أنطوان جوكي-باريس
بعد تسع سنوات على نصه السردي الأول "علبتي السوداء"، يعود الكاتب والمسرحي المغربي دريس كسيكس إلينا بنص جديد صدر عن دار "المنار" الباريسية تحت عنوان
"ينحدر الإنسان من الصمت"، ويشكل محاولة جريئة لإعادة ابتكار فن السرد من خلال مجموعة قصص استقاها من سيرته الذاتية.
وتجدر الإشارة بداية إلى أن بنية هذا النص الذي يتألف من أربعة "أسفار" تستحضر النصوص الدينية القديمة، علما بأن كسيكس لا يهدف فيه إلى مقارعة هذه النصوص أو التماثل بها بقدر ما يسعى إلى قراءة مساره كإنسان وكاتب، وإلى مراجعة الخيارات والدوافع التي تحكمت بهذا المسار. وفي طريقه، لا يتردد في تأمل عالمنا الراهن بعين بصيرة، تارة غاضبة ومتشائمة، وتارة آملة ورقيقة.
الدافع الأول لكتابة هذا النص هو سؤال وجّهه صحافي للكاتب وطلب منه تحديد تاريخ نصوصه الأولى. وفي سياق إجابته على هذا السؤال، تحضر إلى ذهن كسيكس أولا فقرة شعرية قرأها في صغره وشكلت المحرك الأول للكتابة "ينحدر الإنسان من الصمت/ وحده، الكلام المهموس يعبره/ بخطوة رشيقة، يغادره جسده/ ويسقط في السديم".
موجة الزمنبعد ذلك، ينتقل كسيكس إلى مرحلة المراهقة التي أمضى خلالها وقتا كثيرا على صخرة أمام البحر أو في مطالعة روايات جويس وميلفيل وكونراد التي يشكل البحر إطارها، الأمر الذي أجج لديه باكرا الرغبة في مغادرة اليابسة والرحيل "اختر، اسلك طريقا، ارحل وتجنب موجة الزمن العملاقة التي تحث على العجلة ويُحتمل أن تبتلعك إلى الأبد".
لكن لأنه بقي لفترة طويلة خائفا من النزول في الماء، نراه يتردد على مقهى شعبي يتعرف فيه إلى العجوز الحكيم با علال الذي سيقول له "يمكنك أن تذهب إلى طرف العالم. لكن إن لم تفجر سدود الخوف التي تعقد أحشاءك، ستبقى سجين وضعك كعبد".
وفعلا، طالما شعر كسيكس بأنه سجين مكان مخيب للآمال، يخنق طموحاته ويجبره على السير وحيدا. لكن ما سيثنيه عن الرحيل ويدفعه إلى تعلم "أن نكون بشرا بين الذئاب" (كيبلينغ) هو شعوره بأنه لم يفِ كل دينه تجاه الأرض التي وُلد عليها، وتجاه صديقه الشاعر علي الذي قُتل من دون أن يحقق كسيكس في ظروف اغتياله.
علي الذي ذكّره بأن أي نص "هو، في أفضل الأحوال، ملجأ، منطقة مستقلة، حيث نرقع إنسانيتنا، حين لا نتمكن من ترقيع إنسانية الآخرين"، وحثه على إعادة قراءة نصوصه المهملة وما كان يدونه على الهامش من أجل وضعه في صميم حياته.
مصدر الغضب
وهذا ما يفعله كسيكس في نصه الجديد الذي يشكل أيضا بحثا عن مصدر الغضب الذي يعتريه من الواقع المحيط به ويجبره "تارة على الغوص في صخب المدينة، وتارة على الابتعاد عنها"، ضمن رغبة واحدة "كشف كل شيء، ليس كصحافي يسعى خلف سبق، بل ككاتب يبحث عن مطلق".
وهذا ما يفعله كسيكس في نصه الجديد الذي يشكل أيضا بحثا عن مصدر الغضب الذي يعتريه من الواقع المحيط به ويجبره "تارة على الغوص في صخب المدينة، وتارة على الابتعاد عنها"، ضمن رغبة واحدة "كشف كل شيء، ليس كصحافي يسعى خلف سبق، بل ككاتب يبحث عن مطلق".
وفي هذا السياق، يقارب الكاتب الطفولة المنسية وجحيم العائلة، والتزمت الديني، وآفات مجتمعاتنا التي "تُسلّع" الديمقراطية وتُحول الحرية إلى شيء مبتذَل والمغفلين إلى أبطال، وهي جردة حساب يأمل من خلالها في ترتيب فضاء له مخفف من كل ما يثقل كاهله، وبلوغ مصدر عذاباته من أجل تجاوزها.
ولا شك أن "المصدر" أو "الأصل" هو كلمة سر نص كسيكس والخيط الخفي الذي يوجه السرد فيه. فحوله، يدور الكاتب مرارا قبل أن يستحضر ما قاله له راع مسن وأمي "الدروب التي تقود إلى الأصل لا متناهية/ ذكرياتنا في حالة تحول دائم/ حين نتعقبها، لا نسير أبدا إلى الوراء".
وهذا ما نستشفه في نصه، حيث لا يبدو المصدر أو الأصل كمنطقة غادرها كسيكس منذ فترة طويلة، بل كإيقاع، أو نغم ضائع، أو اندفاع مساري. وكذلك الأمر بالنسبة إلى ذكرياته التي تحضر أصداؤها بحرية كنوتات للحن مرتجَل ودائم.
باختصار، يقترح كسيكس في نصه الأخير -المرفق برسوم لمواطنه الفنان سي محمد فتاكة- تأملات ثاقبة في معنى حياة مكرسة للكتابة، أو "سرديات شخصية تبعد كل البُعد عن السيرة الذاتية التقليدية" (بونتاليس)، كما نقرأ في فاتحة النص. سرديات لا تشكل قصصا منجزَة بقدر ما هي خطوط فرار ينعكس عليها قلق الكاتب وشكوكه وقناعاته.