منهاج الاصلاح والصلاح..*احمد بابانا العلوي
يتضح مما سبق أن السيرة النبوية حظيت باهتمام الدارسين
والباحثين من المؤرخين والكتاب وكان للمستشرقين دور أساسي في قراءة النصوص وتحليلها وفق المنهج العلمي التحليلي .
ومن نافل القول أن تعدد الأدبيات في موضوع البحث
التاريخي والكيفية التي تنبني بها المعرفة التاريخية في كونها سيرورة ذهنية منظمة مكونة
من عمليات فكرية متناغمة ينبغي الوقوف عليها ولو بتركيز شديد.(82).
فالبحث التاريخي
ينبع من طرح مشكلة أو موقف يدفع الباحث إلى التفكير في حل له ويندرج الحديث عن الإشكالية
ضمن التطور الذي حققته المعرفة التاريخية من تاريخ حدثي حيث الكتابة التاريخية مسطورة
داخل دائرة السرد لجملة الوقائع والأحداث الماضية،
من أجل إدراك التجربة الإنسانية في بعدها الزمني
والمؤرخ في كل هذه العملية يعتبر قصاصا مبتكرا للحبكة التي يصوغ بها الأسباب والنتائج
(83).
وهناك التاريخ الإشكالي الذي يقوم على صياغة الإشكالية من خلال إثارة الأسئلة
وطرح المشكل، ومن المؤكد أن للسؤال أهمية كبرى في بناء المعرفة فثراء الفكر التاريخي
و خصوبته تترجم بالإشكالية التي يطرحها المؤرخ، فالفرضيات إذا كانت ضرورية في العمل
التاريخي فإن العبرة ليست بصياغة الفرضيات وإنما بإثبات صحتها أو خطئها، وذلك بترتيب
الحقائق في نسق منطقي محكم يجعل من البحث التاريخي
عملا هادفا وموجها. ,إن المؤرخ يملك حسا تاريخيا
يتميز عن باقي الاحساسات الأخرى، ودون هذا الحس لا يعد مؤرخا، أن نملك حسا تاريخيا
معناه أن نفكر في الأفق التاريخي الذي يمتد متلازما مع الحياة ، فالحس التاريخي هو
حس واقعي إنه انصهار أفق الماضي في أفق الحاضر،
وهو الإنصهار الذي يحقق للإنسان كينونته بأحداثه نوع من التفاعل
بين أفق الذات في الماضي وأفقها في الوضع الراهن، أو في استشرافها للمستقبل .
نستنتج من هذا أنه إلى جانب الطبيعة السردية للتاريخ
فإن للتاريخ طبيعة جوهرية هي الطبيعة القصدية.
ومن هذه الوجهة يمكن القول بأن أهم معيار لدراسة الظاهرة الإنسانية يتعلق بمدى إسهام
الفرد في النظام الرمزي في حياة الجماعة ماضيا وحاضرا ومستقبلا.(84).
لأجل إعادة تشكيل الواقع وفق صورة جديدة قادرة على
أن تعيد وصفه وأن تظهره للمستقبل في ثوب مغاير،و ضمن هذا السياق سوف نتطرق لمفهوم النبوة والسياسة الذي تناوله العديد من الباحثين في إطار استقرائهم لسيرة النبي عليه السلام وتحليلهم لمضامين دعوته ورسالته الدينية والسياسية.
ولا ريب أن هناك تداخل وترابط بين الدين والسياسة
في التجربة النبوية ومن ثم فإن التفكير في تاريخ النبوة المحمدية وتجربتها العقدية - السياسية ـ من داخل
ثنائية مكة والمدينة ،العقيدة والشريعة ،الدين والسياسة،,الدعوة والدولة ،,ينبغي أن
يتحرى فيها الدقة المنهجية ,وأن يتفادى الحسم
والتعميم حيث يمكن قراءة تلك التجربة قراءة صحيحة. (85).
إن للسياسة معان كثيرة ولكل معنى من هذه المعاني اصطلاحه ,في العرف الحديث وقد تولى النبي أعمالا
كثيرة مما يطلق عليه لفظ السياسة في عموم مدلوله
،كان النبي جامعا للطبائع المثلى (طبيعة العبادة وطبيعة التفكير وطبيعة التعبير الجميل
وطبيعة العمل والحركة ) ولكنه كان عابدا قبل كل شيء، كان تفكيره وقوله وعمله وكل سجية
فيه..
كان باعثا للإيمان
في حركة متجددة في الحس وفي الفكر وفي الضمير، فلا انقطاع عن الحس للعبادة
كل الانقطاع ولا انقطاع الحس للتفكير
كل الانقطاع، وإنما تفكير ينتظره العمل
وليس تفكير من ترك العمل ليوغل في الفروض ومذاهب الاحتمال والتشكيك.
ينظر إلى الجمال
في الوجوه التي يلمح عليها الحسن، لأن جمال الله هو الذي كان يدعوه إليه، كلما نظر
إلى خلق جميل فكر في الخلق فآمن بالخالق.
تلك هي نهاية التفكير
التي ينتهي إليها عقل مستقيم خلق للعبادة والعمل يعلم الناس الحقيقة الأزلية التي تربط
العبادة بالعمل..(86).
أسلوب يخرج من الفطرة السليمة وهو أسلوب يصلح لكل العصور إنه هدي الأنبياء الذين
يقيسون كل قول أو عمل بقياس الخير والصلاح، والمطابقة لسنن الصدق والفضيلة، وتأسيسا
على ذلك كان هناك ارتباط وثيق بين طبيعة النظام الاجتماعي وطبيعة التصور الإعتقادي .
وما من نظام اجتماعي يمكن أن ينشأ نشأة طبيعية سوية
إلا حين ينبثق من تصور شامل لحقيقة الوجود الإنساني ولمركز الإنسان في هذا الوجود وإن غاية أي نظام اجتماعي
ينبغي أن تكون هي تحقيق غاية الوجود الإنساني.
كما أن الحقوق المخولة للإنسان في هذا الوجود، هي
التي تحدد خط سيره وتحدد وسائله التي له حق استخدامها لتحقيق غاية وجوده، كما تحدد
نوعية الارتباطات التي تقوم بينه وبين هذا الوجود.
هذا الارتباط، وهذا التكييف هو وجه من وجوه الارتباط
بين التصور الاعتقادي، والنظام الاجتماعي، إنه منهج الحياة كله، بما فيه من مشاعر الأفراد،
وأخلاقهم، وعباداتهم وشعائرهم وتقاليدهم، وكل نشاط إنساني..
إن كل دين هو منهج للحياة، بما أنه تصور اعتقادي
أو أنه يشمل التصور الاعتقادي وما ينبثق منه من نظام اجتماعي بل من منهج يحكم كل نشاط
الإنسان، كما أن كل منهج للحياة هو بمثابة دين(87).
فالدين إذن يقدم الأساس التصوري الاعتقادي الذي
يقوم بين ضمير الناس وواقعهم، وبين وجدانهم ونشاطهم وبين حركتهم، ونواميس الكون...(88)،
ويندرج في هذا المضمار مفهوم
النبوة والرسالة باعتبارهما، مصدر التصور الاعتقادي
الذي تنبثق منه النظم الاجتماعية على اختلاف مذاهبها...
فالنبوة مشتقة من النبأ والنبوة بمعنى الإخبار والارتقاء
( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا).
الأحزاب 45-46.
وبالرجوع إلى الدلالات القرآنية لمفهوم النبوة والرسالة
سوف نجد أن النبي هو مخبر عن الله أمره ووحيه...
أما الرسالة فهي الإرسال (التوجيه)، فالرسول هو
المبعوث بشرع جديد أو بعث لتقرير شرع سابق ، فهو بالجملة مبلغ أما النبي فهو من أوحي
إليه،ولم يؤمر بتبليغ أصلا...
(ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم
والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله) (عمران 79).
يتضح مما سبق أن حقيقة الوحي والرسالة المشكلة للنبوة
التي هي التشريف بالتكليف لتبليغ أمر الوحي، والكتاب الذي هو مادة الوحي وأحكامه (هو
الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) التوبة
33.
ومن دلالة النبي والنبوة ندرك مدى حاجة الخلق إلى
الخالق..
إن الغاية الأسمى لهذه المهمة هداية البشرية إلى
الإيمان والارتقاء بها، ومن هنا الصلة بين الإيمان بالله والإيمان بالأنبياء، إن للأنبياء
دور عظيم في تربية البشر وهدايتهم وتوجيههم إلى الخير والحق والعدل.
(كما أرسلنا فيكم رسولا منكم، يتلوا عليكم
آياتنا ويزكيكم، ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) البقرة 150
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد
25)
لقد وصف القرآن الرسالات والكتب بأنها نور وهدى،
والنبوة وسيلة وتبليغ (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه
سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور، بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم )(المائدة
15-16.
فالأنبياء هم المرشدون والقادة لهداية الناس إلى
الكمال النفسي والخلقي....
والنبوة تحدد ما ينبغي أن يلحظ في جانب واجب الوجوب
من الصفات، وما يحتاج إليه البشر كافة، فجاءت النبوات مطالبة بالاعتقاد بوجود الله،
وبوحدانيته، وأرشدت إلى طرق الاستدلال على ذلك، كما جاء الشرع مطالبا بالاعتقاد جاء
هاديا للوجه الحسن فيه.
تحدد النبوة أنواع الأعمال التي تناط بها سعادة
الإنسان في الداريين...(89)
ومن خصائص عمل النبوة الإصلاح، وقد ورد لفظ الإصلاح
ومشتقاته نحو مائة وثمانين مرة في القرآن الكريم...
وقدم القرآن تقريرا وافيا، عن صفات الصالحين: يؤمنون بالله ويأمرون بالمعروف،
وينهون عن النكر ويسارعون في الخيرات، فهم يملكون رؤية عن المصير الإنساني للحياة الخيرة،
كما يملكون رؤية عن الوسائل التي تؤدي إلى تحقيق ذلك، يسمون بحس اجتماعي، يدفعهم للحركة
الدائبة،ويقومون من أجل الحق والعدل.. (90) .فلا يتصور في العقل العمل بغير علم او العلم بغيرعمل ،والانسان الصالح
هو الذي يجعل معرفة الحقيقة تنزل من العمل منزلة العلم،لان سعة العلم تؤدي الى سعة
الصلاح
..
وقد ذكر ابن خلدون بأن العرب، لا يحصل لهم الملك
إلا بصيغة دينية، من نبوة أو ولاية... والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب
الأمم، انقيادا بعضهم لبعض وللغلظة والأنفة، وبعد الهمة، والمنافسة في الرئاسة....
فقلما تجتمع أهواؤهم فكان الدين بالنبوة هو الوازع،
فذهب خلق الكبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم فإذا كان فيهم النبي والولي،
الذي يذهب عنهم مذموم الأخلاق ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق، حصل لهم التغلب والملك....(91)
يبين لنا ابن خلدون، دور الدعوة الدينية في نقل
أمم من التوحش إلى التحضر، لجعلهم مؤهلين لحمل رسالة تاريخية، بعد انقلاب طبائعهم،
وتبديلها بصيغة دينية...
فقد نقلهم الدين بالسياسة إلى التزام، والانقياد
المسؤول للسلطة، المنبثق من وازع طوعي بقوة الإيمان وضرورات العمران والتحضر، المحددة
للسبل التي ترقى بها الأمم والشعوب في قلب التاريخ..
لقد أمعن الباحثون في السيرة النبوية على التفسير
السياسي وذلك من خلال تتبع أوجه النشاط الديني والسياسي والاجتماعي الذي قام به النبي
بعد الهجرة إلى المدينة...
والحق أنه لا مناص من فهم طبيعة الفعل السياسي النبوي
لتقديم صورة شاملة عنه.
و لا شك أن العمل السياسي الموضوع في خدمة الدين
أكثر صعوبة على الفهم من الدعوة إلى الإيمان، نظرا لأن الواقع يكون معقدا أو معاندا
على الدوام، ويرفض كل محاولة لجعله نموذجا
تنزل فيه المقاصد وتتحقق فيه المصالح
و يتم فيه درء المفاسد ..
ومن ثم فإن ما قام به النبي، يعتبر عملا غير مسبوق
في التاريخ العربي فقد دعا إلى طفرة عملاقة، على صعيد الاعتقادات والعادات، فهل نستنتج
من ذلك أن النبوة كانت لها أوجه متعددة خلال الفترة المدنية، كما ذهب إلى ذلك
"هشام جعيط" انتهت إلى بلورة مفهوم الأمة الذي يجعل من النبي قائدا أو زعيما
سياسيا.
بمعنى أن العنصر المركزي للوظيفة النبوية وهو ما
سماه ماكس وفيبر
Max weber (النبوة الكاريزمية) الشاملة لكل الأدوار
التي تقوم عليها السلطة وأن هذه السلطة لها طبيعة "ثيوقراطية " وإن لم تكن
هناك دولة ثيوقراطية ، كانت هناك جماعة من المؤمنين تحت إمرة أو قيادة "النبي"
شخصية كاريزمية ترتكز على الوحي ...(92)
ويعتبر النبي منقذا روحيا وتاريخيا، فكان رجل عمل
ذا قدرات، كاريزمية وعقلانية، ويتحدث فلهاوزن عن ثيوقراطية لأن السيادة تعود إلى الله
الذي يوحي بواسطة القرآن، التعاليم والأوامر...
كان النبي قائدا وحكما فكانت سلطته في خدمة الدين،
لان الدين وحده القادر على توحيد القلوب وتأسيس أمة...(93)
إن إخضاع الحقيقة الدينية للواقع التاريخي كما تفهمه
العقلانية التفهمية، ودراستها كمعطى (وفق منظور الظاهراتية)، ليس لأن هذه الحقيقة الدينية
أدنى، من الواقع التاريخي بوجودها فيه، وإنما لكونها أعلى منه.
إن العقل يعود إلى التاريخ بحثا عن رؤية، وهو يقرأ
الزمان، فالعقل يبحث عن إظهار المعقولية في الممارسة الواقعية، وذلك باستعادتها على
مستوى مغاير (تجريبي)، وهذه الاستعادة ليست تجربية خالصة، وإنما هي مشغولة بالحاضر،
بما يتضمنه التاريخ، من حقائق، لأن هذه الحقائق هي التي تضفي الغنى على المفاهيم التاريخية،
ولذلك يزداد علم التاريخ غنى بما راكم من التجارب الإنسانية في الماضي...
وهنا يسود التصور الهيجلي مطبقا على الوحي والنبوة،
فهيجل لم يستبعد الفكرة الدينية للروح التي تتجلى في صورة الإيمان، وتحدث عن فكرة المطلق،
وهي تتجلى عبر مراحل جدلية تشكل تاريخا عالميا، فالأولى النظر إلى جدلية الروح أو النبوة
المتجلية في التاريخ الواقعي، وليس إخضاعها للواقع التاريخي،لأن النبوة ليست معطى تاريخي
كما أن زمنية الوحي ليست زمنية تاريخية، فما هو تاريخي في الوحي هو تنزيله منجما
(94)، و بالتالي فإن التاريخ النبوي هو معطى الوحي والنبوة في تفاعلهما مع الواقع التاريخي
وصيرورته العمرانية والحضرية...
فالنبوة ظاهرة إيمانية فاعلة في التاريخ، ورواية
كتب السيرة، والمغازي هي مجرد شواهد على تأثير النبي في الواقع وتمثل المجتمع للقيم
الإيمانية باعتبارها قيم وجودية....
إن العقلانية التفهمية تنصب على دراسة الأفعال والسلوكات
التي لها علاقة وهدف، وقيمة، وذلك لتفهم المعنى الذي يعطيه الفاعلون لسلوكاتهم وتصرفاتهم...
(95)
ومن هذا المنطلق فإن المنهج العقلاني التفهمي يلح
على التاريخانية، ويستبعد الربط بين التاريخ والإيمان وظاهرة النبوة..
إن الأسئلة التي يطرحها الباحث على الأفعال الاجتماعية،
والتاريخية والثقافية، تحمل تجاربه التي تفرض عليه اختيارات مقبولة، وهذا يفيد أن العلوم
التاريخية تجهل المعنى النهائي ولذلك تجدد أسئلتها باستمرار....
إن العقلانية التفهمية، لا تدعى فهم كل شيء، فهي
لا تفهم إلا ما هو عقلاني، وهذا الفهم العقلاني للحوادث والأفعال الإنسانية هو تاريخي
كما أنه فهم سسيولوجي يقوم بإعادة بناء مفاهيمي لهذه الحوادث، وفهم ثقافي لأنه يتجه
لربط الحوادث بالقيم.
ثم إن المنهج يركز على دور المعتقدات في صناعة التاريخ
ضدا على التصور المادي للتاريخ، ومن هنا إعطاء الأهمية للكريزما أو للسلطة الإلهامية،
عند دراسة المعتقدات الدينية، دون إهمال دور العوامل الاقتصادية في قبول المجتمع للقائد الملهم...(96)
إننا نستعظم الأحداث في التاريخ الإنساني بقدر ما
فيها من فتوح الروح، لا بما فيها من فتوح البلدان، ومن غير الجائز أن تفتح للإنسان
آفاقا جديدة من عالم الضمير بغير عظمة روحية يوحيها الإيمان.. (97)
إن النبوة وصلت الإنسان بقوة الأزل والأبد وجعلته
يمتد طولا وعرضا، في هذا الكون الهائل يرتبط به في أعماقه بوشائج القربى لا تنفصم،
يستمد منها قوته على مواجهة الحياة والأحداث والأشياء... (98)
إن العقيدة الدينية وحدها هي، التي تملك ذلك التأثير
في النفس، فتدفع بالفرد أو الجماعة إلى التضحية في سبيل الحياة وتقف أمام جبروت السلطان،
وقوى المال...
إن الفرد كالجماعة في حاجة ملحة إلى عقيدة تتسع
لكل ألوان النشاط الإنساني وتهيمن على اتجاهاتها جميعا لتدفع بها في طريق الإنشاء والبناء
والنماء... (99)
والتاريخ قد حكم للنبي عليه السلام بأنه كان قدوة
للمهتدين وكان في عمله أعظم الرجال أثرا في الدنيا وكان في عقيدته مؤمنا يبعث الإيمان،
وصاحب دين يبقى ما بقيت في الأرض أديان، وكان يفتح باب الحياة الصالحة، وباب الحياة
الخالدة، وهكذا كل عقيدة على أي معنى من معاني الاعتقاد، فلا مناص في العقيدة من خير،
وراء أيام الفناء..
ولن تتحرك أمة إلا إذا فتحت أمامها، باب المستقبل
ولن تلتفت إلى الماضي إلا إذا كان فيه التقاء بالمستقبل.
وفضل العقيدة في حياة كل إنسان، أن تكون نقطة ارتكاز تجمع خيوط شخصيته
فلا تتمزق، ولا يدركها القلق والحيرة والاضطراب، وكلما قويت صلاتها ونشاطها، بدافع
من قوة الإيمان، كانت قادرة على استشراف المستقبل في صورة خلق جديد.
وحسب رسالة الإسلام أنها دعت الناس إلى التحرر من
طغيان الجاه، والمال ومراكز السلطان، واسباب
الضيق والرق في العالم ..إلى عبادة الله الذي خلق الأكوان، والحياة..،والحقيقة البينة
،للمتأمل أن الدين الاسلامي قد ارتفع بضمير الانسان بعيدا الى ادراكه للفكرة الالهية
و الفكرة النبوية( أي فكرة الرسالة والوحي.) من الخالق الى مخلوقاته ..
فاذا تحررت الإرادات بقوة الإيمان، تحررت الأذواق
والعقول، والضمائر وصار الإيمان للمستقبل وعسى أن يكون المستقبل للإيمان..حتى تستوي
العبادة بالمعاملة..ويصير العمل سببا من أسباب الايمان ينعكس في الواقع التاريخي من
خلال تجليات القيم وتأثيرها على العمران البشري ..،وهذا دليل ساطع على ان رسالة الدين تعلو على نظم الاقتصاد
وبرامج السياسة ..،وليس معنى ذلك ان الاسلام لايعنى بمهمة الاصلاح الاجتماعي ..بل معناه
أنه يقررللانسانية اصولا ..ثم يفوض للعقل البشري اختيار ما يلائمه من تفاصيل الاصلاح
غير مقيد بفرع من الفروع المتجددة في مجال من مجالات حركة الحياة ..
ونخلص من
هذا الاستطراد الى ان غاية الدين وشرطه الاول
الذي لا ريب فيه، أنه يتكفل بالطمأنينة الروحية في مواجهة الاطوار والتقلبات، واضطراب
المصالح مع تجدد الطبقات والعلاقات ..
وليس الدين مثل زي من الازياء العارضة يغيره الناس
كلما تبدلت الاحوال على المجتمعات او على العالم كله..بل الدين دعامة روحية تكفل للانسان
فضيلة الثبات امام طوارئ والمتغيرات..ويفتح امامه باب الرجاء للأختيار والسير في درب
الصلاح والاصلاح..
ولا سبيل لاصلاح المجتمعات البشرية،الا باصلاح الفكر
الانساني ،فبصلاحه تصلح جميع فروع الحياة الاجتماعية ..
فالفكر اساس الجهاز الاجتماعي ، واسباب فساده ترجع
الى اضطراب في الفهم بين منهج ومنهج.. فالوسيلة الانجع في هذا المضمار هي التي جاءت
بها رسالة النبوة حيث جمعت بين العلم والعمل والايمان..و ربطت بين الصدق والفعالية
..و في هذا السياق يؤكد "مالك بن نبي" أنه ينبغي للفكرة الاسلامية وهي تواجه
الأفكار الفعالة التي تصدر عن المجتمعات المتحضرة
المعاصرة ، أن تسترد فعاليتها الخاصة، لتأخذ مكانها بين الأفكار التي تصنع التاريخ..
(100)
*ملحوظة = هذا فصل من بحث حول الرسول في
مرآة الدراسات الاستشراقية سيصدر قريبا في كتاب انشاء الله .