ثقافـــة الاستـرزاق
: لحسن حمامة
خاص
لست
أدري، عندما أتأمل ما آلت إليه ثقافتنا من تسطيح و زيف و تعتيم، و من ادعاء بعض المثقفين
لنجومية صنعت لهم أو صنعوها لأنفسهم، لا عن طريق الكد و
الجد، بل بطرق أقل ما يقال
عنها أنها تنتمي لقاموس الاحتيال، إلا و تحضرني صور قديمة، حزينة و قاتمة، لمتسولين
- قهرهم الزمن - كانوا يصطفون قرب الباب الكبير
لمسجد الأندلس بفاس، خاصة صباحات الجمعة، تجد فيهم الأعرج و الكسيح و الأعور و الأحدب...
توحدهم الأسمال البالية المرقعة و الشعر الكث المغبر، فيهم من يتلو آيات القرآن بصوت
مرتفع أجش، و منهم من يحرك شفتيه و يتأرجح يمينا و يسارا أو خلفا و أماما، وفيهم من
يكرر الله حي ، الله حي، و منهم من يبدو لك
و كأنه ذاب و عانق الأعالي.
عندما تمتد يد بمكرمة إلى أحدهم تسري بينهم
نمنمة بعدها تنتقل المكرمة بسرعة من يد إلى يد لتستقر أخيرا في يد متسول أعمى عريض
المنكبين، غليظ الشفتين، مع حول في شفته العليا، راحة يده كالمذراة. تستكين عصا طويلة
و غليظة تحت فخذيه. يرفع الأعمى كفيه تتبعه الأكف الأخرى، و تنهمر الدعوات.
للمسجد خمسة أبواب، تجد قرب كل واحدة منها
مجموعة من المتسولين تتسول تقريبا بنفس الطريقة التي تتسول بها المجموعة الأولى. يتحكم
فيها و يسير شؤونها المتسول الأقوى، لنقل تجاوزا شيخهم أو مقدمهم.
في الأيام العادية تستعمل هذه المجموعات
طرقا أخرى للتسول، كل مجموعة تنتظم في صف طويل. تبدأ جولتها بأحد الأحياء، دقات عصيها
خطوات عسكرية. تقف أمام الدكاكين، تطرق أبواب المنازل، توقف المارة، طالبة الصدقات،
و أفواهها تلهج بالأمداح النبوية و بالقاموس
السحري للدعوات.
عندما أستعيد هذه الصور من ذاكرتي، و هي
صور اختزنتها منذ ستينيات القرن الماضي، إلا وتزاحمها صور حديثة لمثقفين معاصرين يتخذون
من الثقافة وسيلة للتسول، و ذلك بطرق أبواب مديري دواوين الوزارات والعمالات و البنوك
و رؤساء البلديات و قنصليات بلدان الخليج...مستعملين نفس الطرق، و إن اختلفت الوسائل وتوحدت الغايات.
- من هذه الطرق، نجد أن أشباه المثقفين ابتكروا
وسائل عجيبة و غريبة في التسول، فهم يطلبون منك علانية في الفايسبوك، أن تمنحهم
"جيم"، أو أن تتكرم عليهم بتعليق، أشباه المثقفين هؤلاء يريدون أن يصنعوا
من أنفسهم نجوما افتراضية، و أن يعيشوا و لو في الأوهام لحظة تفوقهم و اعتراف الآخر
بهم.
- مثقفون آخرون قدموا استقالتهم من هموم المواطن
وقضاياه الكبرى، و التصقوا بجدار الفايسبوك مظهرين صورهم، و صور أولياء نعمهم، و ما
قد يتوهمون أنهم قدموه من أعمال خالدات، كأن الزمن قد توقف عندما توقفوا، و أن لا إبداع
و لا ابتكار يمكن أن يتجاوز إبداعهم و ابتكارهم.
هم عادة يقتاتون بما يجود به بعض كرماء
الفايسبوك من جيمات و تعليقات، فيها الكثير من المبالغات، تضمد جراحات فشلهم و هروبهم
و تفوقهم المزعوم.
- المثقفون الشيوخ: عندما يشعر المثقف أو
يتوهم بأنه أصبح بحرا في المعرفة، وأنه يحيط بكل شاذة و فاذة في
المادة العلمية أو الفنية التي يشتغل عليها. و أن ما قام به من بحوث، و ما أضافه لهذه المادة، أو ما قدمه
للأدب و الفكر في المسرح و الرواية و القصة و الفلسفة و الاجتماع و التاريخ... لا يمكن
لأحد أن يتجاوزه. في تلك اللحظة تبدأ في التشكل
و التكون عقدة ما نصطلح عليه بعقدة المشيخة.
الشيخ
لا يمكن أن يصبح شيخا إلا بالمريدين. عندما يتفطن المتوهم لهذه الحقيقة، يبدأ في صنعهم و إنتاجهم. و المادة الخام هم الطلبة الذين يتابعون دراساتهم
أو يهيئون أطروحاتهم في الإجازة أو الماستر أوالدكتوراه.
ومن أبرزالتقنيات التي يستعملها شيخ المستقبل،
هي تقنية العصا و الجزرة. إذا أراد الطالب النجاح أو الحصول على الشهادة، عليه بالطاعة
و السخرة. تكرار هذه التقنية تفقد الطالب عزة النفس و كرامتها.. ومع مرور الوقت يصبح
أداة طيعة في يد الشيخ تماما كالعجينة يشكله حسب رغباته.
وأول ما يوحي به الشيخ لطلبته المدجنين،
أو مثقفي المستقبل هي الكتابة عن حياته و أعماله وإنجازاته الخارقة، وإذاك تكون الشهادة-
طبعا- مضمونة بميزة الاستحسان والامتياز مع توصية بالطبع، إذا كان ما كتبه عنه، فيه
رائحة الحرفية والصنعة.
كلما غرق الطالب (المريد) في الطاعة، إلا
و بحث له الشيخ عن بعض منافذ الوصول و التمكن، كأن يتسول له دعوات الحضور - المميزة
- لبعض المهرجانات و الندوات الفكرية و الورشات، سواء أقيمت داخل الوطن أو خارجه، مع
ضمان الإكراميات و الأغلفة المالية، و حجز غرف النوم في الفنادق المصنفة مع توابلها.
كل من حاول من المريدين أن يستفيق من الغيبوبة،
و يستعمل سلاح العقل و النقد، إلا و يقف له الشيخ بالمرصاد، مؤلبا عليه المريدين، مع
حرمانه من الامتيازات التي كان يتمتع بها، مع التشهير به و تبخيس قيمته مع
المثقفين و حتى في وسائل الاتصال.
الشيخ لا يعطي للمريد إلا الفتات. هذا الفتات
يتحول مع المدة إلى دعامة و ركيزة أساسية في حياته، يتلبسه خوف، و يعتقد أنه لو انقطع
عنه هذا الفتات فستنهار حياته و ستفقد بريقها، لأن هذا البريق الذي يتمتع به مستمد
من بريق فتات شيخه و سيده.
مع مرور الزمن، تضعف بكثير مناعة الكرامة
لدى المريدين، فيتحولون بدورهم إلى متسولين يجمعون الإكراميات و الأغلفة المالية من
ذوي السلطة و الجاه و النفوذ. أشطرهم يتحول في الغالب إلى شيخ، ليبدأ في صنع و إنتاج مريدين جددا.
هؤلاء الشيوخ هم أكبر أعداء التحول و الدينامية
الفكرية و النقدية، لاعتقادهم، وهما أو حقيقة، أن ما كتبوه و ما ألفوه هو نهاية النهايات،
و أن من سيأتي بعدهم، يكفيهم فخرا أنه سينكب على شرح و تفسير و توضيح أعمالهم،
و هم يؤمنون إيمانا قويا - لمصلحتهم طبعا -
بالفكرة الرجعية التي تقول، ليس في الإمكان أبدع مما كان.
- هناك نماذج أخرى من المثقفين توهمك، بأن
لهم مشروع ثقافي تاريخي، لكنه مع الأسف الشديد مشروع كسيح، إذ يوظفونه لأغراضهم الدنيئة،
يتحايلون عليك بالقول، بأنهم في عصر التكتلات، و بأن الفرد المفرد لا يستطيع لوحده
أن يواجه المشكلات الثقافية المعاصرة، لهذا فهم ينتظمون في مجموعات خاصة إما بالمسرح
أو القصة أو الرواية أو التاريخ أو الفلسفة...كل جماعة لا يتعدى عدد أفرادها الخمسة
أو السبعة، هم الجمع العام و هو في نفس الوقت المكتب.
وبمجرد الاعتراف الرسمي بالجمعية، تبدأ
حمى الاتصالات بالأفراد و الدوائر الرسمية، و بعث الرسائل إلى الجمعيات المشابهة داخل
و خارج الوطن، قصد الحصول على المنح و الدعم و عن كفيل سمين.
وللتوصل إلى هذا الدعم أو الكفيل أو المنحة،
لابد للمجموعة من أن تسلك طرقا أكاد أقول - و بدون تحفظ - طرق متسولين. وبعد الاستيلاء
على المنح و الدعم، و سرقة الكفيل، تبدأ مباشرة المشاكل المتفاقمة بسرعة داخل الجماعة. وتنتهي في أغلب الأحيان
بتوزيع الغنيمة فيما بين أفرادها، و ترك دار لقمان على حالها.
إلى الآن لا أعرف السبب الذي كلما تذكرت
متسولي تلك الحقبة الزمنية و ما بعدها، و طرق استجدائهم إلا و هجمت علي صور المثقفين
المعاصرين برابطات أعناقهم الأنيقة و بذلهم
المكوية بعناية، و هم يرابطون بأبواب الوزراء و الولاة و العمال و رؤساء البلديات و
الأبناك و القنصليات... فأقول مع نفسي و أتساءل: أنحن نعيش في مهرجان للصولد الثقافي،
يبيع فيه المثقف نفسه بأبخس الأثمان ؟.
الحقيقة أن هؤلاء
المثقفين، توحدهم مهادنة السلطة، و أحيانا الإشادة بأعمالها، مع الابتعاد عن الموضوعات
الحارقة، أو النبش في أسباب التسلط و الاستبداد و الفوارق الاجتماعية، و تسييد فقهاء
الظلام.
لهذه العوامل كلها أدعو المثقف أن يحدد
موقعه، إما أن يكون شبيها بالشاعر المزيف الذي يصفه علي العلاق.
شاعر ينبـح فـي
مزرعة السلطان:
قلب أسود النبض
و أذن صاغيــــة
أو شبيها بالشاعر
الأصيل الذي يقول عنه:
شاعر يغسله الحلـم
يغني: أنحني للعشب
لا للطاغيـــــة