الفردوسُ المفقودْ ابراهيم يوسف
1".. ورأيتُ صًبايا فارسَ يَغْسلنَ النّهدَ بماءِ الصّبح
وينتفضُ النّهدُ
كرأسِ القطِّ من الغسْلِ
يُلْهِبُ خيالي يا حبيبتي ركنٌ في خزانتِك،
تستريحُ فيه ملابسُكِ المنمنمةُ الناعمةُ المَلمَس؛ المطرزةُ الحواشي بالخرزِ الملوَّنِ
والنحل وتيجانِ الزهور؛ التي تقطرُ شهداً وشهوة.. منها الأحمرُ والأسودُ والزهريُّ
والأزرق.. أزواجاً متجانسة من نهَّاداتٍ وسراويل. تَلظّتْ بنارِ المكان وحرقةِ الآهِ
في خلايا الجسمِ والروح.
كنتُ قد بلغتُ الحادية عشرة مِنْ عمري أو أكثر منه
بقليل، ولمَّا ينبتُ شعرُ شاربي ولحيتي، ولا بُحَّتْ أو توَرَّمتْ واخْشَوشَنَتْ نبرةُ
صوتي، وسكّةُ محراثي لم تكن قد تأهّلتْ بعد كيّ تفلحَ أرضاً بوراً فَتُخصِبَها وترويها.
وكانتْ "كَوْثَر" في النِّصفِ
الأوَّل مِنَ العقدِ الثاني، تكبُرُني بأربع أو خمسِ سنوات، وتقطنُ ذاتَ الحيّ الذي
أترددُ إليه وتقطنُهُ عمَّتي مريم، حينَما بَدَأَتْ تحتالُ عليّ وتستدْرجُتني إلى مخزنِ
التبنِ، خلفَ زريبةِ المواشي.. ثم تلهو معي لهواً مُداناً.. مداناً بشريعة العقولِ
الصلدةِ الموصدة وعلَّةِ التربية الصارمة، والكبتِ بأشكاله المختلفة.. آفة الدّنيا
التي تستجلبُ العنفَ والإرهاب يعيثان "اليومَ" قتلاً وفساداً في مشارقِ الأرضِ
ومغاربِها.
هكذا راحتْ كوثر تهدِّدُني بعدما مهّدَتْ لنفسِها
الطريق، وأغرتْني برؤيةِ النعجةِ والحمل في زريبة البهائم. وحينما وقعتِ الطَّريدةُ
في الشرك..؟ لجأتْ إلى ابتزازي، فأقسَمَتْ يميناً مخيفةً غليظة إن أنا خالفتُها أو
بُحْتُ بالسِّر..؟ أن تفضَحَ أمري أمامَ أخيها، وهو سيثأر مني لأخته ويذبَحُني بخنْجرٍ
يتغاوى به على خصرِهِ. لكنَّ اللعبةَ أسَرَتني.. هزمني معها خوفي من أخيها ومن السِّكين!.
فأطعْتها واسْتسْلمتُ لها بلا مقاومةٍ أو عناد.
أخطأتْ كوثر في الموعدِ معَ التاريخ، حينما فتحتْ
لي ولأوِّلِ مرَّة في حياتي تجربةً يتيمة، لم يكرِّرْها مستقبلُ الأيامِ والليالي الآتية،
وشرَّعَتْ لي باباً واسعاً على حياةٍ جديدة لا عهدَ لي بها من قبل، وقد راحَتْ رمَّانتاها
تنْموانِ وتتكورانِ بسرعة. تفكُّ أزرارَ صَدَّارها وتحرِّرُ نهدَيها من سِجْنِهما،
وتدعوني لأُمسكَ بهما براحتيّ، كمن يُمسِكُ تفاحة من الفردوس ليقضمَها، يُبشِّرُ طعمها
بحلاوةِ لا يعادلُها طعمُ اللبنِ والعسل.. وَعْدُ اللهِ للناسِ المتَّقين. هكذا علَّمَتْني
كيفَ أُداعبُ نهديها بيديّ وكيفَ أتوسلُ فمي وشفتيّ وأنا ساجدٌ قبالتَها.
وحينَ اطمأنَّتْ لخوفي في أُولى تجاربِنا، راحتْ
تَتعرّى وتنزَعُ ثيابَها بسرعةٍ، تنْبَعِثُ منها رائحةُ زَنْخَةِ القصَّابين؛
"وعَرَقُ النشادِر" يفوحُ حاداً من الإبطين، ورأيتُ على سروالِها فوق مستودع
الأسرار آثاراً من الدماء، فَتوَلاّني ارتباك مبهم وقلقٌ وحيرةٌ وغموض؛ ورغبةٌ جامحةٌ
عَصِيَّةٌ على الإدراك.
كانتْ طريقتُها أن تعتليني وأنا مُسْتَلْقٍ
منبسطَ الظهرِ على فراشٍ من التبن، ألعَقُ بفمي الجاف الماءَ المالحَ بين نهدينِ بحجمِ
التفَّاح وأكبر، هكذا علَّمَتني وأنفاسُها الحارةُ تلفحُني في وجهي وفي عُنقي، فتلهبُ
فيَّ إحساساً غريباً كنتُ أجهلُ ما يكون..!؟ لكنّه تراءى لي أنه سرٌ لم أكن قد اكتشفتُه
أو حلمتُ به بعد.. سرٌ عظيم يوقظُ ما كان غافياً من كوامني.. وبعد ذلك كانت تروحُ تدسّ
أنامِلَها داخلَ سروالي تتلمَّسُ شيئي وترتعشُ بجنون.. ولا أستطيعُ تدْوينَ بقيَّةَ
ما كانتْ تفعلُه معي..!
أشْعَلتْ كوثر في خلايا جسدي جذوةً من نارٍ تلسعُ
أعماقي، وتتلمسُ طريقَها إلى كياني كلّه..
جذوة في بدايةِ اشتعالِها تضِيءُ أكثرَ مما تحْرِق "وتؤذي". وتساوتْ
يومَها في أنفي رائحةُ العرق يفوحُ من جسمِها، ورائحةُ عطرِ الياسمين.
كانت مدركة تماماً لما تفعل، وكانت أشدُّ دهاءً
من ثعلبِ الكروم، وهي تحتاطُ لنفسِها فتنفضُ في نهايةِ الوليمة ما علقَ من القش على
شعري وثيابي، وتدفعُني للتسللِ قبلها إلى الحاكورةِ المجاورةِ للمنزل.
كتمتُ سرَّها في خاطري وبقيَ السرُ الدَّفينُ فردوساً
مفقوداً، وجنَّةً ضائعة تثيرُ في نفسي أبلغَ معانى الرّغبةِ والحنين إلى عهدِ الصبا،
وأولى تجاربي في بداية وعيِ وإدراكي.
لكنني وبعدَ سنواتٍ طويلة فصلتني عن ذلك الماضي
الآسرِ- التَّليد، ألهَبَتْ باطني نظرةُ سيِّدةٍ كانت تجلسُ قبالتي في مرفقٍ من المرافق
العامة. بهيَّةُ الحضور وجمالُها طاغٍ وأخَّاذ. شكلُها الأُنثوي محرِّضٌ ومثير، لما
في جسمِها من فتنة في منعطفاته واستدارةِ مرتفعاتِه، وغوايةٍ في لحمِها المكتنزِ المملوء.
خالستُها النظرَ واسْتجَبْتُ لجرأةِ عينيها البنفسجيتينِ
الفاتنتين.. وحينَما تبسَّمَتْ لي وبانَ جيرُ أسنانِها، أحْسَسْتُ بالخيبة والنفور،
فأخْمَدَتْ في كياني ناراً تُضيءُ وتحْرق.
بعدما أتعَبَني سرّ كوثر زمناً طويلاً. التقيتُها
صدفةً في معرضٍ للكتاب وقد كَبُرَتْ وذوى شبابُها، فعرفتُها وعرفتني منذ اللحظةِ الأُولى،
حينما اندفعتْ نحوي بابتسامةٍ خجولة، من دون ارتباكٍ ولا خشيةٍ أو تردد، قَدِمَتْ صوبي
تحييني بعفويةٍ خالصة وخفرٍ ملحوظ.
هذه المرَّة كانت سيدة أنيقة تفوحُ من أردانِها
روائحُ عطورٍ فرنسيَّة.. فتبسَّمنا معاً، وشكَرْتُها على المبادرةِ اللطيفةِ بالتحية
والسلام، وخصَّصْتُ لها منزلة جديدةً في نفسي، صافيةً وسليمةً من كلِّ عيب، أواستهانةٍ
بماضٍ عذبٍ تطربُ وترقصُ لذكراه القلوب.
1- من وتريات ليلية.. لمظفر النواب.. حفظَه اللهُ ودثّرَهُ
بثوبِ العافية وأطالَ في عمره، وصانه من كل
مكروه.. دعاء له من أعمق نقطة في القلب.