المشروع الفرنكفوني
في المغرب من القوة الثالثة إلى حزب التكنوقراط الفرنكفوني..
في مخاطر تدمير قيم
الوطنية المغربية
د. إدريس جنداري –
باحث
تمكن التحالف بين
الملكية، في شخص محمد الخامس، و بين الحركة الوطنية، ممثلة
في حزب الاستقلال، من محاصرة الأطماع الاستعمارية، اقتصاديا و سياسيا و ثقافيا،
ضمن ما أطلق عليه ثورة الملك و الشعب، و قد نتج عن ذلك إرغام لسلطات الحماية على
الدخول في مفاوضات أدت إلى إعلان استقلال المغرب- سياسيا على الأقل- لكن دهاقنة
الاستعمار الفرنسي لم يتخلوا عن سلاحهم الاستعماري، بل إنهم ظلوا محافظين على نفس
التصور الاستراتيجي رغم تغيير الخطة، من الهيمنة الاستعمارية العسكرية المباشرة
القائمة على أساس إخضاع الأجساد، إلى الهيمنة الثقافية الغير مباشرة القائمة على
أساس إخضاع النفوس، بتعبير جورج هاردي مدير التعليم في المغرب .
لذلك، فإن المفاوِض الاستعماري لجأ إلى
محاصرة المفاوَضين المغاربة بمجموعة من الاتفاقيات، المعلنة و السرية، التي تمكن
فرنسا، بعد إعلان الاستقلال، من المحافظة على مصالحها الاقتصادية و السياسية في
المغرب، و هذه المصالح ذات الطابع المادي الصرف تمر، حسب التصور الفرنسي، من خلال التحكم في صناعة
الشخصية المغربية، على المقاس الاستعماري، و لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال
التحكم في منظومتي التعليم و الثقافة، و ذلك يمر، بالضرورة، عبر صناعة نخبة ثقافية
قادرة على القيام بمهمة إعادة الإنتاج القيمي في علاقة بالمنظومة الثقافية
الاستعمارية.
ضمن هذا السياق السياسي، برزت إلى الوجود
نخبة تكنوقراطية تمثل، في معظمها، المشروع الاستعماري الموؤود، و ذلك ضمن ما سماه
المفكر محمد عابد الجابري ب " القوة الثالثة" و التي تجسدت، حزبيا، في
حزب الفيديك الذي أسسه أحمد رضا كديرة، مدعوما بنخبة عسكرية مخلصة للمشروع
الاستعماري يقودها الجنرال محمد أفقير، بالإضافة إلى نخبة اقتصادية وليدة النموذج
الريعي الاستعماري.
و لا يمكن استيعاب
هذا المشروع جيدا، إلا من خلال سياق تأسيسه الذي جاء بعد إفشال تجربة حكومية واعدة
كان يقودها المناضل و الأستاذ عبد الله إبراهيم، و هي تجربة وطنية تتجاوز البعد
الحكومي التقني، لأنها قادت تجربة رائدة في التحرر الاقتصادي و السياسي و الثقافي
عن المرجع الاستعماري، مما وحد ضدها أعداء الخارج و أتباعهم في الداخل، و هكذا تم
وأد هذه التجربة الوطنية، و بديلا لها تم الإعلان عن تجربة لا-وطنية جديدة تحالفت
فيها مجموعة من المكونات السياسية و الثقافية، التي تجتمع عند خدمة المشروع
الاستعماري و محاربة التوجه الوطني.
-
بنية و تكوين مشروع
القوة الثالثة
يعود الإعلان الرسمي
عن مشروع " القوة الثالثة" في المغرب الحديث إلى مرحلة المفاوضات التي
قادها المغرب مع فرنسا بهدف الحصول على الاستقلال، لكن تشكل هذه القوة يسبق ذلك،
بكثير، حيث تعتبر بمثابة البذور الملوثة كيميائيا التي زرعها الاستعمار الفرنسي في
التربة المغربية، قبل انسحابه، لتنوب عنه في مواصلة تجسيد المشروع الاستعماري بعد
الانسحاب. و قد تم تشكيل " القوة الثالثة" عبر توجيه استعماري لتقوم
بوظيفة زرع الشقاق بين القوتين السياسيتين المؤطرتين للمجال السياسي المغربي.
القوة الأولى تمثلها المؤسسة الملكية من خلال شرعيتها التاريخية كممثل لوحدة و
استقلال المغرب عبر التاريخ، و القوة الثانية تمثلها فصائل الحركة الوطنية،
بجناحيها التقدمي و المحافظ، من خلال شرعيتها النضالية إلى جانب الملك محمد الخامس
ضمن ما أطلق عليه، مغربيا، ثورة الملك و الشعب.
و كامتداد للحضور
السياسي و الاقتصادي و الثقافي لهاتين القوتين، فقد كان المغرب يسير بخطى ثابتة
نحو ترسيخ استقلاله و تحرره من ما يؤكده الاستاذ الجابري الذي يعتبر أن وظيفة
القوة الثالثة تكمن في الفصل، بين القوى الشعبية التي كان يمثلها حزب الاستقلال، قبضة
المشروع الاستعماري، و هذا ما كان يغيض قادة المشروع الاستعماري، خارجيا، و عملاءه
من خونة القضية الوطنية، داخليا، مما دفعهم إلى التفكير و العمل على إفشال المشروع
الوطني التحرري، من خلال تشكيل "قوة ثالثة" قادرة على إفشال المشروع
الوطني الذي تجسده ثورة الملك و الشعب. و هذا و بين الملك الذي كان هذا الحزب من
جَنَّد الشعب وراءه كرمز للوطنية و النضال من أجل الاستقلال.
أنظر: محمد عابد
الجابري- في غمار السياسية: فكرا و ممارسة (الكتاب الأول) – الشبكة العربية
للأبحاث و النشر – ط: 1- بيروت – 2009 - ص: 185
و من خلال العودة
إلى البوادر الأولى لتشكيل " القوة الثالثة"، فإننا نجدها ترتبط بمرحلة
عزل الملك ممد الخامس، قبل إعلان الاستقلال، من أجل كسر التحالف بين الملكية و
الحركة الوطنية. فقدكان عزل محمد الخامس و نفيه في 20 غشت 1953 تتويجا لمسلسل بدأته
السلطات الفرنسية قبل عامين من ذلك التاريخ، حينما عمدت إلى قمع الحركة الوطنية
المتمثلة في حزب الاستقلال خاصة، و تكوين " قوة ثالثة". أما عن مكونات
هذه القوة، فيجسدها الأستاذ الجابري في مجموعة من القواد الكبار (الإقطاعيون) و الزعامات
الدينية (الطرقية) و شخصيات من دار المخزن نفسها.
محمد عابد الجابري-
في غمار السياسة – ص: 177
لقد اجتمعت كل هذه
المكونات ضمن مشروع موحد مناوئ للمشروع الوطني التحرري الذي كانت تقود الملكية في
تحالفها مع قوى الحركة الوطنية. لذلك كان تأسيس هذه القوة موجها، بالدرجة الأولى،
نحو إفشال المشروع الوطني، من خلال الضغط على الملك محمد الخامس لحمله على قطع
علاقاته مع الحركة الوطنية و التوقيع على الظهائر التي تقدمها له سلطات الحماية في
موضوع ملاحقة و تصفية قيادة حزب الاستقلال و أطره و مناضليه من جهة، و منح
المعمرين و الجالية الفرنسية في المغرب، عموما، حقوقا لم تمنحها لهم معاهدة
الحماية من جهة اخرى.
-
الصراع بين المشروع
الوطني و مشروع القوة الثالثة
ظهر الصراع بين
المشروع الوطني الذي يمثله حزب الاستقلال، و بين المشروع الاستعماري الذي تمثله "القوة
الثالثة" خلال مفاوضات إيكس ليبان،
حيث تمكنت سلطات الحماية من فرض ما كانت تسميه ب(الوطنيين المعتدلين)، و ذلك
لتسهيل مهمة تمرير رؤيتها لمرحلة ما بعد الاستقلال. و قد استمر هذا الصراع خلال
تشكيل أول حكومة في عهد الاستقلال، و التي كان فيها دور القيادة للقوة الثالثة،
بينما كان دور حزب الاستقلال كممثل للمشروع الوطني هامشيا، و قد وصل هذا الصراع
أوجه بعد إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم التي كانت تجسد المشروع الوطني التحرري، و
تعويضها بنخبة سياسية و عسكرية جديدة مناوئة لقيم الحركة الوطنية، من أبرزها أحمد
رضا كديرة صاحب مشروع (الفيديك) و محمد أفقير الجنرال الدموي الذي وظف سلطة الجيش
للإجهاز على قيادة و قواعد الحركة الوطنية.
لكن هذا التمرد على المشروع الوطني، في
الحقيقة، يعتبر امتدادا لمشروع متكامل تم تهييئه مع أول حكومة بعد الاستقلال مع
وزير الداخلية (الحسن اليوسي) في حكومة
مبارك البكاي، حيث انخرط بشكل صريح في مواجهة المشروع الوطني، الأمر الذي جعله
يدخل في تنسيق مع ضباط الحماية من أجل ملاحقة و التضييق على مناضلي الحركة
الوطنية، و هذا ما جعله يظهر كمتزعم لتيار "قبلي" مناهض لحزب الاستقلال حسب الأستاذ الجابري. فقد
كان يراهن، في مواجهته للمشروع الوطني، على قبائل الأطلس المتوسط التي توجه إليها
في حملته ضد حزب الاستقلال. و قد دخل في علاقات مشبوهة مع بقايا موظفي الاستعمار
للقيام بحملته الدعائية ضد الوطنيين، و لعل ما يؤكد هذه العلاقة المشبوهة، حسب
الجابري، هو علاقة اليوسي بالضباط الفرنسيين في محاكمة عدي أو بيهي.
محمد عابد الجابري –
في غمار السياسة - ص: 187-188
لقد كان اليوسي،
كممثل للقوة الثالثة، على وعي تام بالتناقض القائم بين مشروعين مختلفين، في مغرب
ما بعد الاستقلال، من جهة هناك مشروع الحركة الوطنية الذي تأسس على تكريس مقومات
الوطنية المغربية، بداية بالنضال من أجل تقوية دور المؤسسة الملكية كضامن لوحدة و
استقلال المغرب ( نذكر هنا بالدور المشرف للحركة الوطنية عند نفي الملك محمد
الخامس حيث ربطت استقلال المغرب بعودة محمد الخامس، و كذلك الدور الذي لعبته في إجهاض
المشروع الاستعماري المجسد في ابن عرفة) و مرورا بالنضال من أجل تكريس مقومات
الهوية المغربية، في بعدها العربي الإسلامي. و من جهة أخرى هناك مشروع القوة
الثالثة، الذي يعد امتدادا للمشروع الاستعماري، فبالإضافة إلى علاقته المشبوهة مع
الاستعمار لتحجيم دور المؤسسة الملكة في أفق إضعافها لفسح المجال أمام خدام
المشروع الاستعماري (نذكر هنا بالدور الخطير الذي لعبته القوة الثالثة في تهميش
دور الملك محمد الخامس و تتويج سلطان الحماية ابن عرفة)، بالإضافة إلى ذلك كان توجهها
نحو توظيف فلسفة الظهير البربري للفصل في سكان المغرب بين البربر ( البوادي/النخبة
البربرية) و العرب (المدن/ النخبة الحضرية/الحركة الوطنية)، وهذا ما جسده وزير
داخلية حكومة القوة الثالثة بشكل صريح في توجهه إلى الأطلس المتوسط لإعلان حربه ضد
المشروع الوطني في شراكة مع بقايا موظفي الاستعمار الفرنسي.
ما يبدو هو أن
المستهدف الرئيسي من تأسيس القوة الثالثة، هو مشروع الشراكة بين المؤسسة الملكية و
بين الحركة الوطنية، فمنذ البوادر الأولى لتأسيس " القوة الثالثة" في
المغرب كان التوجه واضحا للحسم مع قيم الحركة الوطنية في بعدها التحرري، اقتصاديا
و سياسيا و قيميا، و لذلك فقد كان التوجه إلى الخزان البشري في البوادي المغربية
لتشكيل قوة انتخابية قادرة على إزاحة قادة و مناضلي الحركة الوطنية، الذين ركزوا
حركتهم النضالية على الفضاء الحضري، باعتبارها حركة فكرية قائمة على استعادة الوعي
الفكري و السياسي بالذات الجمعية المغربية تهييئا لمواجهة المشروع الاستعماري، و
هذا التوجه لا يمكن أن يكون خارج الفضاء الحضري بما يتيحه من مجالات الحوار و
النقاش الفكري و السياسي.
لقد وعى قادة القوة
الثالثة بأن مواجهة المشروع الوطني لا يمكنها أن تتم إلا من خارج أسوار المدن، و
لذلك توجهوا إلى البوادي، و أشاعوا أن المشروع الوطني ذو طابع حضري يقوم على تهميش
دور البادية المغربية لذلك يجب مواجهته، و هذا ما أتاح لهم تهييئ فضاء اجتماعي
قادر على التفاعل مع المشروع المناوئ لمبادئ الوطنية المغربية، ليصلوا، في الأخير،
إلى مرحلة احتكار الشأن الوطني بدعم واضح من موظفي سلطات الاستعمار الفرنسي. و هكذا
تم الإجهاز على المشروع الوطني من خلال النجاح في الإجهاز على حامليه من قادة و
مناضلي الحركة الوطنية، و أتيحت الفرصة، في المقابل، للمشروع الاستعماري يصول و
يجول بلا رقيب، في الاقتصاد و السياسة و الثقافة.
و قد كان الإجهاز
على البصيص الأخير من أمل المشروع الوطني التحرري بعد إسقاط حكومة عبد الله
إبراهيم التي جسدت آخر قلاع مقاومة مشروع القوة الثالثة، فقد تم تجنيد العناصر
الليبرالية في جوقة هذه القوة، و على رأسهم أحمد رضا كديرة، و سلوك مسلسل منهجي من
القمع البوليسي لتفكيك و كسر شوكة إحدى القوى الاساسية في الاتحاد الوطني، قوة
المقاومة كرجال و رصيد و إشعاع.
-
من القوة الثالثة
إلى حزب التكنوقراط الفرنكفوني
كثيرا ما تردد، في أوساط النخبة المغربية الفرنكوفونية، أن
للمغرب خصوصيته الحضارية التي تربطه أكثر بالامتداد الأورو-متوسطي
(الغربي/الفرنسي) أما علاقته بالمشرق العربي فلا تعدو أن تكون حادثة سير عادية
سيشفى من كدماتها مع مرور الوقت !و لا يتحمل هؤلاء
عناء البحث لتأكيد رأيهم لأن ما راكمه الفكر الاستشراقي، في قراءته الانتقائية
لحضارة الشرق عامة و للحضارة العربية على وجه الخصوص، يكفي و زيادة . و هكذا ينتشي الكائن النخبوي/الفرانكفوني
باكتشافه الباهر، و يهرول في اتجاه الغرب/فرنسا يستهلك كل ما يصادف في طريقه من
دون تمييز .
لقد عاش المغاربة
على استهلاك هذه الأوهام، و نظرا لتكرارها فقد تم فرضها كحقائق ساطعة لا تقبل أي
جدل، و من ينتقدها يتهم بالتطرف الديني أو، على الأقل، بالانتماء إلى الإيديولوجية
القومية !!!و لذلك كانت خاصية
ما سمي بالعهد الجديد في المغرب، هي التوجه الكلي نحو فرنسا التي تم تسويقها، سياسيا
و اقتصاديا و ثقافيا، باعتبارها المهدي المنتظر الذي سينقذ المغرب من جميع
أزماته.
و ضمن هذا التوجه يمكن أن نفهم جيدا، اليوم،
كيف تم إغراق المشهد السياسي المغربي في مستنقع التكنوقراط الذين تم تفريخهم في
مدرسة القناطر و الطرق الفرنسية، على عهد الراحل عبد العزيز مزيان بلفقيه الذي يعتبر
مهندس العهد الجديد في المغرب، بتوجهاته التكنوقراطية/الفرنكوفونية، و قد كان لهذا
التوجه أثرا كارثيا على المشهد السياسي، لأنه أفشل مسلسلا ديمقراطيا دشنته حكومة
التناوب التوافقي برئاسة الأستاذ و المناضل عبد الرحمان اليوسفي، و كان من المرتقب
أن يؤسس لعهد سياسي جديد تتحكم فيه المنهجية الديمقراطية.
لقد كان تعيين السيد إدريس جطو، كرئيس
للوزراء، بمثابة الإعلان عن نضج المشروع
السياسي التكنوقراطي الفرنكفوني الذي سيقود مرحلة كاملة، تحكم في تسييرها مهندسو
القناطر و الطرق، الذين كانوا يتقلدون جميع المناصب و يقومون بجميع المهمات من دون
استثناء باعتبارهم قادة المرحلة و حكماؤها ! لكن الحصيلة، منذ 2002 و إلى حدود
انتخابات 2007، كانت كارثية بجميع
المقاييس، حيث تم الإجهاز على كل ما يرتبط بالسياسة لأن المغرب عاش، طوال خمس
سنوات كاملة، باعتباره مقاولة تجارية تتحكم في تسييرها الأرقام الجافة أكثر مما
تتحكم المرجعيات السياسية و المبادئ الفكرية.
-
تازة قبل غزة ..
فشل شعار فشل مشروع
خلال هذه المرحلة، بالذات، تم الترويج لشعار
تكنوقراطي لا يخلو من فجاجة، و ذلك بهدف تكريس مفهوم ضيق و مختزل للسياسة. يقول
الشعار أن " تازة قبل غزة"، و المقصود منه تحقيق هدفين أساسيين:
· الهدف الأول، إفراغ السياسة من روحها و تحويلها إلى جسد
منخور، عبر تقزيمها إلى عمل إداري بسيط لا يتجاوز إطار الجماعات و السلطات
المحلية، و بذلك كان التوجه واضحا لإقصاء المواطن من أي مشاركة فاعلة في صناعة
القرار السياسي و الاقتصادي، و من خلاله محاولة ٌإقصاء أي فعل حزبي جاد، و هذا ما
كان يمهد لبلورة نموذج في الحكم الاستبدادي الذي تم تسويقه باعتباره مفتاح التنمية
الناجحة (نموذج تونسبن علي و مصر مبارك).
· الهدف الثاني، محاولة سحب المغرب من محيطه العربي (غزة)
عبر الترويج لإيديولوجية متهافتة تقول أن انخراط المغرب في العمل العربي المشترك
يؤثر على نموذج التنمية المحلية، لأن أي انخراط
له ضريبته الخاصة على مستوى السياسة الداخلية، و لذلك يجب على المغرب أن
يركز على صناعة نموذجه التنموي الوطني بدل الانشغال بقضايا قومية لا تهمه في
شيء !
بعد مرور أكثر من عقد كامل على ترويج هذه
الإيديولوجية المتهافتة، يمكن لأي باحث/خبير/متابع أن يلمس تواضع/انحطاط النموذج
التكنوقراطي/الفرانكفوني الذي خطط له مهندسو
القناطر و الطرقات في المغرب، بل أكثر من ذلك كان هؤلاء يغامرون بمستقبل المغرب
حينما فتحوا أبوابه على المجهول، و كأني بهؤلاء قد تعاملوا مع الدولة بكاملها
باعتبارها مجسما هندسيا جامدا لا يخضع لحركية التاريخ و إرادة الأفراد و الجماعات !
و في علاقة بالهدفين، سالفي الذكر، اللذين تم
التخطيط لتحقيقهما، يمكن أن ندرك درجة الخطر الداهم الذي كان يؤذن بقدوم "تسو
نامي" مدمر سيأتي على الأخضر و اليابس.
· على مستوى الهدف الأول، حقق مهندسو القناطر والطرقات هدفهم
المرسوم في قتل مفهوم السياسة، و هذا ما عبرت عنه انتخابات 2007 التي كانت بمثابة
الكارثة الوطنية، حيث تحقق تراجع كبير في الاهتمام الشعبي بالممارسة السياسية، و
هذا ما انعكس على نسبة التصويت التي حققت تدنيا تاريخيا. و رغم خطورة الوضع، فإن
هذا لم يكن سوى الشجرة التي تخفي الغابة، لأن اخطر ما تحقق هو تراجع الأحزاب التاريخية التي كانت تساهم في
التأطير السياسي للمواطنين و المساهمة في نشر الثقافة الديمقراطية، و في المقابل
تم فتح المجال لتأسيس حزب الدولة الذي يحمل مشروعا يقوم على أساس النضال من أجل
بناء مشروع تسلطي على شاكلة تونس بن علي و مصر مبارك، و لولا سرعة رياح الربيع
العربي لكان المغرب، اليوم، يعيش تجربة تسلطية بلا منافس، و هذا إن حقق بعض المكاسب
التافهة بالمعنى الهندسي/التكنوقراطي/الفرنكفوني، على المدى القريب فإنه كان، في
جوهره، يهدد ليس النظام السياسي فحسب و لكن الدولة بكاملها.
· على مستوى الهدف الثاني، نجح مهندسو القناطر و الطرقات
في عزل المغرب عن محيطه العربي و الإسلامي، طوال عقد كامل، و في المقابل تم تحويل
المغرب إلى سوق استهلاكية كبرى للبضائع الفرنسية، و إلى منجم كبير لتصدير المواد
الأولية و الأيدي العاملة الرخيصة. و بموازاة هذه الحركية الاقتصادية، تم رهن
مستقبل المغرب، استراتيجيا، بالقرار السياسي و الثقافي الفرنسي. و ذلك يبدو واضحا
من خلال قضيتين محوريتين: تربط أولاهما بقضية الصحراء التي تم ربطها بأهواء صانع
القرار الفرنسي يتلاعب بها كيفما يشاء، في علاقة بمصالحه الاقتصادية و السياسية، و
بالتالي أصبح المغرب رهينة لدى فرنسا تقايض دعمها لقضيتنا الوطنية الأولى في
المحافل الدولية بالمحافظة على مصالحها الإستراتيجية في المغرب. أما بخصوص القضية
الثانية، فيتعلق الأمر بتحول المغرب إلى الساحة الخلفية لفرنسا، على المستوى
الثقافي، و نحن نذكر هنا بالحضور اللافت للمغرب في منظمة الفرنكوفونية حيث كان
الوفد المغربي، في دفاعه عن التوجه الفرانكفوني في العالم، ملكيا أكثر من الملك
نفسه ! و هذا إن دل على
شيء فإنما يؤكد التبعية الثقافية التي عاشها المغرب، بشكل خطير جدا، للنموذج
الفرانكفوني مع ما رافق ذلك من تهميش للبعد الحضاري العربي الذي شكل تاريخ المغرب
لقرون عديدة .
-
عود على بدء
من القوة الثالثة إلى حزب التكنوقراط
الفرنكفوني، مسار طويل من التواطؤ ضد قيم الوطنية المغربية، في السياسة و الاقتصاد
و الثقافة، في أفق استئصالها و فسح المجال أمام قيم الاستعمار الجديد، الذي تجسده
الفرنكوفونية، من أجل صناعة حاضر المغرب و تشكيل مستقبله على المقاس الفرنسي .
إن النموذج
المغربي، الذي يعتبر امتدادا لحضارة الغرب الإسلامي، يجد نفسه، اليوم، في مواجهة
تحديات حضارية غير مسبوقة، ستكون لها، بالتأكيد، تداعيات خطيرة على مستقبل المغرب،
و لعل أخطر سيناريو يمكن تصوره، على المديين المتوسط و البعيد، هو اندثار مكونات
الهوية المغربية، في بعدها العربي الإسلامي، و ذلك في أفق صناعة نموذج فرنكو-مغربي
على شاكلة النماذج الفرنكو-إفريقية في إفريقيا جنوب الصحراء.
https://www.facebook.com/profile.php?id=100002430741367