقُ الليل، ويشدُّ إليه القلوبَ قبل المسامع..صوت يتيمٌ ينزف حرقةً بأغانٍ حوزيَّةٍ تتمرأى فيها تضاريسُ أزمنةُ السِّيبَةِ والقهر، وجبروتُ القواد أثناء مرحلة الاستعمار، وجراحُ المرأة الفاغرةُ في جسد الزمن المغربي.
و إلى جانب هؤلاء الشخوص المؤطرين لطقس السوربون، كان هناك في قلبها أدباء ومبدعون كعبد القادر شبيه الإعلامي والناقد الأدبي والسينمائي الملقب - رغم صِغَرِ سِنِّهِ - بالشيخ، لحكمته ونضجه الفكري، والإعلامي الأديب محمد الصقلي المشتغل الآن في الإعلام المسموع بإيطاليا، وأخيه مولاي الغالي الصقلي المؤلف والممثل المسرحي، والشاعر المرهف المناضل نور الدين الأنصاري المقيم حاليا في فرنسا والمشتغل بالسينما وحقوق الإنسان، والقاص المتميز أبي يوسف طه، والتشكيلي القدير عمر بُوركْبَة، والرسام شفيق الإدريسي، والناقد الأدبي عبد العزيز بْنْسْمَاعِيل؛ الذي قُتل في ظروف غامضة، وغيرهم من الذين امتطوا حصانَ الإبداع، فصاروا اليوم علامةً مضيئة من علامات الزمن المغربي المعاصر.
هذه هي سوربون مراكش؛ التي كانت من أجمل فضاءاتنا الفكرية والثقافية، وأعظمها انفتاحا على العالم، منذ فجر الاستقلال إلى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. هنا تَفَتَّحَ زمن ثقافي غير الزمن الذي تسبحُ فيه المدينة، فقد كنت أتصور الزمن في السوربون كما أشكالُ ساعاتِ سَلْفَادُورْ دَالِي المشهورة، لكُلِّ رائدٍ من روادها زَمَنُهُ الخاص. وهنا أيضا دارت نقاشاتٌ مُبهجة للروح والعقل حول كتبٍ وتيارات فكرية حديثة تضعُكَ في قلب الوجود الحي. فلأول مرة فهمتُ معنى الحرب القذرة في الفيتنام، وعارَ فرنسا في الجزائر، وسمعتُ عن "الإنسان المتمرد" لألبير كامي، و ثلاثية"دروب الحرية" لسارتر، و "قوة الأشياء" لسيمون دُوبُوفْوَارْ و "الصخب والعنف" لِفُولْكْنِرْ، و "عشيق الليدي تشاترلي" التي أثارت ضجة في بلدها الأصلي بريطانيا، ثم في العالم، وكذلك رواية "الدكتور زيفاجو" للشاعر الروسي الكبير بُوريس باسترناك. فسارعت إلى البحث عنها، واقتنائها من بائعي الكتب القديمة والمستعملة؛ الذين كانوا في ساحة جامع الفنا ـ وأمام السوربون بالضبط ـ يُشكلون صفًّا طويلا على شكل سُورٍ، يُذكرني بسور الأزبكية في القاهرة الذي تباع فيه الكتب القديمة كذلك، والذي انطلق منه شيخُ الناشرين المعاصرين المصريين المتوفَّى عام 2009م. فعند هؤلاء الباعة التقيت بالدكتور نجيب البهبيتي؛ وهو أستاذ مصري يُدرسُ في كلية الآداب بالرباط، ويأتي إلى مراكش بالقطار ليعطي دروسا في كلية اللغة العربية بها؛ رجلٌ مهِيبٌ ومتواضعٌ، اكتسب شهرة واسعة في المحيطِ العلمي بكتابيه "تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الرابع الهجري" و"المعلقة العربية الأولى" الذي هو موسوعة علمية و أدبية وتاريخية ولغوية تسافِرُ بكَ إلى جذور الشعرية العربية الأولى..التقيتُ به عند علاَّلٍ؛ وهو رجلٌ أميٌّ بدينٌ يمتهن بيع الكتب، ويتعصَّبُ لجمال عبد الناصر؛ في حالة غيظ كظيمٍ، ووجومٍ حكيمٍ تدلُّ على مدَى تَأَلُّمه العميقِ، ولما سألته عن السبب قال: إن هذا الرجل يَصِمُني بأنني خائن للعروبة، وعاقٌّ لعينٌ لعبد الناصر. فقلت له: لا عليكَ يا دكتور، فهذا شخصٌ أميٌّ، خربت عقله إذاعة "صوت العرب"، وسكنت روحه الأوهامُ التي كان يبثها أحمدُ سعيدٌ من خلالها ، تعال نشربْ شايا، وأوينا إلى السوربون، وهناك أفضى لي بمعاناته مع طه حسين، وجمال عبد الناصر، والقوميين العرب، والشيوعيين، وبما تعرَّضَ له من حيفٍ وقهرٍ، فأكبرْتُ الرجل، وأكبرت علمَه وشجاعته، وافترقنا حين انطفأتِ الحمرةُ التي كانت تُعمِّمُ نخيل الحمراء بعمامةٍ أرجوانية. ولما مات بعد سنوات نسجتُ حُزني عليه في قصيدةٍ نشرتها جريدة العلم في أربعينيته.
استراحته في النسيان:
تعتريني الآن قشعريرة حزن موجعة، وموجة غضب عاتية، بسبب ما آلت إليه السوربون..تلك الفاتنة البسيطة كبساطة أهل مراكش وسماحتهم، والتي أطلق عليها روادُها هذا الاسمَ بعفوية ومحبة فأصابوا في التسمية. وكم من تسمية أنتجها العشقُ فكانت أصدق     و أبلغَ من التسمية الأصل.
إننا نقتل أجمل أمكنتنا لصالح حفنة من الدراهم قد تنضب مع الزمن، وعند ذاك سندركُ فداحة ما فعلنا بذاكرة الأجيال. فالسوربون الآن تستريحُ في النسيان ـ اسماً وذاكرة ـ بعد أن أعطت للوطن زمرة من المبدعين الذين حلقوا في فضاءات الذاكرة الكونية، وبعد أن كانت ملتقى عالميا تِلْقائيا للثقافات والهويات والحضارات، ورمزا موحيا بالمتعة والإبهار لكل من سمع بها في الجهات الأربع.
سوربون مراكش، اسمٌ له جاذبيةُ المعرفة المدهشة، والبساطةُ المؤسطَرَةُ. فإلى أي حدٍّ يُمكنني تصديق أن هذا الفضاء بحكاياته ومساءاته وصباحاته وشخوصه و أغنياته وحكمته، يَسْكُنُ قلبي، ثم يرفض - وربما لعقود - أن يقلع عنه لينزل منازل أخرى في هيأته الجديدة؟ أوليس هذا هو السبب الذي يجعلني إذا سمعت اسم القاهرة أتذكر حالاً نجيب محفوظ، أو طنجة فأتذكرُ على الفور محمد شكري، أو مراكش فأتذكر "سُورْبُونَهَا"، وتلك الحياة العبِقة الفوارة بكل مبهج و مُغْنٍ، وأردِّدُ مع نفسي - وأنا في زحام التحولات البراقة التي تُجمِّلُ الظاهر بما يُسرِّعُ في موت الداخل - : يا لنا من تعساء ! عديمي القلب، نقتل الجوهر الأسمى الكامن في داخلنا، ونريدُ الصعود إلى الأعالي بلا رحمة !.
أعتقد أنه ما من طالب أو مثقف داخل المدينة القديمة إلا وترك بعضا منه في سوربون مراكش، أو أخذ من روحيتها وحميميتها وثرائها الكثيرَ خلال حياته. فمن زار مراكش من الوافدين عليها؛على اختلاف مشاربهم؛ ولم يقصد "السوربون" فكأنه لم ير من مراكش شيئا.


    

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا