لا داعي
للقول إن أنظمة الحكم منذ التجمعات البشرية الأولى إلى الآن قدمت نموذجا راقيا و إيجابيا في أسس الحكم, أو قامت بالحد من النزعات الفردية
و الأنانية و
وسائل استخدام العنف و تهذيب الغريزة, و متعت الإنسان بجميع حقوقه الطبيعية
و المدنية, و اعترفت بالكرامة و بالحق المتساو في الحرية و العدل, و تحقيق الغايات
التي يرنو إليها عامة البشر في الاعتقاد و حرية الرأي, و حاربت كل أشكال الاستبداد
و الظلم, فمملكة البشر يمكن القول أنها مملكة حرب و صراع و اقتتال أكثر من كونها مملكة
سلم و أمان و طمأنينة, مملكة تعصب و إقصاء أكثر مما هي محطات تسامح و اعتراف بالأخر
ألم يقل "نيتشه" يوما أن الحضارة لا يمكن أن تنسى رائحة الدم و التعذيب و
حتى في الواجب الأخلاقي الكانطي نجد أثرا للقسوة.
ليس
الغرض هنا تقديم عرض كرونولوجي لتاريخ الفكر السياسي و استقراء مراحله,سنركز على حقبة
هامة من التاريخ البشري تقديرا منا على أن هذه المرحلة شهدت سيلا هائلا من التنظيرات
العقلانية و الواقعية, و بعثا جديدا للعقل و مهدت لفصل الدين عن السياسة بدء بكتابات
ماكيافيلي الذي مهد لنظام الحكم الواقعي عملا بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة, و حتى تفسيرات
ابن خلدون لنظام الدولة اعتبرت ثمرة مجهود لربط السياسي بالواقعي رغم أن الهدف منها
لم يكن فصل الدين عن الدولة,إلا أنه قدمتحليلا عميقا و مفصلا لنظام الدولة منذ النشأة
حتى مرحلة الانهيار و الأفول, و بشهادة الغربيين اعتبرت كتاباته أول تقديم لاديني للتاريخ,كونها
قامت على منهج يرى أن كل الظواهر الاجتماعية ترتبط بعضها ببعض,و كلها تندرج ضمن إطار
ما أسماه بالعمران البشري سواء كانت سياسية,جغرافية,اقتصادية,ثقافية,أو اجتماعية,أما
الدعامة الأساسية للحكم حسب ابن خلدون تكمن في العصبية (مفهوم خلدوني) التي ترتبط بالعديد
من المؤثرات الأخرى التي تأثر في نظام الحكم كالنسب, البداوة, التحضر, القبلية, الصراع
الطبقي و حتى المناخ...يكفي أن نقول هنا أن مجمل التحليلات التي قدمها ابن خلدون تشابهت
في جوانب عديدة منها بكتابات مونتيسكيو في عصر الأنوار.
إلا
أن التجلي الواضح لنظام الحكم المدني أو الدولة المدنية بمفهومه الحقيقي ظهر مع كتابات
فلاسفة العقد الاجتماعي رغم اختلافهم في تعريف الحرية الفردية و حدودها داخل الدولة
بين هوبز و اسبينوزا و لوك و روسو و غيرهم, و هو اختلاف مرده للنسق الفكري لكل منظر
و كذا الظرفية السياسية و الدينيةلكل فترة, فتصور اسبينوزا لأساس الحكم المدني كاد
يودي بحياته لكونه تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة.فكيف يمكن فهم الأساس الذي عرضه اسبينوزا
في مؤلفه"رسالة في اللاهوت و السياسة"؟
لفهم
أساس الحكم الذي نظر إليه اسبينوزا ينبغي الرجوع إلى النسق العقلاني الفلسفي الذي اشتغل
في إطاره و من خلاله قام بتوضيح حدود العقل و الإيمان و وضائف كل منهما,يرى اسبينوزا
أن العقل و الإيمان منفصلين تماما و لكل واحد منهما وظيفة تجعله يختلف عن الثاني,و
العقل من هذا المنطلق ليس خادما للاهوت كما
اعتقد الفلاسفة المدرسيين و فلاسفة الإسلام اللذين حاولوا اجتراح حجج عقلية لإثبات
وجود الله و خلق العالم و خلود النفس,و لأن مجال الإيمان يختلف عن مجال التفلسف فإن
هذا الأخير لا يشكل خطرا على الأول,و المؤمن الحقيقي حسب اسبينوزا هو الذي يدعو الناس
إلى العدل و الإحسان كعقائد ثابتة , و ليس من الضرورة البرهنة عليها بالحجج العقلية,فوظيفة
العقل هي اكتشاف القوانين المتحكمة في الطبيعة. لكن إذا كان العقل ينفصل عن الإيمان
و التقوى, فكيف ينبغي للإنسان أن يسلك داخل الدولة؟بمعنى هل الدولة قائمة على قوانين
العقل أم أخلاق الإيمان و التقوى؟
هنا
يرى اسبينوزا أن قوانين الطبيعة لا تخضع لقوانين العقل وحدها بل تشمل مالا نهاية له
من القوانين الأخرى المتعلقة بالنظام الأزلي للطبيعة بأكملها,و هذا التعدد في القوانين
هو ما يدفع الإنسان إلى البحث عن القانون الأنسب,و لا يمكن أن يوجد هذا القانون إلا
في اتباع قوانين العقل و ليس الشهوة العمياء,فالعقل هو الضامن الوحيد للحفاظ على الحياة
و العيش في أمن و استقرار,لهذا كان لزاما على الإنسان الانخراط في نظام موحد,و بهذا
أصبح الحق الذي كان لكل فرد بموجب الطبيعة ينتمي إلى الجماعة,و لم تعد تتحكم فيه القوة
و الشهوة, بل قوة الجماعة و تحاد إرادات الأفراد,و إذا كانت قوانين العقل هي المتحكمة
في الطبيعة فلا مجال للعودة إلى التفسيرات الخرافية,لأن الدولة الديمقراطية هي دولة
عقلانية هدفها الأول إشاعة حرية التفكير و ليس التخويف و القهر و الاستبداد و هذه أبرز
أسس الدولة المدنية التي تعترف بإنسانية الإنسان," ...تبدو السيادة الحاكمة ظالمة
لرعاياها و متعصبة لحقوقهم عندما تحاول أن تفرض على كل منهم ما يتعين عليه رفضه على
أنه باطل,و أن تفرض عليه المعتقدات التي تحثه على تقوى الله, ذلك لأن هذه الأمور تعد
حقا خالصا بكل فرد,و لا يمكن لأحد - إن شاء-أن يسلبه إياه, و أنا أعترف بأن هناك أناسا
كثيرين لا يخضعون حقا خضوعا مباشرا لسلطة فرد اخر, و لكن ذهنهم يحتشد بقدر من الأفكار
المسبقة العجيبة ينساقون وراء أفكار هذا الاخر, إلى حد نستطيع معه أن نصنفهم بأنهم
تابعون له في فكره ..."(1),"...فإذا كان موسى نفسه لم يسلم مع ذلك من الشبهات
و التأويلات المعارضة له, فكيف يسلم الملوك أنفسهم من ذلك,فإذا كان من الممكن تصور
عبودية الأذهان في النظام الملكي فإن هذا الاحتمال مستبعد تماما في نظام الحكم الديمقراطي,حيث
يشارك الشعب كله أو معظمه في السلطة الجماعية ..."(2)
بهذا
يمكن اعتبار موقف باروخاسبينوزا من المواقف الداعمة لنظام الحكم المدني الديمقراطي
القائم على مبادئ إنسانية محضة كالحرية و العدل,باعتبار السلطة السياسية تكون أشد عنفا
إذا أنكرت على الفرد حقه في التفكير و الدعوة لما يفكر فيه, و معتدلة إذا سلمت له بهذه
الحرية, فالغاية من تأسيس الدولة ليست السيادة أو إرهاب الناس و ليست تحويل الموجودات
العاقلة إلى حيوانات و الات صماء, بل إتاحة الفرصة لأبدانهم لكي تقوم بوظائفها دون
إشهار لأسلحة الحقد و الكراهية,و ذهب اسبينوزا إلى أبعد من هذا حين اعتبر حرية الفكر
و الحكم فضيلة من الفضائل, بدونها لما استطاع الإنسان الكشف عن أسرار الطبيعة و تطور
العلوم و الفنون, "إن العلوم و الفنون لا تتقدم تقدما ملموسا إلا على أيدي أناس
تخلصوا تماما من المخاوف و أصبحت لهم حرية الحكم". (3)
غير
أن موقف اسبينوزا بالرغم من كونه كان بمثابة رسالة واضحة لرجال الدين المحاطين بالحصانة
الإلهية, فلم يصل إلى الجرأة التي ميزت كتابات جون لوك,على اعتبار أن اسبينوزا سلك
في الأخير مسلك المهادنة مع رجال الدين و ختم رسالته بكونه قادر على التنازل عن مواقفه
"و هكذا انتهيت من معالجة جميع المسائل التي اعتزمت بحثها عندما شرعت في الكتابة.
و لم يبق لي إلا أن أعلن صراحة أنني أقدم عن طيب خاطر كل ما كتبت للسلطات العليا لوطني
لكي تفحصه و تحكم عليه. فإن بدت لها إحدى قضاياي معارضة لقوانين البلاد أو الضارة بالمصلحة
العامة, فإني أتراجع عنها. ذلك لأني أدرك أنني بشر و إن من الممكن أن أكون قد أخطأت.
و لكني على الأقل حاولت بقدر طاقتي ألا أقع في الخطأ, حرصت بوجه خاص على ألا أكتب شيئا
يتعارض مع قوانين بلدي أو يتنافى مع الحرية و الأخلاق الحميدة".(4).
الهوامش:
(1)رسالة في اللاهوت و السياسة,ترجمة و تقديم حسن حنفي,دار التنوير للطباعة
و النشر بيروت الطبعة الأولى 2005.ص 436
(2)نفس المرجع ص 435
(3)نفسه ص440
(4)نفسه ص 444
mohammedmchamech
mohammed.elmchamech@gmail.com