قصة قصيرة المرهونة نجيب الخالدي
- انظري أيتها الوسخة، الصحون لا تزال مطبوعة
بالمرق وكأن الماء لم يلمسها، انظري إلى هذا الكوب لا يزال قعره أسود، سوّد الله أيامك،
اِقتربي.
تزيد نحوها بأنصاف خطوات، وقلبها واجف وعيناها مرتجفتان
لا تبرحان الأرض...
تطول يدها إلى شعرها، تجرها نحو طاولة ملتصقة بالأرض،
وقد تراكم عليها ما أفرغته من أكواب وصحون وأباريق... تعيد تنظيفها وتجفيفها من جديد،
ثم تشرع في ترتيبها على الرفّ قطعة قطعة. تستجيب لنداء جفنة التصبين التي تكدست بجانبها أكوام الملابس الخشنة المثخنة بالبقع الطينية
والدهنية، تفرغ فيها ماء استخرجته للتو من البئر، تستعد يداها الزرقاوان لمصافحة الصقيع،
فتنفخ فيهما نفَسها الساخن الذي يتضاعف في أصابعها الرقيقة المسلوخة من كل جانب. لم
تكن قد شرعت في التصبين بعد، حتى يصلها نداؤها يزلزل سمعها:
- أراك قد نسيت "الفراكة" أيتها
البلهاء، أراها أمامي هناك، هيا خذيها، أسرعي، لكن قبل ذلك، لملمي ما تناثر من الحطب،
وضعيه في مكانه بجانب الموقد، هل تسمعينني...
في الليل يدخل الغرفة مشتعل الرغبة، يجدها في الفراش
وقد اختطفها النوم إلى أحضانه، تدور عيناه في مَحجِريهما، يبلع فيضان لعابه، ثم يهفو
إلى الفراش بجانبها يهزهزها، فتجد نفسها ملقاة على قارعة اليقظة تفرك عينين تأبيان
الِانفتاح، تساعده في إزالة ملابسها، يغوص في جسدها الرطيب البارد الممدد، يخنق أنفاسها، يلتهمها بشراهته التي لا تنتهي في عز هذا الليل
البهيم.
تصيح في سمعها الديكة، تتسلل من الفراش البارد كالموت،
تهمّ بمبارحة الغرفة في هدوء تام حتى لا توقظه، يئنّ إحساسها تحت وطأة الأشغال التي
تنتظرها، تتصاعد دقات قلبها وهي تتأهب ليوم جديد من الضرب والقرص ووابل من الشتم وزخات
الإساءة. تداهمها يده، تلقف ذراعها لتقودها إلى صقيع الفراش من جديد، يوجّه استلقاءها
باشتهاء رغبته،وبشراهته المعهودة،
يرتقي عليها يلتهم فطوره الشهي مبكرا.
يداها ملتصقتان بالضرع، يتسلل إلى سمعها كلام أبيها
وهو يُطلع أمها بأن الأمور تسير على ما يرام، وأنها ستنقطع عن الدراسة ابتداء من الغد،
وتوقيع العقد سيكون في المقاطعة بالمدينة بداية الأسبوع...
ينزل الحليب في عمق الإبريق، و تنهمر الدموع حرّى
من المآقي. تعلق أمها:
- سأهتم بتصبين ما تبقّى لها من ملابس، ثم
نذهب إلى الحمام في المدينة... مسكينة الغالية بنت أختك، ستبلغ في الحصاد سنّ السادسة
عشرة، بارت المسكينة...
تسمع صوتها يناديها:
- أيتها العجفاء، ألم تنتهي بعد؟ متى ستشعلين
الموقد، متى ستحضرين هذا الحليب حتى تهيئي فطورنا...
ترتجف أصابعها الرقيقة على الحلمة، يداهمها الغثيان،
تهرول الى المرحاض، تخرج منه بدوار يداعب سقوطها على الأرض. يصلها صوتها صدى يقرع سمعها:
- لا تقولي إنك مريضة أيتها المريضة بالكذب،
لم تعودي صالحة لهذه الدار، ذنبي أنا التي
جاريت ذلك المشؤوم في اختيارك...
ترد عليها
بصوتها الخافت المنكسر:
- أرجوك... أريد أن أستريح قليلا...
- ترفعين عليّ صوتك... فلتستريحي في قبرك، ولنسترح نحن منك...
لكن، لن يدوم الوقت طويلا، استعدي لتهييئ أغراضك أيتها الجرباء.
ترمقهما العيون، ترنو إليها وقد تسلل الذبول إلى
عودها الفتي. تقاوم المشي بالمشي، يعثِرها لباسها والحفر المترامية على طول الطريق،
فتكاد تسقط على وجهها، لولا تمسكها بجموح رغبتها في الوصول.
أمام الجميع، تزيحها عن جانبها مجاهرة:
- تسلّموا ابنتكم... لم تعد صالحة لابني...
تسود المكان جلبة... يتدخّل الأب يسألها وهو يمسكها من ذراعها:
- في هذه الحال، أين هو المبلغ المتفق عليه
في العقد؟
لم تكترث لسؤاله، فتقدح عيناه شررا، وبصوت مجلجل
يردف:
- هكذا اتفقنا... سيحضر ابنك الدين الذي وقّع
عليه وإلا...
لم يكن قد أنهى كلامه بعد، حتى تفجرّ المكان صراخا
اهتزت له أشجار الدوار اليابسة. يداها ممتدتان نحو العلياء، تصرخ رحمة ملء جوفها، يتعالى
صوتها يشق عَنان السماء، يتهاطل زخات حارقة... وفجأة، يتراءى جسم غريب أسود يسقط منها،
يتدحرج على الأرض وسط دماء طفقت تجري في الدوار أنهارا.