-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

قصص قصيرة فتحي نصيب قاص من ليبيا

خاص 
قصص قصيرة فتحي نصيب قاص من ليبيا
1الحفل 
 سيدي
لا أعرف من أين ابدأ ؟ ولكن الخطأ خطئي ، فما كان يجدر بي اصطحاب ابني معي ،
إنما كان هدفي أن يدخل ولدي البهجة على ابنتكم الكريمة ،وأن يشاركها فرحتها ببلوغها عامها السابع  . كنت اعتقد أن الأطفال يتحلون بالبراءة والطيبة إلا أن ولدي اثبت أن رؤيتي كانت خاطئة . فلم يدر بخلدي – على الإطلاق – أنه سوف يعكر صفو احتفال ابنتكم على هذا النحو. بالفعل لم يكن ولدي مهذبا ولا في مستوى سلوك ابنتكم الراقي ،تصور أن هذا الفأر – كما تلقبه أمه – قال لي بعد أن أشبعته ضربا أن ابنتكم الكريمة تعمدت أهانته أمام أصحابها ، أليس هذا تفكيرا ساذجا ومضحكا؟ من أين له ابن إل (....) أن يعرف معنى الإهانة والكرامة وفي مثل هذا العمر ؟ شرحت له إن ابنتكم الكريمة تمزح معه ، وأنها طفلة مهذبة – صانها الله ورعاها – ولكنه كتم عبراته ولاذ بالصمت موجها إلي نظرة حادة ومتحدية  عبر دمعتين متحجرتين في عينيه الخبيثتين .
لقد اجتهدت أن اعلم ولدي الرضا، وغنيت على رأسه مرارا أن القناعة – كما لايخفى عليكم – كنز لا يفنى ، وألا ينظر لمن هم في الأعلى بل يتمعن في من هم تحت ، عندها سيكون راضيا بما قسمه الله لنا ، وسيعيش سعيدا طوال حياته في الدنيا والآخرة. وولدي – والحق يقال – صبور ومجتهد في دراسته ويعمل كالبغل ،  فهو يمضي العام بحذاء واحد ،ويرتدي كنزة صوفية الشتاء بطوله ، ينهي فروضه المدرسية ويخرج للعب مع أقرانه في الشارع ، ويبدو أن سبب مصائبي في هذا الولد من تأثير الشارع واحتكاكه بالأولاد غير المهذبين لذلك قررت منذ اليوم أن امنعه من الاختلاط بهم وإلا – بالله عليك – كيف أفسر كلامه حين قال لي أن ابنتكم الكريمة رمت بهديته في كيس القمامة أمام جميع أصحابها ، وانه شعر بالغضب من تصرفها غير اللائق – لاسمح الله – وتصور معي خيال الأطفال عندما يجنح نحو البعيد ، حين قال إنها تعمدت أهانته واتخاذه وسيلة للتسلية أمام أصحابها ، أفهمته بعد أن قرصت إذنيه إنها لاتهينه ولكنها طفلة بريئة وقلبها أصفى من بياض الثلج وفي رقة الفراشات ، وذات أخلاق  رفيعة وتربية راقية ، وإنها قصدت أن تدخل البهجة على أصحابها وصويحباتها ، وهذه هي الحقيقة فقد اخبرني إن أصحابها انفجروا بالضحك من تصرفها إزاء هديته . قلت له: إنها لاتهدف – إطلاقا – للسخرية منك أيها المغفل ولقد صدقت أمك حين تصفك بالفار . وسبب هذا اللقب – سيدي الكريم – أن ولدي يحب كل أنواع الجبن ، ونتيجة لارتفاع أسعارها فقد كنت اجلب نوعا واحدا فقط هو ( البقرة الضاحكة ) على أمل أن يتعلم الحكمة من وراء سعادة هذه البقرة التي تدر الحليب ويستمتع بجبنها ملايين الأطفال في العالم ،ولكن ولدي كره هذا النوع من الجبن ، ويطلب مني ذلك النوع الممتلئ بالفراغات ،  الذي يظهر في مسلسل الرسوم الهزلية   ( توم اند جيري ) ، قصدت من هذه الحكاية أن اريك كيف يفكر ويتصرف أبناء هذا الجيل ،فهو يريد كل ما يراه ، ولا يقنع بما قسمه الله ، وكم أفهمته أن يرضى بحاله وان يسير بجانب الحائط وان يغلق عينيه وإذنيه وفمه ، ولكن بعد تصرفه غير اللائق مع ابنتكم الكريمة سوف أغير أسلوب التربية معه .
سيدي..
اعرف أنكم تتحلون بقلب نبيل ، وتعرفون أنني أخدمكم منذ عشرين عاما ، لذلك آمل ألا تتأثر علاقتنا بتصرف سخيف من ولدي ، هم أطفال وسينسون سؤ الفهم البسيط هذا ، المهم عندي أن أظل أخدمكم بإخلاص واعدك أن اربي هذا الصبي ليصبح مهذبا ، وألا يبالغ في تفسير التصرفات وخاصة من الأسر الكريمة مثل أسرتكم .
تقبلوا تحياتي .
2 انتظار
ستأتي كاشراقة الشمس عقب المطر.
ستجلس أمامه في مهابة ، ويتقافزان بحديثهما من ضفة إلى أخرى.
سيشكو لها  بألم وحدته، وكيف تبخر الأصدقاء ، الواحد تلو الآخر، كمدا أو عشقا أو جنونا أو اغترابا.
منهم من غيبه البحر ، أو هوى من ارتفاع شاهق ، أو قضى بمستشفى بداء غامض ،أو بغرفة باردة في إحدى دول الشمال الأوروبي.
ستأتي حتما.
جلس على نفس الكرسي بذات المقهى الذي يرتاده منذ عشرين عاما، بالقرب من حوض أسماك الزينة التي تسبح في حلقة مفرغة داخل المستطيل الزجاجي الذي تتوزع داخله أصداف بحرية ونباتات ( بلاستيكية ) وطاحونة تنفث فقاعات الأكسجين.
ستأتي.
سيردد عليها بانشراح مقاطع كاملة يحفظها غيبا من رواية ( الحب في زمن الكوليرا).
سيبوح لها  بشوق بكل أسراره الصغيرة التي كتمها في قلبه طيلة سنوات . وسيلقي عليها ما احتفظت به ذاكرته من دعابات سمعها طوال حياته.
سينقل لها بحنين أخبار حيهم ، وكيف آلت الأمور في شارعهم القديم .
وتلاشي الساحة التي ركض بها صبيا ، وعن حديقة الأطفال وكيف هجرتها أسراب الحمام  ولماذا اختفت المراجيح وحلت محلها خيول خشبية لاتبرح مكانها.
سيخبرها بحزن عن تلك العجوز التي تعمل بمسح بلاط المستشفى لتؤمن مصاريف الدراسة الجامعية لابنتها الوحيدة.
وعن جارته الودود التي تطوعت لغسل ملابسه ورتق جواربه ومده بوجبات الطعام.
ستأتي ، وسيتنادمان ، ويبكيان شوقا.
سيغني لها  بمرح  ،وسيشبك أصابعه بأصابعها ويغيب في عينيها.
ستأتي . لايساوره أدنى شك في هذا.
سيحدثها بفخر كيف انفجر في وجه مديره الأجوف ذات يوم وطرده من العمل.
سيخبرها  بحميمية عن المدن التي عشقها ، وتلك التي حلم بها ولن يراها مطلقا،ومقاطعته للصحف ، وامتناعه – في السنوات الأخيرة – عن تناول لحوم الحيوانات ، لاخوفا من ( الكوليسترول) بل لقناعته بأنه ليس من الإنصاف افتراس الكائنات التي تشاركنا البر والبحر.
سيقرأ لها  بوله النصوص التي جمعها والتي تحكي عن ضياع العمر والانكسارات و الحروب المجنونة والأطفال الذين يموتون جوعا.
سيحكي لها بحسرة عن اللقاءات العابرة مع نساء كحبات الكرز صادفهن في صالات الانتظار بالمطارات أو ردهات الفنادق أو أولئك الرجال المنهمكين بأعمال لايعرفها أو سحنات رجال الشرطة المتشابهة في جميع دول العالم.
سيبوح لها  بانكسار عن لياليه الحزينة في أمسيات الصيف ، وزياراته لقبر أمه ورشه بالماء ، وإدمانه التدخين والقهوة وقراءة المعلقات.
اتكأ على عكازه ، نهض بتثاقل ،غادر المقهى المزدحم برواده، مضى يشق طريقه في ليل تكاثف ظلامه.
3 صبــــــــــــــاح جــــــديد
رن جرس المنبه فأسكته ونهضت متثاقلا ، اغتسلت ، اتجهت صوب المطبخ ووضعت ركوة القهوة على الموقد ، نزعت قائمة الطلبات عن باب الثلاجة  ( 1 ) .
                                    (( عزيزي  ( 2 )
                                        أرجوك (3 ) ....اغسل الأطباق والأكواب وجففها جيدا ...
                                       ضع الملابس في المغسلة مع كوبين من مسحوق الغسيل ...
                                      لا تستخدم الماء الفاتر ...ولا تخلط الملابس الملونة والبيضاء
                                      اليوم موعد ري نباتات الظل ..لا تنسى أن تشرع نافذتي
                                      غرفة النوم والحمام ...ضع أكياس القمامة  أمام مدخل
                                      البناية ...عرج ــ في طريق عودتك إلى البيت ــ على
                                     مطعم الأسماك واحجز لنا وجبة جاهزة لأربعة أفراد
                                    فالليلة ستتناول وداد ( 4 )  وزوجها العشاء في بيتنا ......
                                                                                  قبلاتي ..))
فارت القهوة ، اطفأت الموقد ، وددت لو سمح لي الوقت هذا الصباح لتبييض قصتي الأخيرة قبيل ذهابي إلى العمل .
أنجزت طلبات زوجتي جميعها وخرجت .
لم أتمكن من فتح باب سيارتي ، فقد ركن احدهم سيارته جوار باب السيارة .. انتظرت قليلا وقررت أن اركب من الباب الآخر ..وحين اتخذت وضعي خلف المقود وأشعلت المحرك جاء احدهم وركب السيارة المركونة الى جانبي وطار بها دون كلمة اعتذار .
وصلت مقر عملي متأخرا ..ركنت سيارتي بعد جهد لعدم وجود مكان شاغر ..صعدت الدرج لاهثا إلى مكتبي ..حياني زميل (5 ) بابتسامة شمعية مرسومة على وجهه منذ نصف قرن ..أخبرتني زميلة مطلقة أن المدير يطلبني على وجه السرعة  ( 6 ) .
وجه لي مديري ( 7 ) ملاحظات تتعلق بتأخري عن العمل وبطء إنجازي للمعاملات ..ولم يترك لي فرصة للرد وبتر كلامه قائلا : سأكتفي بالتنبيه الشفوي هذه المرة ..مع السلامة .
خرجت في الثانية والنصف فوجدت إشعار مخالفة مرورية موضوعا بعناية بين زجاج السيارة الأمامي وماسحة المطر بسبب ركن سيارتي في مكان يحظر فيه الوقوف ..ولا ادري متى نبتت علامة الممنوع اللعينة أمام سيارتي.
  قدت سيارتي على مهل محاولا السيطرة على شحنات الغضب التي بدأت بالتنامي منذ هذا الصباح متسائلا : متى تسنح لي الفرصة لتبييض قصتي الأخيرة  ... إلا أن صبيا يكاد لا يرى يقود سيارته بسرعة جنونية أطلق آلة التنبيه ، أفسحت له الطريق حتى فاجأني صبي آخر من ناحية اليمين ..حوصرت بين سيارتي الصبيين الأهوجين وقررت إبطاء السرعة كي اتحاشاهما معا .
دخلت بيتي منهكا ، ارتميت على الأريكة الوثيرة ( 8 ) وفكرت في حياتي كلها وتساءلت : هل هذه هي الحياة التي حلمت بها  .
أخرجت وجبة الغداء المعدة في الليلة الماضية ووضعتها فوق الموقد على نار هادئة بانتظار عودة زوجتي .
فكرت أن انتهز هذا الوقت لتبييض القصة اللعينة إلا إنني كنت متوترا ، رميت الأوراق جانبا ، ولعنت مدرس اللغة العربية الذي قرأ في ملامح النجابة المبكرة ( 9 ) وتنبأ لي بأنني سأصبح أديبا مرموقا ، ليس في بلادي فحسب بل في العالم الثالث برمته إذا واصلت الكتابة .
ذهبت إلى الحمام ، أقفلت الباب ، وقفت أمام المرآة المثبتة على الجدار ، تأملت وجها مجهدا لرجل هربت أحلامه ، لا يملك سوى حذاءين أسودين وبضعة قصائد غير منشورة ومشروع رواية لم ولن تكتمل. شرعت بالضحك كي أفك أسارير الوجه الخشبي الذي ينعكس في المرآة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) هذه وسيلة الحوار مع زوجتي التي تضطر للاستيقاظ في وقت أبكر لبعد مكان عملها .
( 2 ) إذا خاطبتك زوجتك بود ــ بعد سنوات طويلة من الزواج ــ فهذا يعني أنها تريد خدمة ما .
( 3 ) الرجاء يعني أن المهام المطلوب إنجازها كثيرة ، وربما شاقة .
( 4 ) وداد وزوجها أثقل زوج على وجه الأرض ، إلا أن زوجتي ترتاح لهما  ، ربما لان وداد دميمة ، فزوجتي لاتدخل بيتها امرأة جميلة  ، أبدا .
اعتاد هذا الزميل أن يلقبني ب ( نجيب محفوظ ) منذ أن علم ــ بالصدفة ــ إنني اكتب القصص
انزعجت منه في البداية ثم أخذت الأمر على سبيل المزاح ، نظرا لكبر سن الرجل الذي يتأهب للتقاعد بعد بضعة أشهر وربما من الحياة برمتها .
( 5 ) اعتدت على المكائد اليومية لصغار الموظفين ..كحبك الدسائس أو الوقيعة أو الوشاية لدى رؤسائهم المباشرين داخل دائرتهم ..وبالطبع يعد التملق سلوكا يوميا .
( 7 ) مديري من الصنف إياه ...وتولى منصبه لاعن كفاءة أو خبرة بل بعد دعوته لرئيس مجلس الإدارة لتناول العشاء في بيته .
( 8 ) زوجتي مشغوفة بتجديد أثاث البيت كلما توفر مبلغ من المال ،وأحيانا نضطر إلى الاستدانة أو الشراء بالتقسيط ، واكتشفت متأخرا أنها تتبع  وصايا صندوق النقد الدولي أي عدم السماح لي بأي تراكم مالي ..وعملا بنصيحة جارة عجوز لها وجه ضفدع وعينا ثعلب وملخصها أن الزوج إذا اغتنى بد ل سيارته وزوجته .
( 9 ) لا اعرف من أين كون فكرته هذه ... ولكنه أول من زرع في راسي وهم أن أكون أديبا.
4 الزيارة
داهمه إحساس قوي بأنهم سيطرقون باب بيته هذه الليلة.
وككل مرة ، سيطلبون منه مرافقتهم لخمس دقائق فحسب ، ولكنها تمدد إلى أشهر طويلة. سيعود بعدها إلى بيته ، يعانق زوجته وابنه ،يتجه صوب الحمام ويترك الماء يغسله.
لم يضيع وقته ولكنه لم يسرع ، فبحكم العادة بات يعرف الوقت المفضل لزياراتهم.
شرع في ترتيب حقيبته الصغيرة : منشفة وغيارات داخلية ، لم يأخذ فرشاة ومعجون الأسنان فهما  بالنسبة لهم  ترف . قرر ترك نظارته الطبية حيث كسرت في المرة الأخيرة.
دخل عليه ابنه ليخبره أن وجبة العشاء جاهزة ، سأله : بابا ، هل أنت مسافر ؟
تساءل في دخيلة نفسه : هم يعرفون جيدا أنه ليس لديهم شيء ضدي ، ولو كانوا يملكون شيئا لكانت زيارة واحدة لا أخت لها ، فلماذا لعبة القط والفأر هذه ؟.
غمغم ببعض كلمات مبهمة ، ولم يعرف بم يجيب عن تساؤل ابنه .ويبدو أن فكرة السفر كانت تبريرا مقنعا من زوجته عن غيابه المتكرر كي تلجم فضول الصبي.
أغلق الحقيبة ، حضن ابنه وشم رائحته التي سيحرم منها طيلة الشهور القادمة .
ولكن هل سيأتون الليلة .؟
لقد نشأت لديه حاسة جديدة تتنبأ بموعد زياراتهم له ، ثمة خيط موصول بينه وبينهم كخيط الصنارة ، كل طرف بإمكانه الشعور بحركة الآخر ، الصياد والفريسة ، ولذا فأنه يتوقع اطلالهم هذه الليلة .
جلس إلى المائدة ،وضع الصبي على ركبته وزوجته إلى جانبه تنتحب في صمت بعد أن أخبرها بتوقعاته بما سيحدث آخر الليل .
رغم أنها حاولت تبديد شكوكه إلا أنها تعرف في قرارة نفسها أن حدسه صادق.
نظر إلى مكتبته ، ود لو اصطحب معه عدة روايات تساعده على وأد الرتابة والثواني التي ستمر عليه وكأنها دهر.
استلقى على السرير مع زوجته والصبي بينهما.
حاول إغماض عينيه دون فائدة.
نام الصبي وظلت زوجته تنتحب في صمت .
ود لو يبكرون في المجيء كي لا يقتله عذاب الانتظار.
سرح في أحوال الدنيا ، وفكر : هل سيكون حال ابنه في المستقبل أفضل من حاله أم أنه سيعاني من الزيارات الليلية المنتظمة ؟.
نعس قليلا ، ومع انه لم يفاجأ تماما ، إلا أن الطرقة الثقيلة على باب بيته في الهزيع الأخير من الليل وجب لها قلبه.
الشيء الذي حدث
لم يلق بالاً إلى غياب منفضة السجائر عن مكانها ، في السابق كان يلومها على ذلك . انشغل بتصفح مجلة فيما كانت تجلو الصحون في المطبخ وكان بوسعها أن تتكهن بما يفعله في هذه اللحظة : يجلس ـ كعادته ـ بعد كل عشاء ليدخن ويقرأ ، وبجانبه منضدة زجاجية صغيرة فوقها منفضة السجائر ، وحين تستغرقه القراءة ينسى موقع المنفضة مما يجعل رماد السجائر يقع على السجادة ، ويترك أثراً لا يزول بسهولة .. كانت تلومه على إهماله .. وكان يبتسم لها كطفل أساء التصرف .
بدا له ـ أثناء القراءة ـ أن المشكلة كلها في غاية السخف ، ودّ ـ في أعماقه ـ أن تنتهي هذه الليلة الثقيلة على أي نحو كان .
بدت لها عاداته المزعجة أمراً يمكن التآلف معه ، ولا تستحق أن تثور من أجلها .. الغريب أن هذا الخاطر عنّ لها الآن فقط بعد أن اتفقا على إنهاء ما بينهما مع مطلع شمس الصباح .
في البداية اّمنا بأن الحب وحده يكفي لإزالة كل العثرات .. والآن صارا يعتقدان بأن الحياة ما هي إلا مواقف صغيرة تتراكم مع الزمن .
أدار جهاز التسجيل فانبعث صوت " فيروز " ، انتبه للمرّة الأولى في حياته إلى مسحة الحزن في صوتها ، وكأنه رجع بعيد ، شجىً مفصول عن الموسيقى والكلمات .. كانت هذه الأغنية بالذات المفضّلة لديها ، رفع صوت المسجل قليلاً لتتمكن ـ وهي في المطبخ ـ من سماع أغنيتها العزيزة على قلبها ، تخيّلها الآن تجلو الصحون مرتدية قفازاً مطاطياً رقيقاً .
كلاهما ـ هو في الصالة وهي في المطبخ ـ يستمع إلى الأغنية ، وفي نفس الوقت يرهف السمع نحو الآخر ولا يستطيعان تخيل ما حدث وما سيحدث ، تمنيا ـ في أعماقهما ـ أن يبادر الآخر بالمصالحة ونسيان الأمر برمّـته .
طرق خاطره أنها السبب فيما حدث ، فهي قد أذنبت كثيراً في حقه ، ولطالما سامحها على عثراتها ، إلا أنه لم يعد يحتمل منغصاتها اليومية .
أتت إلى الصالة حاملة الشاي ، تناول كوبه ، وظلا يحتسيان الشاي في صمت ، تشاغل بتصفّح المجلة ، وتشاغلت بالعبث في سلسلة تطوّق عنقها ، إلا أنها أبعدت يدها فجأة حين تذكرت أنه أهداها لها في أول عيد زواج لهما ، كانت تنظر إليه خلسة فيما هو مستغرق بالقراءة ، بدا لها أنها تشرب الشاي مع رجل غريب .
أرجعته صورة في المجلة إلى عدة سنوات مضت ، حين تعرّف عليها لأول مرة ، وتكررت لقاءاتهما في ركن مقهى يشرف على شاطئ البحر ، لم ينتبه حين غيّرت الشريط في جهاز التسجيل .
وقبل أن تعود إلى مقعدها هزّتها ذكرى مرضها ذات ليلة ، تذكرت كم عانى حين أسرع بنقلها إلى المستشفى حيث أجهظت في تلك الليلة المطيرة ، كان بوسعها ـ حين حُملت على نقالة المستشفى ـ أن تسترجع صورته وهو يستدير ليخفي قلقه ، فما الذي بدّله ؟
نهض ، أطفأ السيجارة في منفضة بالمطبخ ، في طريق عودته إلى الصالة خاطب نفسه : لم تستطع أن تفهميني أبداً .
ألا تقدر عشرات الضغوط اليومية التي يتعرض لها في العمل والشارع وسوق الخضروات والجيران والالتزامات الاجتماعية والسعي الدائم لتأمين المستقبل لأسرته ؟ هذه المتاهة التي تشبه لعبة صينية .. لها بداية ولكنها لا تنتهي أبداً .
حاولت من جانبها أن تشرك أصدقاءهم لحل مشكلاتهم ، إلا أنها اكتشفت بعد عدة محاولات أنهم يعقدون المشكلة عوض حلها فأقلعت عن ذلك .. أنها لا تكرهه .. ولكنها تشعر بأن أحلامها لم يتحقق منها شيء .
نهض وجلب وسادة من الغرفة ونام في الصالة ، دخلت هي إلى غرفة النوم ، ناما وكلاهما مصمّم على أن يذهب كل منهما ، في الصباح ، إلى حال سبيله .
في الصباح تأخرا في الاستيقاظ ، وحين نهضا أخيراً إلتقيا وسط الردهة مُسهدين ، كل منهما يحمل منشفته ، نظر كلاهما إلى الآخر وشعرا أن ليلتهما الماضية كانت قاسية ، وإن ما تصوّرا حدوثه في الصباح كان أقسى مما يستطيعان احتماله .
مع فائق التقدير،

فتحي نصيب | fnmb88@yahoo.com

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا