-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

التراث العربي الإسلامي في قراءات ماركسية عبد الجليل طليمات**

يشكل التراث أحد مقومات الكيان الذاتي لكل أمة، فهو يعكس هويتها المتميزة في الماضي، واستمراريتها في الحاضر لما يحتويه من مخزون حضاري، مادي ولامادي،
يشكل في مجموعه المتعدد والمتنوع الذاكرة المشتركة،والهوية الجامعة واللاحمة للمجتمع .    
إن التراث بهذا المعنى – إذن – يحيل على الماضي.. ولكن دون أن يعني ذلك عدم سريان مفعوله في الحاضر، فهو برموزه وحكاياته وحكمه ونصوصه في مختلف حقول المعرفة، وبـ «مقدساته» يبقى حيّا، يعيش فينا ونعيش فيه – بوعي أو بدون وعي –، إنه سلطة مرجعية في الحياة العامة للمجتمعات، خاصة تلك التي لم تحقق «قطيعة» نقدية خلاقة معه، ولم تنجح في مصالحته مع معطيات العصر المتجددة بدون توقف في جميع مجالات الاجتماع البشري المعاصر...
ولعل ذلك هو ما يفسر مرافقة سؤال التراث وعلاقتنا به لجل المنتوج الفكري والثقافي لمجتمعاتنا العربية والإسلامية، وهي المرافقة التي يتقوى حضورها كلما اشتدت بها (المجتمعات) الأزمات، وحلت بها الهزائم، تماما كما حصل عقب هزيمة 67، وما نتج عنها من غزارة في الإنتاج الفكري حول المسألة التراثية وذلك بهاجس واحد وثنائية واحدة, وبصياغات مختلفة: التراث/الثورة-التراث/الحداثة... إنها عودة للتراث بدافع حاجات الحاضر، وبحث فيه لاجتراح أفق أمام تحدياته وانسداداته ومن هنا واجه الفكر العربي المعاصر سؤال المنهج: كيف نقرأ تراثنا؟ بأية أدوات ومفاهيم ومناهج لتجاوز هيمنة القراءات «التراثية للتراث» المتماهية معه والمحنطة له.. ولتحقيق تصالح بينه وبين معطيات العصر، كضرورة ثقافية تنويرية للمجيء الى الحداثة الفكرية والسياسية وإنجاز مهمات النهضة المعاقة..
ذلك هو ما أطر مختلف المقاربات للمسألة التراثية على اختلاف مناهجها ومرجعياتها واختياراتها الإيديولوجية ,الصريحة منها أو الضمنية .وفي جميع هذه القراءات شكل الحاضر بثقل معضلاته، وتناقضات القوى الفاعلة فيه، الموجه الأول والأخير لتلك القراءات: مادية تاريخية كانت، أو إبستمولوجية أو بنيوية أو تفكيكية وتأويلية.. ما يجعل من سؤال التراث في واقعنا المأزوم لا مجرد سؤال أكاديمي يتغيا المعرفة الخالصة للماضي.. بل -  أساسا - سؤالا عن الحاضر وعن المستقبل كذلك، لا يخفي  , ولا ينفلت، من طابعه الإيديولوجي. فليست المسألة التراثية في النهاية غير إحدى واجهات صراع المواقع الإيديولوجية , وصراع رهانات قوى مجتمعية , في الحاضر..
وقبل التوقف عند نموذج محدد من نماذج قراءة تراثنا، لابد من الإشارة الى أن استعمال مفهوم الإيديولوجيا في هذا السياق يقصد به - ودون الدخول في تعريفات وتحديدات مدرسية له - : رؤية للعالم الذي نريده بديلا عن ما هو سائد، رؤية يصوغ الفكر من خلالها دوافعه ونزوعه واستشرافا ته ونوعية اختياراته السياسية والقيمية التي يعتقد بأنها هي طريق تحقيق آمال وتطلعات الناس والمجتمع , وذلك هو ما يضفي على الإيديولوجيا طابعا تعبويا، كفاحيا حول أهداف محددة ومرسومة سَلَفاً. وبهذا المعنى للإيديولوجيا  يمكن القول :إن كل قراءة للتراث رسمت لنفسها هدفا محددا: «إحياء الأمجاد»، «تحقيق الثورة»، «إعادة بناء الذات العربية»، «استيعاب قيم الحداثة»، الخ.، ما يجعلنا نؤكد.. بأن أية قراءة للتراث هي بالضرورة قراءة إيديولوجية، ولو كابر صاحبها في التنكر لذلك...
***
سألقي الضوء هنا، على قراءة للتراث فرضت تميزها، وساهمت بقوة في خلخلة النظرة السلفية والتقديسية للتراث، وأعني هنا قراءة المفكر المتميز بمساره الفكري والسياسي الشهيد حسين مروة. فمن داخل ثقافته التراثية الأصلية التي اتسمت بالشمولية، والتي استمدها من مصادرها الحقيقية بالنجف لما كان حلم أن يصير «شيخا مهيبا» يراوده، ومن انتماء إيديولوجي وسياسي، نظري وعملي، إلى الماركسية، كفلسفة  ومنهج، خاض حسين مروة – وهو أيضا الناقد الأدبي والمبدع – «مغامرة» الاجتهاد في قراءة وتفسير التراث العربي الإسلامي، كلاما وفلسفة وتصوفا في ضوء المنهج المادي التاريخي . ويمكن صياغة إشكالية مروة الموجهة لهذه القراءة كالتالي:
كيف يمكن خلق تواصل فاعل وخلاق بين تراثنا الحضاري العربي الإسلامي وبين الماركسية باعتبارها حصيلة كل المعارف والعلوم الحديثة، وأداة تغيير العالم؟
ينطلق حسين مروة في دراسته للتراث العربي الإسلامي من نقد النزعات السلفية ومناهجها التي حنطت التراث وانتزعته من أرضيته التاريخية الواقعية وغيبت ما هو عقلاني فيه كنتاج حضاري وذلك باسم «الإحياء» الذي ليس في واقع الأمر شيئا آخر لدى السلفيين غير نسخ الماضي في الحاضر ونفي المستقبل كسيرورة، بجعله ماثلا في الماضي...
فعلى نقيض هذه المناهج اللاتاريخية اللاعقلانية والإسقاطية يؤكد حسين مروة على منطلقات منهجية ومحددات مضمونية رئيسية في مقاربته للمسألة التراثية من عناصرها الرئيسية :
_النظر إلى التراث في تاريخيته باعتباره نتاج معطيات المجتمعات العربية والإسلامية، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية في مرحلة محددة من مراحل مسار تطورها، وضمن علاقاتها بالحركة العامة للتاريخ.
_النظر إلى الفكر بنوع من الاستقلالية عن قاعدة الصراع الاجتماعي بهدف «استيعاب التراث بشكل جديد، وتوظيف هذا الاستيعاب الجديد في مجال تحرير الفكر العربي المعاصر من سيطرة التبعية للفكر الاستعماري، والإيديولوجية البرجوازية بتداخلهما التاريخي في البنية الاجتماعية المعاصرة»  .
_النظر إلى مختلف أشكال الوعي باعتبارها انعكاسا      لتناقضات المجتمع وتمايزاته الطبقية، إذ لا فكر خارج المصالح الطبقية،  وخارج الإيديولوجيا. إن تعدد المنظور الإيديولوجي الطبقي للتراث يفرض - في نظر مروة - التعامل مع معارفه لأجل إبراز «حضور القوى البشرية الفاعلة، الصانعة للتاريخ», لا لتحنيط تلك المعارف وإضفاء طابع القداسة عليها كما في المناهج السلفية، المعبرة عن مواقع إيديولوجية تأخرية وتقليدانية.
إن قراءة حسين مروة للتراث العربي الإسلامي على قاعدة هذه المنطلقات المنهجية والنظرية, و«بسلاح» المنهج المادي التاريخي لا يحركها الهاجس الأكاديمي الصرف (رغم خصوبة وأهمية هذا الجانب في مؤلف "النزعات المادية.." بجزئيه )، وإنما أيضا وأساسا، هي بدافع همّ إيديولوجي كفاحي، يقول في هذا الصدد:
«إن القوى الثورية في حركة التحرر العربي لها «حاضرها» المستقبلي المتميز عن «الحاضر الماضوي» للقوى المتخلفة، وإذن لها تراثها المتميز أيضا عن تراث هذه القوى الأخرى»   فالمعركة إذن بين هذه القوى هي معركة إيديولوجية، سياسية، يدعو مروة الى خوضها من طرف القوى التقدمية , مسلحة بمنهج علمي: هو المنهج المادي التاريخي لأجل  «إعادة الاعتبار لما هو حي بالفعل من عناصر التراث, ولكي ندل على مكانه الواقعي والحقيقي في مسيرة التطور ونرفع عنه الاضطهاد الذي أصابه (...) ثم لكي نجد فيه الصلة الضائعة أو المطموسة بين الحاضر والماضي 3"  
من هذا الموقع الفكري المنتمي للماركسية كمنهج وإيديولوجيا، ومن موقع المواطن العربي المنخرط في كفاح حركة التحرر العربي (كقيادي في الحزب الشيوعي اللبناني) دخل مروة «معركة التراث» باعتبارها «معركة» دائرة لا عن الماضي عبر الحاضر، بل بالعكس «كمعركة» دائرة عن الحاضر عبر الماضي، أو عن قضايا الحاضر عبر قضايا الماضي (...) حتى تصبح معرفتنا بالتراث عنصرا كيانيا من عناصر كياننا المعرفي المعاصر»  4
إن هذا الموقف من التراث حسب مروة هو نقيض الموقف السكوني اللّاتاريخي ذو المنحى السلفي الذي يرجع الى التراث ليسقطه على الحاضر. ويوضح حسين مروة أن النظرة النقدية الى التراث هي تلك التي تدرسه في تاريخيته وشروط إنتاجه وتراكمه في كافة حقول الفكر والمعرفة، ووظيفة هذه القراءة ودوافعها نابعة من الحاضر ومن حاجاته الموضوعية ومن متطلبات تحقيق النهضة لمجتمعاتنا، وهي قراءة متسلحة بأدوات المعرفة المعاصرة التي من شأنها أن «تؤدي مهمتين أساسيتين: أولاهما مهمة كشف الأصول ومعرفتها ونقدها ورؤية مسيرتها النظرية المحكومة بقوانين كونية موضوعية (...) والمهمة الثانية هي وضع الحاضر في موقعه المرحلي من تاريخ الماضي وكشف الجذورية بين تاريخنا وواقعنا» 5
إن هذه النظرة إلى التراث هي التي أطرت عمل مروة الكبير ممثلا في مؤلفه "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" بجزأيه، حيث تناول تطور الفكر والمجتمع العربيين الإسلاميين، مطبقا المنهج المادي التاريخي وأدواته ومفاهيمه على سيرورة ذاك التطور،  بهدف«أن نرى كيف يصح تفسير تاريخنا وتطور مجتمعنا العربي تفسيراً مادياً تاريخياً...»6
وبناء على هذا الاختيار المنهجي في مقاربة التراث العربي الإسلامي، قام حسين مروة مزودا بثقافته التراثية الأصلية، وبتشبعه بالماركسية مذهباً وإيديولوجياً ,بالتنقيب في المنتوج التراثي: كلاماً وفلسفةً وتصوفاً، محللاً مسارَ تطور المجتمع العربي الإسلامي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وراصداً مختلف محطات هذا التطور وانتقالاته التاريخية ليبرز انعكاس هذا التطور في «البنية التحتية» على الإنتاج الفكري (البنية الفوقية) في كل مرحلة تاريخية منذ الجاهلية الى العصر الوسيط.. ونزوعه ( الإنتاج الفكري)المادي في تفسير الظواهرالطبيعية
6_
    والقضايا «الميتافزيقية» الكبرى التي أطرت الفكر العربي الإسلامي - ومازالت -!
إن البحث عن عناصر نظرة مادية الى الطبيعة، أو نزعة تاريخية في تفسير المجتمع هو الهاجس الذي يثوي داخل كل صفحة من صفحات مؤلف النزعات المادية في الفكر العربي الإسلامي في جزئه الأول كما في الثاني، وبناء عليه، يستخلص حسين مروة عدة نتائج من دراسته وتحليله للمضامين المعرفية للتراث الكلامي والفلسفي والصوفي، هذه أمثلة منها:
فالكندي في نظره هو أول مفكر عربي تجاوز في تناوله لمبحث المعرفة الإطار اللّاهوتي وذلك في انسجام مع مستوى حركة التطور آنذاك, "إنه تعبير عن ظاهرة تاريخية جديدة في المجتمع العباسي(...) ونعني بها ظاهرة الاهتزاز والتصدع في إيديولوجية دولة الخلافة بفعل عوامل اقتصادية واجتماعية متضافرة مكنت الفكر العربي الإسلامي من أن يتخلص نسبيا من إشكاليته اللاهوتية"  ويعطي مروة في هذا السياق مثالا لدعم هذا  الاستنتاج  من معالجة الكندي لمسألة الوحدة والكثرة التي سبق للمعتزلة تناولها كلاميا لإثبات وحدانية الله , مبينا كيف طور الكندي النظر الكلامي في هذه المسألة " مكتشفا خلال ذلك العلاقةالدياليكتيكية بين الوحدة والكثرة" (     النزعات المادية  ج 2 ص 116) .  
 _ وفي وقفته التحليلية لرسائل إخوان الصفا يبرز حسين مروة كيف أنهم عمقوا عقلانية المعتزلة، برفضهم الجبرية، وإرجاعهم «أحداث العالم كلها إلى الطبيعة في نهاية الأمر» وتجاوزوا في مجال المعرفة القول بالعرفان والفيض والإشراق،  يقول " تدل نصوص الإخوان على أنهم يرفضون فكرة الجبرية ويفسرون القضاء والقدر تفسيرا يجعل للإنسان حرية الاختيار في أفعاله"  ويعتبرون " العقل رئيس جماعتهم "  ,ويربط مروة هذا المنحى العقلاني للإخوان  بشروط الصراع الاجتماعي في عصرهم إنهم , يقول : "ينطلقون في الفلسفة الاجتماعية من نظرة ذات أبعاد طبقية "  (  ن م , ص342) و يعتبر موسوعتهم  بأنها " بقدر ما كانت تعميما لمعارف عصرها عن قوانين الطبيعة , بقدر ما كانت تعبيرا عن المصالح الاجتماعية الجماهيرية من حيث كونها تعبيرا عن إيديولوجيتها موضوعيا ( ن م _ ص 448)   . 
 _ ويتوقف مروة - وبنفس المنحى المنهجي – عند «الرئيس»ابن سينا منقباً عن العناصر المادية في فلسفته والمعززة بممارسته «كطبيب حاذق»،وتتمثل هذه العناصر كما عددها ورصدها مروة في  القول " بأزلية المادة والمكان,واعتبار أن  " للعالم المادي وجوده الموضوعي المستقل عن الوعي" ,وأن الإنسان قادر بوعيه على معرفة العالم واستيعاب حقائقه وظاهراته -  وأن عالم الطبيعة متحرك، متحول بعضه الى بعض، ومتولد بعضه عن بعض - والحركة دائمة ومتطورة (...) أي أن المادة لا تفنى بالمعنى الحديث»   ( ن م ص 684)
ولكن حسين مروة وهو يعد هذه العناصر أو «المواقع» المادية في فلسفة ابن سينا يستدرك، ويليّن من استنتاجه هذا، قائلاً: «لكن هذه المواقع لا تجعل من ابن سينا فيلسوفاً مادياً صرفاً (...) بقيت عنده مرتكزات مثالية عدة (..) كقوله بثنائية النفس والجسد واعتبار المادة الأصلية للعالم خارج الطبيعة». ( ً ص 60)
وبخصوص المحتوى الإيديولوجي لفلسفة ابن سينا يؤكد مروة بأنه كان «تعبيراً عن اتجاهات الفئات الاجتماعية الوسطى النامية يومئذ في المجتمع العربي الإسلامي» 
- وسيرا على هذه الخطاطة المنهجية في قراءة التراث العربي الإسلامي، خصص مروة حيزا وافرا لمقاربة ظاهرة التصوف باعتبارها كما يقول «ظاهرة اجتماعية تستحق اهتماماً يبرز قيمتها الإيديولوجية داخل الثقافة والمجتمع الإسلاميين»  ( ن م ص 202)  وعلى أساس ذلك ينتقد مروة مختلف المقاربات «غير العلمية» لهذه الظاهرة، كالمقاربة الدينية اللّاهوتية، والمقاربة الوضعية، ومقاربة التحليل النفسي معتبرا بأنها مقاربات أحادية «لأنها تهمل الجانب الأساسي الذي يربط ظاهرة التصوف السلوكية والنظرية بواقع العلاقات الاجتماعية المعينة في ظرفها التاريخي المعيّن» .وهكذا نلاحظ مرة أخرى «أن الهاجس المنهجي هو الذي يطغى على دراسة مروة للتصوف بل على دراسته لظاهرات الفكر الإسلامي بكاملها»وأن   «نظرية الانعكاس - بمفهومها الماركسي (...) هي أساس تحليله الإيديولوجي للظاهرة الصوفية» 7 ولكل تحليلاته للكلام والتصوف والفلسفة.
وهذا مايؤكده حسين مروة ذاته بقوله: «أريد أن أقول إن بروز ظاهرة التصوف النظري... لم يكن سوى أحد أشكال الضرورة التاريخية لتكوين أدوات معرفية ذات مدلول إيديولوجي يتضمن تقريب الإنسان من الله وخرق جدار الفصل المطلق بين الله والإنسان...»8  ومن هنا فالتصوف يعكس رفض دولة الخلافة التيوقراطية التي تحكم باسم إرادة الله، وهذا هو العنصر الثوري في نظرية المعرفة الصوفية «وسط الركام الهائل من ترهات التصوف واستحالا ته»  كما يقول ( ص    211
                    7         ***
8 حوار مع حسين مروة أجراه بنسالم حميش , أنوال الثقافي  العدد المشار إليه
أريد من هذه الأمثلة والإحالات الموجزة على المقاربة المادية التاريخية أو التحليل الإيديولوجي للتراث عند حسين مروة إبراز بعض نتائج هذه المقاربة وتأويلاتها وتفسيراتها «للظواهر» التراثية، وما أثارته من نقاش وسجال واسعين حول «علميتها» و«موضوعيتها» وحول حدودها..
لقد تمت مؤاخذة المقاربة الماركسية (أو الجدلية أو المادية التاريخية) بأنها مقاربة إيديولوجية، إسقاطية لحاجات حاضر الصراع الاجتماعي والسياسي في مجتمعاتنا المعاصرة على الماضي فـ «.. المثقف الماركسي ينقب في نصوص الأقدمين - كالكندي والفارابي وابن طفيل وابن رشد وابن خلدون - عساه يعثر فيها على جراثيم نظرة مادية الى العالم الطبيعي، أو نظرة تاريخية للمجتمع» 9 وهذا ما يطرح مسألة ذات أهمية قصوى بالنسبة الى حاضرنا هي «الحق في معرفة التراث في وحدته الكلية»10  دون انتقائية ولا إسقاطية عليه 
9 و 10
إن تعامل حسين مروة، وآخرين كطيب تيزيني، مع المنهج المادي التاريخي، وكيفية تطبيقه لأدواته ومفاهيمه على سيرورة تطور المجتمع والفكر العربيين، أثارا نقداً واسعاً من عناوينه الرئيسية: الإسقاطية الميكانيكية، التخطيطية، وترجيح الهم الإيديولوجي على حساب البعد   المعرفي..
في مؤلفه الأخير " نقد  التراث"11 , خصص عبد الإله بلقزيز فصلا في قراءة  ونقد المقاربة المادية التاريخية للتراث عند طيب تيزيني وحسين مروة على الخصوص , حيث  أكد على "الدور الكبير الذي نهض به طيب تيزيني وحسين مروة , قبل أربعين عاما في ميدان الدراسات التراثية " 12  إ ذ   بفضل مقاربتهما المادية التاريخية  " أدخلا إشكاليات جديدة إلى هذا الميدان (.. .) وأنتجا قاعدة جديدة من قراء الفكر العربي الكلاسيكي ( ...) وتصديا بشجاعة أدبية نادرة للقراءات الأصالية والسلفية للتراث. ...  فدافعا عن العقلانية والتنوير فيه, ونفضا الغبار عن المفكرين الكبار الذين نبذوا وهجرت نصوصهم, فأعاداهم إلى صدارة الانتباه والاعتناء العلمي..."13         
   11 و 12 و 13
إن هذه الملاحظات التثمينية لقيمة دراسات تيزيني ومروة ,لم تمنع د بلقزيز من إخضاعها  للنقد  ,  بإبرازه جوانب قصورها المعرفية منها والمنهجية , وفي هذا الصدد سجل بلقزيز أربع ملاحظات نقدية للمقاربة المادية التاريخية للتراث كما تجسدت بقوة ووضوح في أعمال طيب تيزيني وحسين مروة , وهي [إيجاز:  1 _ " .. إدخال المادة التراثية في قوالب نظرية جاهزة ( مادية , مثالية ..) دون مراعاة شروط إنتاج الفكر في الماضي عن شروط إنتاجه في الحاضر... 2 _ الإطناب في الإحتفال بشروط الفكر التاريخية إلى الحد الذي استحالت فيه مطالعة لتلك الشروط لا للفكر الذي نشأ في نطاقها وتطور ...3 _إنزال ترسانة من المفاهيم الماركسية على موضوع لا يلائمها لأنه لا يقع ضمن نطاق تاريخها المعرفي .. مثل الطبقة , والصراع الطبقي , والإقطاع , والبواكير الرأسمالية , والبرجوازية التجارية , والإيديولوجيا  ) .. 4 _ افتقرت مقاربة الباحثين إلى الحد الأدنى من الحياد العلمي الذي يقتضيه البحث.. "  ,   ما قاد هذه المقاربة إلى " ظاهرة التحزب الإيديولوجي في النظر إلى التراث"   ( ن م ص من 156 إلى 158 )  وأنهى بلقزيز قراءته النقدية للمقاربة الماركسية للتراث برصد مفارقتها التالية المتمثلة  في " أن الماركسيين العرب , الذين ما فتئوا يرجمون بعض دارسي التراث بالسلفيين .. أو بالتراثيين , سقطوا في النزعة  التراثية عينها, وفي  النزعة السلفية ذاتها   .."
                  لقد كانت لحسين مروة مناسبات، قبل استشهاده، للرد على هذه الانتقادات، والدفاع بحرارة عن اختياره المنهجي والإديولوجي الذي قارب من زاويته المسألة التراثية، يقول: «أنظر الى مختلف المقالات والدراسات التي تعرضت الى هذا الكتاب (يقصد النزعات المادية...) على أنها في معظمها انطلقت من مواقف إيديولوجية لا من مواقف معرفية صرفة، وهذا في رأيي أمر طبيعي، لأن أي توجه الى التراث في مرحلتنا التاريخية هذه إنما يشكل وجها من وجوه الصراع الإيديولوجي في هذه المرحلة».14
ويتساءل مروة في معرض رده على منتقديه: «ولماذا نعارض المعرفة بالإيديولوجيا؟ فهل الإيديولوجيا شيء منفصل عن المعرفة؟ أليست الإيديولوجيا سوء تعبير عن التوجهات والمصالح والمطامح ذات العلاقة بالصراع الاجتماعي؟» .ويجيب بحزم وصرامة عن تلك التساؤلات:
«.. ليس هناك شيء من المعرفة يمكن فصله عن الإيديولوجيا سوى المعرفة في العلوم البحتة، في الرياضيات، في الفيزياء... ما عدا هذا النوع من البحث فكل العلوم الإنسانية تتحرك بالإيديولوجيا.
وأنا لا أنكر أني انطلقت في تعاملي مع التراث بعامل إيديولوجي.. ومن ينكر ذلك أو يتنكر لذلك فهو يكابر أو هو بإكباره وتنكره نفسيهما يفكر تفكيراً إيديولوجياً»15
وفي نفس الحوار، برأ مروة المنهج الذي طبقه من الميكانيكية فـ «نُقَّادي يحملون المنهج ما يجب أن يحملوني إياه» مضيفاً «أنا لا أبرئ نفسي من هذه التهمة ولكن الخطأ شيء أنا فعلته وليس المنهج الذي فعله (...) وسيأتي بعدي من يصحح أخطائي وِفْق المنهج ذاته». وانتقد المقاربة الإبستمولوجية للتراث معتبرا أنها «وهي تحاول التخلص من الإيديولوجيا تقع فيها بصورة موضوعية لأنه لا يمكن تجريد المعرفة من علاقاتها بالصراع الاجتماعي، والتعامل معها بشكل مغلق وتجريدي ». ( نفس الحوار..)
***
لقد أثارت القراءة الماركسية للتراث سواء مع طيب تيزيني أو حسين مروة بشكل خاص، انتقادات جردت هذه القراءة من أي بعد معرفي، رغم ما زخرت به من مادة معرفية أكاديمية غنية واجتهادات تفسيرية لها في ضوء شرطها التاريخي الموضوعي، ومن تأويلات - لا شك في أنها نابعة من اختيار إيديولوجي واضح وصريح - كما رأينا مع حسين مروة _والذي يشكل ( الإختيار) جزءا صميميا بل مركزيا من انخراطه الواعي، نظريا وعمليا في نضال حركة التحرر العربي عموما.
وإذا كان مروة قد انتهى الى «سلفية ماركسية» (حسب الجابري) وكان هدفه هو «إسباغ الشرعية على النظرية الماركسية» 16 
- فهل يمكن الادعاء بأن مختلف القراءات الأخرى ,  الإبستمولوجية والتأويلية والتفكيكية، وكل المقاربات التي «تتأفف» من الإيديولوجيا باسم العلمية والموضوعية، لم تكن هي نفسها بدافع اختيار إيديولوجي يتغيا إما «استقلال الذات العربية» و«إعادة بنائها» أو المصالحة بين الذات وقيم الحداثة بواسطة التأصيل أو التبييء لمفاهيمها وقيمها الكونية؟ الخ.
16
ففي تكوين العقل العربي _ مثلا _ سيؤكد الجابري على هذا الاختيار الإيديولوجي بوضوح حين يقول:
«مشروعنا هادف – إذن – فنحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي، وإرثنا الثقافي، والهدف هو فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها.. ولعلها تفعل ذلك قريبا»17 .
وأزعم هنا، أن هذا الاختيار تتقاسمه، وتشترك فيه مختلف القراءات: «القراءة الماركسية» أو «اليسارية» (كما يسميها الجابري)، والقراءة الإبستمولوجية، والبنيوية والتأويلية...
فما يحرك هذه القراءات على اختلاف مناهجها، هو رهانات الحاضر في التقدم والنهضة والتحرر الثقافي، وفي تمثل القيم الكونية للحداثة الفكرية والسياسية   وذلك في مواجهة هيمنة «القراءات التراثية للتراث» المعبرة عن بنية ذهنية محافظة تقليدانية ونكوصية.
17
وهكذا، يمكن القول إن تعدد وتنوع القراءات للتراث العربي الإسلامي، واختلاف مناهجها، يظل في نهاية التحليل، علامة على يقظة فكرية ذات منحى تجديدي وأفق نهضوي، كما تمثل في مجموعها المختلف، تراكماً معرفياً وقيمياً في سيرورة التحديث الفكري والثقافي.. والديني كذلك...
  نشر بمجلة النهضة  _ العدد العاشرلصيف2015
  الهوامش
حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الأول، دار الفارابي، 1978، ص. 28.       
  دراسات في الإسلام، مساهمة مع مجموعة أخرى.
3 حسين مروة ,مكان التراث في الفكر العربي المعاصر مجلة الطريق, ععد 1 ,أبريل
4 نفس المرجع
5 حوار مع جريدة "أنوال" المغربية , عدد 181 ماي 1985 أجراه عبد الجليل طليمات 
نفس المرجع
منصف عبد الحق , حسين مروة " التصوف وحدود التحليل الإيديولوجي أنوال الثقافي عدد 383 , 19887
8 حوار مع حسين مروة أجراه بنسالم حميش , أنوال الثقافي  العدد المشار إليه
9 و 10 _ عبد الإله بلقزيز " أسئلة الفكر العربي المعاصر" سلسلة المعرفة للجميع _ 1998 ً 103 ,104
   11 و 12 و 13 _ دعبد الإله بلقزيز , العرب والحداثة (  3)نقد التراث, مركز دراسات الوحدة العربية, ط 1 بيروت نونبر 2014    ص 156
16عبد الإله بلقزيز " أسئلة الفكر العربي المعاصر " مشار إليه ص 119
17_ محمد عابد الجابري_ تكوين العقل العربي _ دار الطليعة _بيروت 1984_ ص 7 و 8
كاتب ومحلل سياسي


عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا